"جز العشب": قراءة فى استراتيجيات وتكتيكات التصعيد الإسرائيلي
7-10-2024

رانيا سليمان سعد الدين
* باحثة دكتوراه فى العلاقات الدولية

تُعد الصراعات التى تخوضها إسرائيل فى كل من غزة ولبنان جزءًا معقدًا من الصراع المستمر فى الشرق الأوسط منذ عقود؛ إذ تطورت الاستراتيجيات والتكتيكات الإسرائيلية خلالها استجابة للتحديات المتغيرة والدروس المستفادة من النزاعات السابقة، ويستعرض هذا المقال تطور الاستراتيجيات الإسرائيلية منذ حرب 2006 مع حزب الله، وصولًا إلى التصعيد الحالى الذى بدأ فى أكتوبر 2023، مع تناول تأثير تلك الصراعات على العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية والجهود الأمريكية لمنع تصاعد النزاع.

تطور التكتيكات الإسرائيلية من حرب 2006 حتى الآن:

فى حرب 2006 مع حزب الله، استخدمت إسرائيل تكتيكات تعتمد بشكل كبير على القوة الجوية والتكنولوجيا المتقدمة، والتى تعتمد بالأساس على استهداف البنية التحتية من خلال شن غارات على الطرق والجسور والمطارات فى لبنان، فضلًا عن العمليات الجوية المكثفة، والتى تم خلالها استخدام طائرات حربية متطورة لتدمير صواريخ حزب الله بعيدة المدى، وكذلك الضغط على المدنيين لإجبارهم على النزوح، ومع ذلك لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها الاستراتيجية بالكامل؛ حيث أظهر حزب الله قدرة كبيرة على المقاومة واستمرارية الهجمات الصاروخية على شمال إسرائيل([1]).

أما فى التصعيد الحالي، فيبدو أن إسرائيل قد طورت استراتيجيتها بناءً على الدروس المستفادة من حرب 2006؛ حيث ركزت بالأساس على استخدام الطائرات المسيرة، وأنظمة الأسلحة المتطورة لضرب أهداف محددة بدقة عالية، مع استهداف البنية التحتية العسكرية لحماس وحزب الله، فضلًا عن إتباع بعض أدوات الحرب النفسية لاستنزاف معنويات الخصم من خلال إظهار القوة العسكرية والتفوق التكنولوجي، وكذلك استخدام تقنيات متقدمة للتجسس والتشويش لتقليل المعلومات المتاحة للخصم، بالإضافة إلى ضرب منظومة القيادة والسيطرة، وهو ما اتضح فى تدمير شبكات الاتصالات واستهداف القيادات العليا لحزب الله([2]).

هناك عدد من المؤشرات التى تعكس مظاهر التغير فى المواجهة بين إسرائيل وحزب الله، ومنها: ضرب منظومة القيادة والسيطرة لحزب الله؛ لإحداث عملية شلل وخلل فى الجماعة، وكان هناك نمط انتقائى لضرب حلقة القيادة العليا فى المجلس العسكرى لحزب الله، وهى أيضًا عملية تعكس مستوى متقدما لما يُعرف بـ"حرب الظل"؛ إذ إن أغلب القيادات الذين تم استهدافهم لم يكونوا معروفين، لا فى الدائرة الأوسع لحزب الله ولا فى المجال العام اللبناني، بل إن أغلبهم كان على قائمة المطلوبين للولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية عمليات استهداف السفارة والقوات الأمريكية فى مرحلة الثمانينيات([3]).

كما أن عقيدة إسرائيل فى استخدام القوة أصبحت أكثر تدميرًا كما اتضح فى حرب غزة والتصعيد فى لبنان، وهو أحد دروس حرب 2006، كما أن إسرائيل حاليًا تبدو أقل اهتمامًا بسمعتها الدولية مما كانت عليه فى عام 2006؛ حيث إنه بعد مقتل عشرات الآلاف من المدنيين فى غزة، فإن قتل المزيد من المدنيين فى لبنان لن يزيد الأمر سوءًا على الأرجح([4]).

الاستراتيجية الإسرائيلية الكبرى "جز العشب":

تتمثل الاستراتيجية الكبرى لإسرائيل فيما يُعرف باسم "جز العشب"، والتى تعكس إدراكًا عميقًا للمخاطر المرتبطة بإسقاط الجماعات المسلحة، مثل حماس وحزب الله بشكل كامل، فوفقًا لتلك الاستراتيجية تقبل إسرائيل بواقع عدم القدرة على القضاء على هذه الجماعات بشكل نهائي؛ لذا تعتمد على استهداف قادة تلك الجماعات بشكل دورى لمنع تصاعد العنف، مع استخدام القوة الكافية لردع هذه الجماعات دون الإطاحة بالنظام القائم بالكامل، ومع ذلك تواجه إسرائيل معضلة استراتيجية فى كيفية استخدام القوة بشكل فعال دون التسبب فى عواقب غير مرغوب فيها([5]).

واتبعت إسرائيل تلك الاستراتيجية لإدراكها أنه لا يمكنها إسقاط حماس دون المخاطرة باحتمالية بزوغ منظمة أكثر تطرفًا لحكم غزة، فضلًا عن عدم رغبة إسرائيل تولى مسئولية حكم غزة فى ظل فراغ السلطة فى مرحلة ما بعد الصراع([6]).

هذا، وقد وضعت إسرائيل عددا من الأهداف الرئيسية فى التصعيد الحالى الذى بدأ فى أكتوبر 2023، والمتمثلة فى القضاء التام على كل من حركة حماس وجماعة حزب الله، وتحرير الأسرى المحتجزين لدى حماس، واستعادة ثقة المواطنين الإسرائيليين فى حكومتهم، فضلًا عن إعادة بناء قوة الردع الإسرائيلية، ولتحقيق تلك الأهداف، لجأ الجيش الإسرائيلى إلى استخدام القوة النارية الهائلة والضربات العشوائية، مما أدى إلى خسائر كبيرة فى صفوف المدنيين وأثار إدانات عالمية واسعة([7]).

تأثير التصعيد الحالى على العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية:

بالرغم من استمرار واشنطن فى تقديم الدعم العسكرى والسياسى لإسرائيل، فإنها تعارض أى عمليات برية كبيرة، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والضغوط المحلية والدولية على إدارة "بايدن" للضغط على إسرائيل لوقف العمليات العسكرية فى غزة ولبنان(.([8]

وتُشير بعض التقديرات إلى أن الخلافات القائمة بين الإدارة الأمريكية وإسرائيل حول معالجة القضية الفلسطينية والتهديد الإيراني، قد تزداد تعقيدًا مع استمرار التصعيد العسكري، فضلًا عن مساعى الحكومة الإسرائيلية لاستغلال الوضع الحالى لتعزيز موقفها واستعادة ثقة المواطنين بها قُبيل الانتخابات الأمريكية)[9]).

ففى حال فوز "كامالا هاريس" فقد تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى الالتزام بمجموعة جديدة من الشروط التى وضعتها إدارة "بايدن"، أما إذا فاز "دونالد ترامب" مرة أخرى فقد يجد "نتنياهو" نفسه فى موقف أقوى مما رآه منذ سنوات، وفى جميع الأحوال فترة ما قبل الانتخابات تضع "نتنياهو" فى موقع القوة والثقة([10]).

وفى هذا الإطار، تعمل واشنطن على تقديم بعض المبادرات لوقف إطلاق النار، مثل الاقتراح الأخير بوقف إطلاق النار لمدة 21 يومًا فى لبنان([11])، وتعزيز الاتصالات مع جميع الأطراف المعنية للتهدئة، وهو ما يجب أن يقترن بجعل الدعم العسكرى المقدم لإسرائيل مشروطًا بتجنب التصعيد غير الضروري(.([12]

رؤية مستقبلية:

يرى بعض المحللين أن إسرائيل قد وقعت فى فخ استراتيجى خطير؛ حيث حققت نجاحات ميدانية تكتيكية لكنها عجزت عن تحقيق أهداف حاسمة([13])، فضلًا عن أنه بالرغم من الخسائر الكبيرة التى تكبدها حزب الله، فإنه لا يزال يمتلك قدرات عسكرية كبيرة، بما فى ذلك صواريخ دقيقة قادرة على ضرب أى منشأة استراتيجية فى إسرائيل)[14]).

وفى هذا السياق، تُشير بعض التقديرات إلى احتمالية استمرار إسرائيل فى تنفيذ استراتيجية "جز العشب" مع محاولة تحقيق أهداف محددة دون الدخول فى حرب شاملة([15])، مع الأخذ فى الاعتبار أنه فى حال فشل جهود التهدئة أو حدوث تصعيد كبير من قبل حزب الله أو حماس، قد تندلع حرب إقليمية شاملة تشمل إيران([16])، ومع ذلك يرى مراقبون أنه فى حال نشوب حرب شاملة فقد تواجه إسرائيل الوضع ذاته الذى واجهته فى 2006؛ حيث فشلت فى تحقيق أهدافها المتمثلة فى تحرير الأسرى وسحق حزب الله عسكريًا([17]).

هذا، وتُشير بعض التقديرات إلى أن العمليات القتالية التقليدية فى غزة ستتوقف بحلول أوائل شتاء عام 2025 ومنتصف الربيع، مع استمرار عمليات مكافحة الإرهاب إلى أجل غير مسمى لحين تضع إسرائيل خطة لمعالجة الأمن الطويل الأمد، والمساعدات الإنسانية، وإعادة الإعمار فى غزة([18]).

وعلى الجانب الآخر، تُشير بعض التحليلات إلى أنه مع تزايد الضغوط الدولية والداخلية، قد تضطر الأطراف المتنازعة للجلوس على طاولة المفاوضات للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار طويل الأمد، خاصة إذا تم ربطه بحل سياسى أوسع للقضية الفلسطينية، ودعم جهود إعادة الإعمار، وذلك فى ضوء احتمال أن تتجه حسابات إسرائيل إلى استغلال رغبة إيران فى إبرام صفقة مع واشنطن؛ لإضعاف حزب الله حاليًا، كما قد يُراهن حزب الله على فرص أخرى للتهدئة وذلك من خلال الاتجاه إلى الداخل اللبنانى ومحاولة حلحلة الأزمات السياسية الداخلية، مثل الفراغ الرئاسي، أو التجاوب مع المبعوث الأمريكي([19]).

وتجدر الإشارة إلى أن التغييرات السياسية فى إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية قد تؤدى إلى تحول كبير فى السياسات تجاه الصراع؛ حيث إن التغيير فى القيادة الإسرائيلية قد يفتح الباب لمقاربة جديدة للتعامل مع حماس وحزب الله(.([20]

ختاما:

تعكس الصراعات الإسرائيلية مع حماس وحزب الله تعقيدات الصراع المستمر فى الشرق الأوسط؛ حيث إن التطور فى الاستراتيجيات والتكتيكات لكل من إسرائيل وحزب الله يظهر محاولة مستمرة للتكيف مع التحديات المتغيرة، ويكشف كذلك عن حدود القوة العسكرية فى حل النزاعات طويلة الأمد، كما أن قدرة الجماعات المسلحة، مثل حماس وحزب الله على الصمود والتكيف تشير إلى الحاجة إلى مقاربة أكثر شمولية للتعامل مع الصراع.

وتجدر الإشارة إلى أنه فى غياب استراتيجية دبلوماسية، فإن استمرار إسرائيل فى ضرب حماس وحزب الله، على الرغم من فائدته السياسية لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، فإنه لن يعالج الأزمة الحالية؛ حيث إن اعتماد إسرائيل على الأداة العسكرية وحدها لن يجعلها أكثر أمنًا بل قد يعرضها إلى مزيد من المواجهات مع الجماعات المسلحة لعقود من الزمان([21]).

ويتطلب فهم هذه الديناميكيات المعقدة توازنًا دقيقًا بين الاعتبارات العسكرية والسياسية والإنسانية، مع الأخذ فى الاعتبار التأثيرات الإقليمية والدولية للصراع المستمر، وفى هذا الإطار يبقى دور المجتمع الدولى محوريًا فى تشكيل مسار الأحداث المستقبلية، وهو ما يستدعى توافر رؤية طويلة الأمد لتحقيق السلام والازدهار المستدامين فى المنطقة، خصوصًا وأن تكلفة الصراع لا تقتصر على احتمال اندلاع حرب إقليمية فحسب، بل تشمل أيضًا تعميق المعاناة الإنسانية بشكل عام، وذلك فى ضوء المواجهات المستمرة والتى أودت بحياة الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين حتى الآن([22]).

المراجع:


[1]Steve Niva, Drawing the Wrong Lessons from Israel’s 2006 War, MERIP, May 2010, Accessed October 6, 2024, https://bit.ly/4eUAHcn

[2]أحمد عليبة، نقطة الغليان: كيف تغير نمط "الحرب الثالثة" بين إسرائيل وحزب الله اللبناني؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 27 سبتمبر 2024، تاريخ الدخول 5 أكتوبر 2024، https://bit.ly/3ZSqcCc

[3]المرجع السابق.

[4]Daniel Byman, Lessons from Israel’s Last War in Lebanon, CSIS, October 2, 2024, Accessed October 5, 2024, https://bit.ly/4eQCMGv

[5]Raphael S. Cohen and others, Lessons from Israel's Wars in Gaza, Rand Corporation, Oct 18, 2017, Accessed October 6, 2024,https://bit.ly/3zLFaPY

[6]Ibid.

[7]زهير حمداني، 10 أشهر من الحرب على غزة.. تكتيكات المقاومة تفاقم تخبط إسرائيل، الجزيرة، 7 أغسطس 2024، تاريخ الدخول: 6 أكتوبر 2024،https://bit.ly/3Ne0QY0

[8]-------، التصعيد فى لبنان.. موقف أميركى حذر وجهود لمنع حرب شاملة، الحرة، 24 سبتمبر 2024، تاريخ الدخول 5 أكتوبر 2024، https://bit.ly/3TXUTCu

[9]سعيد عكاشة، حرب غزة وتأثيرها على العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 21 يناير 2024، تاريخ الدخول 6 أكتوبر 2024، https://bit.ly/4dCA6vd

[10]Boyd Wagner, How long of a shadow is the Middle East conflict casting on the US election?, euronews, October 4, 2024, Accessed Octoer 6, 2024, https://bit.ly/3XYsltw

[11]----------، فرنسا والولايات المتحدة تقدمان مبادرة لوقف إطلاق النار لمدة 21 يوما فى لبنان، فرانس 24، 26 سبتمبر 2024، تاريخ الدخول 5 أكتوبر 2024، https://bit.ly/3TZCGo1

[12]Daniel Byman and others, Escalating to War between Israel, Hezbollah, and Iran, CSIS, October 4, 2024, Accessed October 6, 2024, https://bit.ly/3XNi9Uw

[13]زهير حمداني، 10 أشهر من الحرب على غزة.. تكتيكات المقاومة تفاقم تخبط إسرائيل، مرجع سابق.

[14]Daniel Byman, Lessons from Israel’s Last War in Lebanon, CSIS, Op.cit.

[15]شيماء منير، حسابات إسرائيل تجاه الحرب المحتملة مع حزب الله، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 6 يوليو 2024، تاريخ الدخول 6 أكتوبر 2024، https://bit.ly/3zZJKdg

[16]Amanda Taub, What Game Theory Tells Us About the Threat of an Israel-Iran War, The New York Times, October 4, 2024, Accessed October 6, 2024, https://bit.ly/3YdVceI

[17]كارين طربيه، كيف تغيّر حزب الله منذ حربه مع إسرائيل عام 2006؟، بى بى سى عربية، 2 أغسطس 2024، تاريخ الدخول 6 أكتوبر 2024، https://bit.ly/4dB4VQR

[18]--------, A Year After the October 7 Start of the Israel-Hamas Conflict: Q&A with RAND Experts, RAND Corporation, October 4, 2024, Accessed October 6, 2024, https://bit.ly/3ZRAHWs

[19]أحمد عليبة، نقطة الغليان: كيف تغير نمط "الحرب الثالثة" بين إسرائيل وحزب الله اللبناني؟، مرجع سابق.

[20]Yossi Mekelberg, Israel’s wars have sustained the destructive leadership which brought it to this crisis, Chatham House, October3, 2024, Accessed October6, 2024, https://bit.ly/3BAQj6M

[21]Bilal Y. Saab, Neither Iran nor Israel will win in this fight, Chatham House, Neither Iran nor Israel will win in this fight, October 2, 2024, Accessed October 6, 2024, https://bit.ly/4eP94S8

[22]Julien Barnes-Dacey and Hugh Lovatt, After Nasrallah: Ways to de-escalate the burgeoning Middle East conflict, ECFR, September 30, 2024, Accessed October 6, 2024, https://bit.ly/4exwxYm


رابط دائم: