تلعب القاهرة دورا محوريا فى صياغة معادلة التوازنات الإفريقية، عبر اضطلاعها بمجموعة من المسئوليات، ترى فيها حتمية وواجبا أكثر منه مجرد دور محورى، والحقيقة أن اهتمام القاهرة بالقارة السمراء، يأتى فى إطارين: الأول بالقارة ككل وعبر التعاطى مع تحدياتها والوقوف على معالجتها، والآخر من خلال الاستجابة لإشكاليات الداخل الوطنى لدول القارة السمراء، ومن ثم دعم التعاون والتنسيق على كافة المستويات سياسية، اقتصادية، وعسكرية، وثقافية، وجميعها تحركات تحرص مصر عليها رغبة فى صياغة توازنات إفريقية، تتحرك بالقارة وتنميتها وبما يحفظ مواردها ويتغلب على تحدياتها من جانب، وفى الوقت نفسه تحفظ سيادة دولها وتراعى مصالحها ومصالح شعوبها من جانب آخر.
مصر والقارة الإفريقية:
تربط مصر وإفريقيا شراكة استرتيجية على المستويين السياسي والاقتصادى، وتتمتعان بدعم سياسي متبادل، يبرز جيدا فى تبنى وجهات النظر المشتركة حيال عدد من القضايا الإقليمية والدولية، ولعل الدور الإفريقي تجاه القضية الفلسطينية، يأتى تكملة للدور المصرى وتأييدا ودعما لقناعات وتوجهات القاهرة، أيضا التمثيل الدبلوماسي المتبادل والزيارات على المستويات الرفيعة، واقتصاديا تدفع مصر باتجاه تحقيق التكامل الاقتصادى الإفريقي، عبر إنجاز منطقة التجارة الحرة الإفريقية ويتوقع تخفيض التعريفات الجمركية على أكثر من 90% من السلع الاسترتيجية والمتبادلة بين دول القارة، ما يسهل تداولها وسهولة حركتها، ومن ثم تشكيل أكبر منطقة حرة إفريقيا وتعزيز التجارة البينية، خصوصا أن نسب هذه النوعية من المؤشرات الاقتصادية القارية منخفضة مقارنة بحجم مواردها، حيث تبلغ معدلات التجارة البينية بين دولها ما يقارب 22%، وتعمل مصر من خلال المساهمة فى إعداد أجهزة إفريقية معاونة وممهدة لمنطقة حرة، وأبرزها الجماعة الاقتصادية الإفريقية والاتحاد النقدى الإفريقي، وإن أشاد البنك الدولى بالنتائج الإيجابية والمنتظرة جراء التكامل الإفريقي، وبما يخلق الملايين من فرص العمل لأبناء القارة، وانتشال أكثر من 40 مليون مواطن إفريقي من دائرة الفقر، طبعا مع توقعات بزيادة الدخول وارتفاع مستويات المعيشة، أيضا من خلال محفزات الصناعات ورفع الصادرات، وانفتاح الأسواق الإفريقية على الأسواق الأوروبية والآسيوية، وهنا توازن جديد ترعاه مصر بحكم رياديتها على المستويين الإقليمي والدولى، حيث تعمل على مساعدة القارة فى حفظ مواردها بما يعود بالنفع على أبنائها، دون عودة لآليات الاحتلال أو استغلال مواردها، ذلك من خلال وجود القاهرة بالأجهزة الدولية والأممية، وتبنى الطموح الإفريقي وتدويل مطالبه، وعن العائد المصرى جراء الانفتاح الإفريقي، فمن المستهدف فتح الطريق أمام الصادرات المصرية وبما يعادل 100 مليار دولار، أيضا ارتفاع حجم التبادل التجارى بين مصر وإفريقيا، عقب تسجيله 7 مليارات لعام 2022، وهو ما يحتاج إلى دفعة قوية، بالمقابل تسهيل الحصول على الموارد الإفريقية من مواد خام وبدون تعريفات مرتفعة.
لا زالت إفريقيا تعانى عددا من التحديات المزمنة، وإن عُد تصاعد نفوذ الجماعات الإرهابية والمسلحة فى مقدمة هذه التحديات، إلا أن تحدى المياه، اعتبر الأساس المهدد للأمن القومى الإفريقي، وهو ما تبلور كنتيجة طبيعية للتغيرات المناخية مع انخفاض مستويات المياه الجوفية، أيضا الاحتياجات الزراعية، وبحسب المنظمات الدولية سواء الأمم المتحدة أو منظمة الصحة العالمية تعانى إفريقيا ندرة المياه، خصوصا جنوب الصحراء ومناطق الشمال، أما دول القرن الأفريقى فتعانى انعداما يذكر لأمنها المائى كإثيوبيا، وإريتريا، وجيبوتى، وجزر القمر، وأيضا السودان، والصومال، وتتعاطى القاهرة مع الموقف عبر عدد من الآليات أقربها، أسبوع القاهرة السابع للمياه والذى عقد منذ أيام وتناول مجموعة محاور مهمة تعلقت بحوكمة المياه المشتركة، وإدارة مواردها مع ابتكار تمويل حلول الأمن المائى، والأهم العمل على تكيف المياه، وبما يضمن تحقيق الطموحات المائية لإفريقيا.
غير أن تنامى نفوذ الجماعات الإرهابية بالقارة السمراء عُد أيضا ضمن التحديات المجهِضة لعمليات التنمية والتقدم، خصوصا الجماعات المتمركزة فى بوركينافاسو، ومالى، والنيجر، وربما غياب استقرار النظم السياسية الفعالة، مع استحداث أجهزة ما يعرف بالجيوش الموازية، أضف أيضا كثرة الانقلابات السياسية، مع ضعف الحراك السياسي للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى، والأقسي تراجع الأوضاع الاقتصادية وانخفاض مستويات المعيشة، جميعها عوامل دفعت باتجاه بروز الإرهاب وظواهره، ما انعكس أيضا على أجيال بأكملها تعانى ضعف القدرات التعليمية والمهارات بجانب تغلغل الفكر المتطرف.
وربما تركز دور القاهرة هنا فى دعم الشعوب الإفريقية، من خلال مساعدة النظم على تجاوز فترات التحول الديمقراطى، وتداعيات عمليات الانفعال السياسي، وهنا تحركت مصر فى إطارين: الأول ساهمت فى إعداد مراكز مكافحة الفكر مع استقبال الراغبين فى الحصول على دورات التنمية وحفظ السلام، والإطار الآخر والأهم هو دور مصر والذى تلعبه من خلال دورها بمجلس السلم والأمن الإفريقي، أيضا دورها بمجلس الأمن، فطالما تبنت الملفات الإفريقية وطالبت من أجل معالجتها، وبما تماشى ومستهدفات هذه النوعية من المجالس الإقليمية والدولية، من حيث تعزيز السلام والأمن فى إفريقيا، مع مناهضة النزاعات والدفع بأنشطة التنمية، أيضا تنسيق الجهود الرامية إلى مكافحة تنامى الجماعات المسلحة، إلى جانب صياغة أطر الحكم الرشيد وسيادة القانون وغيرها من مفاهيم النظم السياسية الديمقراطية والمعاصرة.
مصر والداخل الوطنى للدول الإفريقية:
تحرص مصر فى هذا الصدد تحديدا، أى الداخل الوطنى للدول الإفريقية بشكل عام، على التعاطى من خلال استمرار فعاليتها فى إحداث التوازنات الحقيقية عبر حماية مصالح الشعوب ودعم تنميتها من جانب، وبين مراعاة سيادة الدول وعدم التدخل فى شئونها الداخلية من جانب آخر، وهو ما يتماشي والأعراف الدبلوماسية المصرية ومبادئ خارجيتها، غير أن تزايد إشكاليات الداخل الوطنى الإفريقي استدعى بروز الدور المصرى، وهو ما لم تتأخر القاهرة عنه، خصوصا تصاعد حدة الانفعالات السياسية، أيضا بروز نفوذ قوى بعينها على حساب قوى أخرى، ولعل زيارة الرئيس الأخيرة إلى إريتريا، عقب دعوة رسمية من الرئيس الإريترى إسياس أفورقى، والقمة الثلاثية والتى جمعته ونظيريه الإريترى والصومالى حسن شيخ محمود، خرجت بمجموعة من التوصيات، كفيلة بتحجيم التحديات الإفريقية والوقوف بها عند نسبة، كونها أيضا تطرقت إلى معظم القضايا الملتهبة بالداخل الوطنى لمعظم الدول الإفريقية.
وربما فعالية هذه التوصيات تمثلت بشكل قوى فى امتثالها لمبادئ وركائز القانون الدولى، حيث أكد رؤساء الدول الثلاث على ضرورة الالتزام بالمبادئ والركائز الأساسية للقانون الدولي، باعتبارها الأسس للاستقرار والتعاون، وأيضا التصدي للتدخلات في الشئون الداخلية لدول المنطقة تحت أي ذريعة أو مُبرر، وتنسيق الجهود المشتركة لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وخلق مناخ مواتٍ للتنمية المُشتركة والمُستدامة، مع تطوير وتعميق التعاون والتنسيق بين الدول الثلاث من أجل تعزيز إمكانات مؤسسات الدولة الصومالية لمواجهة مختلف التحديات الداخلية والخارجية، وتمكين الجيش الفيدرالي الصومالي الوطني من التصدي للإرهاب بكافة صوره، وحماية حدوده البرية والبحرية وصيانة وحدة أراضيه، بحسب ما جاء بالهيئة العامة للاستعلامات، حيث يستهدف الدور المصرى فى الصومال بالأساس استقرار شعبه ووحدة أراضيه والأهم حفظ سيادة البلد الشقيق، مع تقديم المساعدات لمجابهة العوامل الطبيعة الصحراوية القاسية، وفى ضوء التحديات الخارجية التى يشهدها، غير أن تحركات القاهرة من أجل دعم مقديشيو سياسيا، وعسكريا، وثقافيا، تأتى فى سياقات العلاقات الوطيدة والتاريخية بين الجانبين، وما ترتب عليها من رغبة مصرية حقيقية فى مواصلة المساهمة فى دعم الصومال ومؤسساتها التنفيذية والتشريعية، والأهم تدعيم أواصر التعاون وعلى المستويات كافة، سياسية، واقتصادية، وعسكرية، ومجتمعية، وثقافية، أيضا التنسيق والتشاور تجاه الملفات الإقليمية والدولية، وعلى نحو يتطلب تكثيف التبادل الدبلوماسي والزيارات على المستوى الرفيع، وجميعها بروتوكولات تحرص الدبلوماسية المصرية على إجرائها، وفى إطار مسئولياتها تجاه الأشقاء، كما تمت الإشارة أعلاه.
لم يغب السودان وداخله المشتعل عن الأولويات المصرية، خصوصا أن مصر لها خبرة وباع فى التعاطى مع السودان وأزماته، فمنذ اندلاع الحرب إبريل 2024، ودأبت القاهرة على استضافة كافة الأطراف الفاعلة فى المشهد السودانى، ناهيك عن استقبال عدد يذكر من اللاجئين، أيضا تناول قضايا الأمن وتحديات الحرب الأهلية الدائرة، سيما ما تعلق ومفاوضات وقف إطلاق النار، وصياغة معادلة سياسية تجمع كافة الأطراف، والأهم مراعاة البعد الإنسانى وفى ضوء نزوح الملايين وتعرضهم لمخاطر الأمراض والمجاعات.
ختاما، يمكن الجزم بأن الدبلوماسية المصرية تجاه إفريقيا، أجادت صياغة توازنات مهمة عُدت كفيلة بتحجيم تداعيات الالتهابات الإفريقية والتى تزايدت مؤخرا، سواء بإفريقيا كقارة أو بالداخل الوطنى للدول الإفريقية، وهو ما توازى جيدا ومراعاة واضحة لمبادئ وأسس الدبلوماسية الناضجة.
رابط دائم: