فى أواخر أكتوبر 2024 شهدت شبه الجزيرة الكورية بعضًا من عدم الاستقرار نتيجة مناوشات كلامية وتهديدات متبادلة بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. منذ بداية الحرب الكورية فى 1950، بدأ نوع من الحرب النفسية بين الكوريتين، واعتمدت هذه الحرب النفسية على إلقاء المنشورات بين الجانبين، كل منهما يحاول أن يروج لنفسه ويضعف الآخر، واستمرت هذه الأداة بعد انتهاء الحرب من قبل كوريا الجنوبية، ثم ورثتها مؤسسات المجتمع المدنى فى كوريا الجنوبية لإرسال عدة منشورات لرفع وعى الشعب الشمالى للدعوة للديمقراطية، بجانب بعض البضائع التكنولوجية والطعام والأدوية غير الموجودة فى كوريا الشمالية.([1]) وفى الشهور الماضية تصاعدت التطورات الخاصة بالحرب النفسية بعد أن تم فى مايو 2024 إلغاء قانون الجنوب الذى تم التصديق عليه فى 2020، والذى كان يمنع المواطنين الجنوبيين من إرسال بالونات للشمال فى سياق تعاونى بين الرئيس الجنوبى مون جاى إين والزعيم الشمالى كيم جونج أون.([2]) الحرب النفسية بين الكوريتين هى قضية مركزية فى تحليل الصراع الكورى، ولكن من المؤكد أن صعود أو هبوط تلك الحرب النفسية يعد مؤشرًا لحدة الصراع المبطن بين الكوريتين. لذلك يجب التساؤل حول أبعاد هذا التصعيد فى الشهور الأخيرة، فالبالونات مجرد قشرة لتوترات أعمق تحدث فى المنطقة.
يعد مفهوم الوحدة مفهومًا حاكما فى فهم السياسة الخارجية للكوريتين. الدولتان تريان الوحدة كهدف حتمى يجب الوصول إليه. ولكن استخدامه يختلف من وقت لآخر، فوقت التوترات إما ينفى الأطراف رغبتهم فى تلك الوحدة، أو أن الطريق لها هو القوة العسكرية، وفى أوقات السلام يعتبر الطرفان أن التعاون بداية للوحدة. وفى هذا نرى الشد والجذب عمومًا بين الكوريتين.([3])
فى هذا السياق، وفى الفترة القصير السابقة، بدأ الصراع الكورى يأخذ منعطفا جديدا، إن لم يكن بشكل مباشر، ولكنه جزء لا يمكن فصله من اتجاه الصراع العام بين الشمال والجنوب ومن ورائه الولايات المتحدة الأمريكية. حيث إن كوريا الشمالية وسعت النطاق لأبعد من المناوشات فى القارة الكورية إلى مسرح الحرب الأوكرانية دعمًا لروسيا فى حربها. وفكرة توسيع النطاق لخارج الحدود هو منعطف جديد فى هذا الصراع يجب تحليله.
السياسة الخارجية الكورية.. عودة التوترات:
منذ انتهاء الحرب الكورية فى بداية الخمسينيات، لم يتم العمل على عملية بناء سلام بين الكوريتين بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار فى يوليو 1953. وبهذا، ورغم تأرجح العلاقات الكورية الشمالية والجنوبية بين الصراع والسلام، فعلى مدار السبعين عاما الفائتة تخيم العدائية على المناخ العام للعلاقات الكورية. ويمكن استنتاج أن الصراع لم يتجاوز سياسات الحرب الباردة التى تعتمد على تحريك الفاعل الشمالى والجنوبى من قبل قوة أكبر، أو لو لم تحسب كتحريك فإن التفاعلات الكورية تدور فى فلك القوى الكبرى، لعدم تجاوز الصراع هذه المرحلة من الصراع.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن التحدث عن كوريا الشمالية كرد فعل لتغير السياسة الجنوبية. حيث لم يعد كيم جونج أون إلى سياسته العنيفة إلا بعد تولى يون سوك يول رئاسة كوريا الجنوبية، واتجاهه اتجاها مختلفا وأكثر صدامية عن سابقه، باعتبار أن من 2017 إلى 2022 وهى فترة إين، كانت الكوريتان فى حالة من السلام والاحتواء باتباع كوريا الجنوبية سياسة الشمس المشرقة التى تعمل على زيادة التواصل والتعاون بين الكوريتين.([4])
منذ تولى يون سوك يول رئاسة كوريا الجنوبية فى 2022، يمكن ملاحظة تدهور العلاقات بين الكوريتين. على عكس مون جاى إين، يول ينتهج مسارًا أكثر تصادمية تجاه كوريا الشمالية. فكان إين يعتمد على الاتفاقات([5]) مع الجزء الشمالى، وكان لهذه السياسة أثرها فى احتواء الخطر الشمالى.([6]) على العكس، فإن الحاكم الشعبوى يول يفهم جيدًا التوترات داخل المشهد السياسى الكورى الجنوبى. مع صعود التيار القومى والمحافظ بشكل أكبر فى الداخل، وتلك التيارات التى انتقدت سياسة إين الخارجية نحو كوريا بشدة، وتركيزها على الحفاظ على الأمن القومى للجنوب الكورى.([7]) بجانب تحول الرأى العام فى كوريا الجنوبية وميل الشعب نحو أهمية الخروج من المظلة الأمنية الأمريكية، والاعتماد الذاتى فى مجال الأمن عن طريق امتلاك قوة نووية، خاصةً بعد حرب أوكرانيا التى أثبتت أن الحماية الأمريكية ليست رادعة بشكل كامل لجميع أشكال العدوان. من وجهة النظر الأمنية نفسها، يمكن تناول رؤية يول، حيث إن كوريا الجنوبية تقع فى المنتصف بين عدة قوى نووية وهى كوريا الشمالية والصين. وتنامى الاهتمام بامتلاك قنبلة نووية كورية جنوبية، ولكن كوريا الجنوبية مقيدة باتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية، مما لم يضع لها خيارا سوى تقوية التحالف مع الولايات المتحدة وحلفائها بدلًا من بناء مشروع نووى.([8]) مما جعل يول يتجه إلى سياسة أكثر عنفًا نحو كوريا الشمالية، من خلال اعتبار الشمال أنه العدو الأساسى، بجانب التقارب من اليابان، حيث كان يول أول رئيس يزور اليابان منذ 2010 بعد فترة من العلاقات المتوترة.([9])،([10])
من الواضح أن نمط العلاقات الكورية يتغير اتجاهًا وقوةً حسب توجه الرئيس الكورى الجنوبى. فالانتقال من إين إلى يول تغير معه اتجاه السياسة الخارجية الجنوبية من احتواء كوريا الشمالية عن طريق العلاقات السلمية مع عدم التركيز على العلاقات مع أمريكا واليابان، إلى عكس ذلك بتوجه صدامى للشمال والتركيز على التحالفات مع الغرب. وهذا بالتالى أدى حالة الغليان بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية إلى توسع فى رقعة الصراع - غير المباشر بنسبة كبيرة - بعيدًا عن شبه الجزيرة الكورية.
كان من الطبيعى أن يكون التغيير فى سياسة كوريا الشمالية متوافقًا مع الجنوب. ففى الجزء الثانى من 2022، بدأت كوريا الشمالية بتوسيع نطاق تجارب الصواريخ الخاصة بها لتتجاوز الحدود البحرية مع الجنوب للمرة الأولى([11])، بجانب العديد من التهديدات واستعراضات القوة فى شبه الجزيرة الكورية.([12]) وكانت كوريا الجنوبية ترد تلك التهديدات والمناوشات بأنشطة عسكرية إما منفردة أو مع الولايات المتحدة.([13])
وكانت النقطة الفارقة فى 2023، عندما قررت كوريا الشمالية الانسحاب من الاتفاق العسكرى بين الكوريتين الموقع فى 2018، حيث هدد الجنوب بالانسحاب الجزئى بسبب خرق الشمال للمنطقة ممنوعة الطيران وفقًا للاتفاق بعد إطلاق قمر صناعى فى أواخر 2023، فقام الشمال بالانسحاب بشكل كامل فى يناير 2023.([14]) وفى يونيو 2024، انسحبت من الاتفاق كوريا الجنوبية بشكل كامل بعد إرسال كوريا الشمالية بالونات للجنوب تحمل مخلفات بشرية وصناعية.([15]) وعلى مدار هذه السنة، أخذت العلاقات الكورية تتصاعد حتى وصلت إلى قمتها بقيام كوريا الشمالية بالتوسع بمنطقة الصراع خارج شبه الجزيرة.
الضغط والخروج عن المنطقة:
الوضع يوحى أن كوريا الشمالية يتم الضغط عليها من الخارج ومن الداخل. نرى المشكلة الرئيسية هى العقوبات المالية المفروضة عليها من قبل الأمم المتحدة والتى بدأت منذ عام 2006 بعد أول تجربة نووية، وأخذت تتجدد وتتوسع من عام 2006 إلى 2017 لتضع حظرا على استيراد كوريا الشمالية للعديد من البضائع الزراعية واستيراد البترول والأسلحة وغيرها.([16]) بجانب العديد من العقوبات المفروضة فرديًا من أمريكا والاتحاد الأوروبى والتى وضعت الشعب الكورى الشمالى فى وضع صعب إنسانيًا ووضعت الحاكم الكورى الشمالى فى وضع أصعب سياسيًا.([17]) وعلى الجانب الآخر، فى رأى كيم جونج أون، لا يستطيع التغاضى عن مصروفاته العسكرية لأنها قوته العسكرية هى السبيل الوحيد لاستمرار حكمه واستمرار وجود دولته فى المنطقة.([18]) ولكن على الجانب الآخر، تشير الإحصاءات أنه كان نحو 60% من شعب الشمال يعيش فى فقر مدقع ولا يستطيعون توفير احتياجاتهم الأساسية من طعام وملبس ومسكن.([19])
لذلك كان يجب لكيم أن يفكر خارج الحدود لحل الأزمة وإيجاد الميزان بين أهمية حفظ الصناعة العسكرية، والوقوف أمام كوريا الجنوبية والغرب، ومساعدة شعبه - وهم ثلاث محددات للسياسة الخارجية الكورية الشمالية - وظهر هذا التفكير فى صعود لتعاون كامل مع روسيا على جميع الجهات، عسكرى، واقتصادى، وسياسى، وهى شراكة تعود للخمسينيات واستمرت طوال الحرب الباردة وورثت روسيا البوتينية تلك العلاقة منذ أن تولى بوتين قيادة روسيا عام 2000.([20])
منذ بداية جائحة كورونا فى 2020، اتسمت العلاقات الروسية - الكورية الشمالية بالخمول الشديد بعد غلق الحدود.([21]) ولكن فى يونيو 2024، وقعت روسيا وكوريا الشمالية شراكة استراتيجية كاملة، ولكن يعود الدعم والتعاون إلى قبل ذلك بكثير، ويمكن التركيز على الفترة منذ بداية الحرب فى أوكرانيا. سياسيًا، دعمت كوريا الشمالية روسيا داخل أروقة الجمعية العامة فى كل مرة تصدر الجمعية قرارًا ضد روسيا سواء إدانة الهجوم أو الاعتراف بالأراضى التى ضمتها روسيا، بالإضافة إلى ذلك كانت كوريا الشمالية من الدول القليلة التى اعترفت بجمهوريتى دونيتسك ولوهانسك الجديدتين.([22]) على الجانب الآخر، دعمت روسيا كوريا الشمالية فى مجلس الأمن فى ثلاث خطوات آخرهم وأهمهم استخدام حق الفيتو لتفكيك نظام العقوبات، من خلال عدم التجديد لفريق الخبراء المسئول عن مراقبة العقوبات، فى يوليو الفائت.([23]) وهى محاولة من كلتا الدولتين لتفكيك بعض القيود عن الأخرى أو دعم الأخرى بشكل أو بآخر.
أما عسكريًا واستراتيجيًا، منذ بدء الحرب مع أوكرانيا كانت كوريا الشمالية من أوائل الداعمين لروسيا عسكريًا، حيث أرسلت كوريا العديد من المعدات العسكرية إلى الجبهة الروسية لمواجهة القوات الأوكرانية.([24]) وأخذ التعاون يزداد وينمو طوال فترة الحرب حتى الشهور الأخيرة حين انتقل الدعم الكورى لمستوى أكبر. فكان آخر خطوة أن كوريا الشمالية أرسلت نحو ثلاث آلاف جندى كورى شمالى إلى روسيا، وتخطط لإرسال عشرة آلاف آخرين، وهو أكبر تدخل عسكرى لشمال كوريا خارج الإقليم.([25]) فى المقابل، وفى محاولة لحل الأزمة الاقتصادية فى الشمال الكورى، أخذت روسيا فى إرسال بضائع غذائية لشمال كوريا وهو ما يساعد على تحليل التوجه والتشابك فى السياسات الخارجية لكل الفاعلين فى هذه الصراعات.
تفكيك الحاضر وسيناريوهات المستقبل:
هناك عدة خطوط متشابكة يجب التفرقة بينها. أولاً، التغير فى السياسة الخارجية الكورية الشمالية جاء تزامنا مع الفراغ الذى تركه التغير فى السياسة الخارجية الجنوبية تجاه كوريا الشمالية. وبهذا أصبح الوضع فى صناعة القرار الكورى الشمالى متأزما، فى محاولة للموازنة بين التوترات الجديدة التى قد تطرأ على المنطقة والتى تحتاج بالتالى للحفاظ على القوة العسكرية الموجودة، وهذه القوة العسكرية متطلب آخر لضمان ولاء الشعب، وهذه القوة تحتاج لتكاليف التى ستؤثر بالتالى على توفير الخدمات الأساسية للشعب، مع وجود الأزمة الغذائية الطبيعية فى كوريا الشمالية. وبالتالى كان يجب على كوريا الشمالية الخروج من المأزق السياسى الداخلى.
ثانيا، سياسة إين فى كوريا الجنوبية كانت تعتمد على التقارب مع كوريا الشمالية وفى نفس الوقت الابتعاد قليلاً عن العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة والغرب. وبالتالى كان هذا النهج يحجم التدخل الغربى فى الشأن الكورى الشمالى. ولكن مع انعكاس الاستراتيجية، ومع العداء الذى يكنه الجانب الكورى الشمالى نحو الغرب وخاصة مع اشتداد العقوبات الاقتصادية والتجارية التى أزمت من الوضع الاقتصادى فى كوريا الشمالية. بالتالى كان يجب الخروج لأحد الحليفين الرئيسيين فى السياسة الخارجية الكورية وهما الصين أو روسيا.
ثالثا، لماذا روسيا وليس الصين؟ بدايةً من ناحية الصين، فالصين لن تريد التعاون مع كوريا الشمالية بالقدر الكبير التى تحتاجه كوريا نفسها فى هذا الوقت، حتى لا يؤثر هذا على العلاقات الصينية-الأمريكية المتوترة بالفعل. وهذا ظهر فى موقف الصين. ومن ناحية أخرى، فإن الوقت الذى بدأ فيه التغيير فى سياسة كوريا الشمالية، كان الوقت نفسه الذى بدأت فيه الحرب الروسية-الأوكرانية فى أوائل 2022، مما جعل هناك مساحة مناورة بين كوريا الشمالية وروسيا. حيث إن كوريا الشمالية استفادت من إنتاجها الحربى لتصدر لروسيا وتسانده فى الحرب، وعلى الناحية الأخرى أن تستفيد من الإنتاج الغذائى لروسيا فى حل الأزمة الغذائية. مثل تلك الفرصة، لم تكن لتجدها كوريا فى النسيج الخارجى للصين. فاستغلت كوريا الحرب فى أوكرانيا مساحة للمناورة. بالإضافة إلى التحالف التاريخى بين روسيا وكوريا الشمالية التى استخدمته كوريا الشمالية وعملت عليه منذ 2022. بجانب ذلك، روسيا هى أكبر فرصة يمكن أن تستفيد منها كوريا الشمالية للوقوف أمام الغرب وخاصة فيما يتعلق بقضايا العقوبات الاقتصادية.
ختاما، يزداد مشهد الحرب الأوكرانية تعقيدًا وخاصةً مع التقدم الذى تحرزه أوكرانيا على روسيا، مما يجعل روسيا تفكر فى الاستفادة من الشراكات الموجودة بالفعل ومحاولة ضرب الغرب من جهات غير مباشرة. والأرجح أن التحالف الروسى-الكورى الشمالى يزداد قوة وهو ما يلقى الضوء والتساؤل حول موقف الصين من التقارب الروسى-الكورى، وموقف كوريا الجنوبية والغرب، بالإضافة إلى النقاط التى يختلف فيها الحليفان فى أوقات معينة، وإلى أى مدى ستستفيد كوريا الشمالية من ذلك التحالف أكثر من مجرد توريدات الغذاء. كل ذلك يجاوب عليه مجرى الأحداث فى مناطق أوراسيا وشرق آسيا.
الهوامش:
)[1](Jin-Heon Jung, Ballooning Evangelism: Psychological Warfare and Christianity in the Divided Korea (Göttingen: Max Planck Institute for the Study of Religious and Ethnic Diversity, 2014),https://www.mmg.mpg.de/61146/wp-14-07.