بعد مرور أكثر من عام على اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، اتسعت رقعة الصراع وأصبح تحقيق السلام واستعادة استقرار الشرق الأوسط تحديا كبيرا في ظل الظروف الراهنة؛ فقد دخلت المنطقة في مرحلة جديدة من التصعيد، وحتى الآن لم تنجح جهود التهدئة ولا تزال المنطقة تواجه تصعيدات وتعقيدات غير مسبوقة يوما بعد يوم حتى بات المشهد مقلقا وأصبحت الحرب الإقليمية الشاملة هي السيناريو الأقرب للتحقيق خاصة مع التطورات الأخيرة التي تعقد فرص السلام، وتعنت الجانب الإسرائيلي واستمرار المجازر التي يرتكبها في حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية والتي امتدت لجنوب لبنان، وتبادل التهديدات والهجمات الصاروخية بين إسرائيل وإيران، بالإضافة إلى سلسلة الاغتيالات التي بدأتها إسرائيل لتصفية قادة الأذرع الإيرانية في المنطقة واحدًا تلو الآخر والتي انتهت باغتيال قائد حركة حماس "يحيى السنوار" منذ أيام قليلة مضت ليعلن بعدها "نتنياهو" بداية نهاية الحرب، لكن هل ستنهتي الحرب بالفعل؟
تغيير موازين القوى في المنطقة:
يقع الشرق الأوسط حاليا بين شقي الرحى، فلا يخفى علينا أن الصراع الإسرائيلي- الإيراني هو العامل الرئيسي في زعزعة استقرار المنطقة وإطالة أمد الحرب؛ حيث تعتبر إسرائيل تطوير إيران لبرنامجها النووي ودعمها المادي والعسكري للفصائل المسلحة كحماس وحزب الله تهديدا وجوديا لها، في المقابل تسعى إيران لتوسيع نفوذها وتعزيز قدراتها العسكرية والنووية لمواجهة النفوذ الإسرائيلي وتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط.
وبناء على ذلك كانت أحداث السابع من أكتوبر 2023 بمثابة الضوء الأخضر الذي أعطى لإسرائيل الإشارة لبدء تحقيق رغباتها وأهدافها في المنطقة، واعتبرتها إسرائيل فرصة ذهبية للقضاء على حماس وحزب الله والحوثيين وتأمين حدودها والتخلص من كل ما يهدد وجودها ويقف عائقا أمام تنفيذ مخططاتها، وأعانها على ذلك الدعم الأمريكي والغربي غير المشروط وغياب المساءلة الدولية وازدواجية المعايير وتغاضي المجتمع الدولي عن مجازر وجرائم جيش الاحتلال، مما سمح لهم بالتمادي في انتهاك القانون الدولي الإنساني وسفك دماء آلاف الأبرياء من أبناء الشعبين الفلسطيني واللبناني، ونتيجة تضارب الرغبات الإيرانية والإسرائيلية في المنطقة تحول الشرق الأوسط إلى كتلة لهب تنذر باندلاع حرب إقليمية شاملة.
ومع ذلك، فإن تصارع الأطراف الإقليمية ليس وحده السبب في تعقيد المشهد الحالي، فلا يمكن إنكار حقيقة وجود أطراف دولية أخرى تساهم بشكل كبير في تأزم وضع الشرق الأوسط، أي إن الصراع ليس بين إسرائيل وحماس أو الأذرع الإيرانية في المنطقة فقط، بل إنه صراع معقد يحمل في طياته أبعادا إقليمية ودولية أخرى.
الشرق الأوسط مسرح للصراع الدولي بالوكالة:
يعد الشرق الأوسط نموذجا مصغرا للعالم ؛ فلا توجد منطقة في العالم بأكمله تشهد تدخلات خارجية وأحداث متشابكة كالتي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ؛ فهي ليست منطقة صراع إقليمي بين الأطراف الإقليمية فحسب، بل مسرح للصراع الدولي بالوكالة بين القوى الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية التي تدعم الكيان الإسرائيلي من جهة، والصين وروسيا اللتين تدعمان كل ما يعارض ويعكر صفو الولايات المتحدة من جهة أخرى.
تتعدد مصالح القوى الدولية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط وتسعى كل دولة منهما لحماية مصالحها الاقتصادية والعسكرية والأمنية فيها، لكن شهدت السنوات الأخيرة تحولات ملحوظة في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وروسيا فيما يتعلق بوجودهم في المنطقة ؛ حيث قررت الولايات المتحدة التراجع وعدم الاعتماد على التدخل العسكري المباشر في الشرق الأوسط، وتوجيه قدراتها للحفاظ على الهيمنة العالمية عسكريا واقتصاديا، ومواجهة الصعود الروسي والصيني، وبدلا من ذلك قررت الوجود بشكل غير مباشر عن طريق دعم حليفتها وطفلتها المدللة "إسرائيل" عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا لتحقيق مصالحها في المنطقة وتهذيب إيران التي تشكل تهديدا لهما ؛ حيث تشترك الأهداف الأمريكية مع الأهداف الإسرائيلية نظرا لاعتبارات أمنية واقتصادية وتاريخية متعددة، ويفسر ذلك ازدواجية المعايير التي تتعامل بها الولايات المتحدة ؛حيث تلعب دور الوسيط وتطالب بالتهدئة في الوقت نفسه الذي تقدم فيه الدعم الكامل لحليفتها " إسرائيل " وتستخدم حق النقض (الفيتو) ضد قرارات تعتبرها معادية لإسرائيل، بينما تتغاضى عن الجرائم البشعة التي يقوم بها جيش الاحتلال في حق الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني، لذلك تتحمل الولايات المتحدة مسئولية إنهاء الحرب ووقف إطلاق النار؛ فهي أول دولة معنية بالضغط على إسرائيل.
من جهة أخرى، عندما قررت الولايات المتحدة التراجع والانسحاب من الشرق الأوسط، قررت روسيا الوجود بقوة في المنطقة، وسعت لتعزيز علاقاتها مع إيران وتقديم الدعم للفلسطينيين وعبرت عن رفضها للجرائم الإسرائيلية؛ فتسعى روسيا دائما لانتقاد كل ما هو أمريكي وتركز على تقديم نفسها كبديل للولايات المتحدة كوسيلة لتعزيز مكانتها كقوى عظمى تنافس الولايات المتحدة، أما الصين فهي تركز على تعزيز وجودها عن طريق الاستثمارات الاقتصادية مع الدول العربية، وترفض استخدام العنف والهجمات التي تسفك دماء المدنيين، وترفض الهيمنة الأمريكية وتسعى للتقارب مع روسيا لمواجهة النفوذ الأمريكي وخلق نظام عالمي متوازن، لكن بشكل عام تتبنى الصين سياسة عدم الانخراط والتدخل في شئون الدول، مما يجعلها تلعب دورًا أقل في الأزمات مقارنة بالولايات المتحدة وروسيا، لذلك يتضح أن الشرق الأوسط يعتبر مسرحا لتنافس القوى العالمية الكبرى على الهيمنة ويعكس حالة الاستقطاب الدولي التي يتسم بها المشهد السياسي العالمي.
الجهود المصرية لإحلال السلام في الشرق الأوسط:
منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على غزة حذرت مصر مرارا من المشهد الذي نعيشه الآن؛ فالشرق الأوسط حاليا بصدد حرب إقليمية شاملة تهدد أمن واستقرار المنطقة، فلا تنوي إسرائيل إنهاء الحرب إلا إذا حققت أهدافها ومخططاتها بالقضاء على الفصائل المسلحة المدعومة من الأطراف الإقليمية الأخرى والتي تهدد وجود الكيان الصهيوني، كما تتطلع إلى تنفيذ مخطط التهجير القسري للفلسطينيين والتخلص من كل العقبات التي تعترض طريق السلام بالنسبة لإسرائيل، لكن لا سبيل لإحلال السلام إلا بالتسوية العادلة والشاملة للقضية، ولن تنعم إسرائيل بالسلام الذي تسعى إليه إلا باحتواء الموقف ورد الحقوق لأصحابها والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في أرضه، فحذرت مصر مرارا من التصعيدات العسكرية والأمنية في المنطقة، وحذرت من التداعيات المحتملة للحرب واتساع رقعة الصراع لتشمل المنطقة كلها، وتفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة إذا لم يتم احتواء الموقف وإيقاف إطلاق النار، ودعت إلى تسوية القضية بطريقة سلمية شاملة وعادلة والاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية والعودة إلى حدود 1967، فتحمل مصر على عاتقها مسئولية القضية الفلسطينية أمام المجتمع الدولي وفي جميع المحافل الدولية والإقليمية منذ بداية القضية ؛ نظرا لكونها الدولة الأكثر دراية بملف القضية، والأكثر قدرة على لعب دور الوسيط في مفاوضات وقف إطلاق النار والتهدئة بين حماس وإسرائيل منذ بدء الحرب؛ باعتبارها من الدول القليلة التي لها القدرة على الاتصال المباشر بجميع أطراف الصراع؛ فتسعى دائما لوضع حماس وإسرائيل على طاولة المفاوضات لوقف إطلاق النار، وتقدم المساعدات الإنسانية والطبية للشعب الفلسطيني، وترفض وقف الكيان الصهيوني للمساعدات وحصار وتجويع النساء والأطفال، وتطالب باستجابة دولية عاجلة لضمان وصول المساعدات اللازمة وتخفيف المعاناة عن المدنيين ووقف الإبادة الجماعية، لكن الغطرسة الإسرائيلية دائما ما تقف عائقا أمام جهود تحقيق السلام في المنطقة، وتتعمد خلق وضع إنساني خطير ومعقد في غزة.
تسعى مصر إلى تسوية القضية الفلسطينية تسوية شاملة وعادلة نظرا لعدة اعتبارات، فمن جهة تسعى للحفاظ على حق الشعب الفلسطيني كما ذكرت سابقا، ومن جهة أخرى تعتبر القضية مسألة أمن قومي ؛ حيث تدرك مصر أن إسرائيل تهدف إلى تنفيذ مخطط التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية إلى مصر والأردن، لكن مصر رفضت المخطط الإسرائيلي وحذرت من المساس بأمنها القومي أو محاولة العبث معها، فهي تعي تماما خطورة الموقف سواء فيما يتعلق بتصفية القضية الفلسطينية ككل وضياع حق الشعب الفلسطيني، أو فيما يتعلق بأمنها القومي وسلامة أراضيها وضرورة حمايتها من تدخلات الأطراف الإقليمية، أو من محاولات التنظيمات التي تتاجر بالقضية الفلسطينية لكسب التعاطف لمنع تحقيق أي أهداف تحمل نوايا سيئة دفينة في المستقبل.
ونظرا لخطورة الوضع الإقليمي، تستمر مصر في التمسك بدورها لمنع المنطقة من الانزلاق في حرب لا يمكن التنبؤ بنتائجها، فتمثل جهود إرساء السلام جزءا أساسيا من السياسة الخارجية المصرية، لذلك تتواصل مصر دائما مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية، وتتولى التنسيق مع الدول العربية لتوحيد الموقف العربي تجاه الحرب، وتتواصل مع القوى العالمية الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا من أجل التهدئة وإحلال الأمن والسلم الدوليين، ولم تتوقف عن نداءاتها الدولية وتصريحاتها الرسمية ومطالباتها للمجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل ومعاقبتها رغم إصرار المجتمع الدولي على السكوت عن أفعال الكيان الصهيوني، فقد أظهرت تلك الحرب الغاشمة حقيقة المجتمع الدولي العاجز وكشفت عن التحديات السياسية والأخلاقية والكيل بمكيالين وازدواجية المعايير التي يعاني منها العالم والمنظمات الدولية التي قامت على مبادئ مزعومة لا أساس لها والتي لطالما رفعت الشعارات الرنانة ونادت بالسلام وحماية حقوق الإنسان، لكن أظهر تغاضيها عن جرائم جيش الاحتلال بعدها كل البعد عن مبادئ القانون الدولي الإنساني وقيامها كليا على مبدأ واحد فقط هو مبدأ حماية المصالح وليس حفظ السلم والأمن الدوليين وحماية حقوق الإنسان.
ولكن يبقى السؤال، هل ستنتهي الحرب قريبا؟
نحن الآن أمام سيناريوهين، الأول هو أن الحرب بالفعل توشك على الانتهاء وما نشهده حاليا هو بداية نهاية الحرب، خاصة بعد سلسلة الاغتيالات التي قامت بها إسرائيل والتي انتهت باغتيال " يحيى السنوار " قائد حركة حماس والرأس المدبر لهجوم السابع من أكتوبر كما تصفه إسرائيل، وما تبقى هو بعض العمليات التي ستستأنفها إسرائيل ضد فصائل المقاومة على نطاق أضيق، لكن في الحقيقة نحن لسنا أمام حرب بين إسرائيل وفصائل المقاومة بل لتلك الحرب أبعاد أخرى تتعلق بأطراف دولية وإقليمية كبرى تلعب دورًا أساسيًا في الحرب، وأصبح انتظار دخول الشرق الأوسط في حرب إقليمية شاملة سيناريو قابلًا للتحقيق، كما أن ملف عودة الأسرى لا يزال مفتوحًا ولم تتمكن إسرائيل من الوصول لأسراها بعد مرور أكثر من عام على الحرب، وحتى الآن لم تتمكن من تنفيذ مخطط التهجير القسري للفلسطينيين إلى مصر والأردن، بالإضافة إلى أنه إذا كانت إسرائيل تنوي إنهاء الحرب على الوضع الحالي لاستجابت لجهود الوساطة واستمعت إلى صوت العقل وفتحت قنوات للحوار والتفاوض لتجنب الخسائر الفادحة التي تكبدتها نتيجة دخولها في حرب طويلة، ولكن إسرائيل تسعى إلى تحقيق أهداف أعمق من الانتقام من حماس بعد أحداث السابع من أكتوبر، ولكانت قد استجابت لمقترحات القوى الداعمة لها التي لعبت دور حمامة السلام وطالبت بإيقاف الحرب وفتح مسارات التفاوض، لكن العالم كله يعلم أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تملك أوراق الضغط على إسرائيل لإنهاء الحرب، ولو كانت ترغب فعليًا في وقف تلك الحرب لتوقفت الحرب منذ فترة، مما يعني أن الحرب لا تزال مستمرة ولن تتوقف حتى تحقق إسرائيل مساعيها وأهدافها في المنطقة وتتمكن من القضاء على حماس وحزب والله وكل ما يقف عائقا أمام مخططاتها ويهدد وجودها، فهذه الحرب بلا شك هي حرب أمن وجودي لإسرائيل، لكنها لن تنعم بالسلام الذي تتمناه إلا بالتوصل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف ويرد الحقوق لأصحابها؛ فلا سلام إلا بتسوية عادلة وشاملة للقضية.