فى خضم التوترات الحالية التى تمر بها لبنان نتيجة الصراع بين حزب الله وإسرائيل، تحاول فرنسا لعب دور سياسى ودبلوماسى فى إطار علاقتها التاريخية التى تربطها بلبنان منذ نهاية الانتداب الفرنسى فى عام 1946، حيث اعتبرت فرنسا نفسها الراعية والحامية للبلد ولكن مع ذلك فقد أصبحت محاولات فرنسا للتدخل فى لبنان تتسم بالضعف. وأحد أبرز التحديات التى تواجهها للعب دور فعال فى الصراع بين حزب الله وإسرائيل هو النفوذ الأمريكى الجوهرى فى المنطقة إذ تقف الولايات المتحدة دائما إلى جانب إسرائيل مما يجعل تأثير فرنسا محدودا.([1])
وبالتالى، فإن الموقف الفرنسى فيما يخص الصراع الحالى بين حزب الله وإسرائيل يعكس ضعف تأثيرها النسبى مقارنة بالقوى العالمية الأخرى وخاصةً الولايات المتحدة، فبالرغم من محاولات فرنسا للعب دور وسيط بين الطرفين من خلال دعوة إسرائيل إلى ضبط النفس وتقديم مساعدات إنسانية للبنان بقيمة عشرة ملايين يورو إلا أن هذه الجهود لا ترقى إلى مستوى الجهود الفعالة لوقف التصعيد أو فرض هدنة حقيقية.([2])
تحديات متجددة:
على الرغم من التحديات التى تواجهها فرنسا إلا أن هناك تغييرا ملحوظا فى اللهجة الفرنسية حيث كانت تميل دائما إلى دعم إسرائيل فى الصراعات الإقليمية، ولكن مع تصاعد الصراع فى لبنان والخشية من تحوله إلى حرب شاملة بدأت فرنسا فى اعتماد لغة أكثر توازنا حيث أصبح استقرار لبنان أولوية ملحة واستراتيجية بالنسبة لفرنسا ليس فقط بسبب الروابط التاريخية، ولكن أيضا بسبب الجالية الفرنسية الكبيرة المقيمة هناك.([3])
وفى إطار ذلك التغيير أطلقت فرنسا والولايات المتحدة مبادرة مشتركة لوقف إطلاق النار لمدة 21 يوما على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، ولكن جاء هذا التحرك بعد قصف مكثف من جانب إسرائيل أدى إلى مقتل وتشريد ونزوح آلاف اللبنانيين([4])، كما صرح الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون من خلال مؤتمر باريس الذى عقد يوم 24 أكتوبر 2024 بأن استمرارية الصراع فى لبنان يمكن أن تؤدى إلى تدمير كامل لمقومات الدولة اللبنانية مما يعمق من الفراغ السياسى الذى تعانى منه لبنان.([5]) وعلى هذا الأساس أكد ماكرون أنه يسعى إلى توفير دعم إنسانى ضخم للبنان ودعم الجيش اللبنانى كهيكل أساسى يساهم فى تحقيق الاستقرار فى ظل الشلل السياسى الحالى من خلال إمداده بمساعدات تصل إلى 200 مليون دولار، وفى هذا السياق وجه أيضا ماكرون خطابا شديد اللهجة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو من خلال وصفه لما ترتكبه إسرائيل فى لبنان بـ"البربرية". وبالتالى، يمكن القول إن فرنسا تتبع نهجا براجماتيا يسعى إلى تقليص التأثيرات السلبية للاشتباكات الدائرة على الأراضى اللبنانية، من خلال خلق توازن عسكرى يمُكن الجيش اللبنانى من بسط سيطرته على أراضيه ويقلل من نفوذ حزب الله الذى تعتبره إسرائيل تهديدا مباشرا لأمنها وذلك وسط تصعيد ملحوظ فى الخطاب الفرنسى تجاه إسرائيل.([6])
والجدير بالذكر أن حزب الله يواجه تحديا غير مسبوق فى ظل تصاعد الأزمة مع إسرائيل حيث يتعرض الحزب إلى ضغوط متزايدة للحفاظ على قدرته على الردع، وفى الوقت ذاته تجنب الانخراط فى حرب شاملة التى قد تؤدى إلى نتائج وخيمة على لبنان وتضعف من سيطرة الحزب داخليا. وبالتالى، يعكس ذلك أزمة هيكلية لحزب الله حيث لا يملك سوى خيارات محدودة بين الاستمرار فى صراعه الإقليمى ضد إسرائيلى وبين الحفاظ على استقرار لبنان الداخلى.([7])
يواجه الحزب أيضاً انتقادات وتذمر شعبى حتى من حلفائه التقليديين مثل الرئيس اللبنانى السابق ميشال عون حيث يرى الكثيرون أن الحزب أصبح يشكل عبئاً على لبنان بعدما قرر فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل دعماً لحماس واعتبار تلك الخطوة "مغامرة" غير محسوبة كان لها نتائج سلبية على الشعب اللبنانى.([8]) ولكن هذا لا ينفى أن الحزب لا يزال مدعوما من بعض الفصائل والجماعات اللبنانية وخصوصا تنظيم "قوات الفجر"، الذراع العسكرية للجماعة الإسلامية السنية فى لبنان والذى أعلن عن دعمه وانخراطه العسكرى جنبا إلى جنب مع حزب الله فى الصراع ضد إسرائيل.([9])
وإضافةً إلى ذلك، يواجه الحزب أيضا مستقبلا غير محسوم، حيث يعد اغتيال حسن نصرالله ضربة قاسية للحزب تعد الأسوأ فى تاريخه وتركت الحزب فى حالة فراغ لا يمكن ملؤه بسهولة، وخصوصا أن نصر الله تمكن من الحفاظ على وحدة الحزب وتماسكه عبر أزمات خطيرة بدأت منذ انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005، حيث أدى ذلك الانسحاب إلى فرض سيطرة الحزب على الحياة السياسية بشكل أكثر قوة وهو ما خلق توترا فى النظام الطائفى اللبناني([10]).
ولكن رغم الخسائر الجسيمة ومع استنزاف أغلب القيادات المركزية للحزب، أظهر الحزب قدرته على الاستمرار فى القتال ومواصلة عملياته العسكرية حيث تشير التقارير إلى أن الحزب يحتفظ بترسانة ضخمة تضم نحو 200 ألف صاروخ.([11]) إلا أن الحزب قد يواجه تحديا حقيقيا إذا تراجع الدعم الإيرانى، إذ تواجه إيران ضغوطات متزايدة حاليا على مختلف الأصعدة تجعل تمويل الحزب أمرا محفوفا بالمخاطر([12]) وبالتالى تتصاعد الأسئلة حول مصير الحزب ومسار توجهاته المستقبلية.
سيناريوهات اليوم التالي:
وفى هذا السياق تتجلى عدة سيناريوهات للدور الفرنسى فى حال انتهاء العمليات العسكرية بين إسرائيل وحزب الله، فالسيناريو الأول يشمل مساعى فرنسا إلى إعادة تشكيل النظام السياسى اللبنانى من خلال تقليص دور حزب الله فى معادلة النظام وإدماجه فى مؤسسات الدولة وبالتالى، يُنزع سلاحه ويُسلم إلى الجيش اللبنانى. وفى ذلك الإطار تسعى فرنسا إلى إعادة هيكلة الجيش وزيادة أعداده وتعزيز قدراته بحيث يصبح القوة المسلحة الرئيسية فى لبنان ويستبدل قوة حزب الله العسكرية، وذلك إعمالا لقرار مجلس الأمن الدولى رقم 1701 الذى يسعى إلى كبح أنشطة ووجود حزب الله جنوب نهر الليطانى واستبدال الجيش به.([13]) وهو السيناريو المُرجح حيث تعرض حزب الله إلى انتقادات هائلة وفقد جزءا كبيرا من شعبيته عقب انخراطه فى الصراع مع إسرائيل.
وأما السيناريو الثانى هو السيناريو الأقرب حال رفض حزب الله تسليم سلاحه، حيث تتجه فرنسا إلى اتباع نهج أكثر صرامة يستهدف تقويض نفوذ حزب الله عبر الضغط السياسى والعزل الدولى، ويتضمن ذلك الدعوة إلى فرض عقوبات دولية مشددة على الحزب، بالإضافة إلى ذلك قد تعمل فرنسا بالشراكة مع دول الاتحاد الأوروبى على الضغط على إيران للحد من دعمها العسكرى واللوجستى للحزب.
وفى كل الأحوال أصبح مصير حزب الله الآن مرتبطا ليس فقط باستمرارية بنيته العسكرية بل أيضا بقدرته على التكيف مع المتغيرات ومواجهة التحديات الإقليمية والدولية التى تعيد تشكيل موازين القوى فى المنطقة، وما يزيد المشهد تعقدا هو قيام إسرائيل بالرد العسكرى على إيران يوم 26 أكتوبر 2024 حيث استهدفت إسرائيل منشآت تصنيع الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوى الإيرانية، وهو ما يعكس استراتيجية تستهدف تحييد قدرات إيران العسكرية مما قد يحد من قدرتها على دعم حزب الله.([14])
الهوامش: