ماذا بعد حادث التفجير الأخير فى لبنان؟..السيناريوهات المفتوحة
18-9-2024

د. معالى لطفى سالم
* باحثة فى العلوم السياسية

تأتي الانفجارات الأخيرة التي وقعت، بأجهزة الاتصال "بيجر"" (pager) ، التي يستخدمها عاملون في وحدات، ومؤسسات حزب الله اللبناني، وما أسفرت عنه من قتلى وجرحى، وإصابة سفير إيران في لبنان، مجتبى أماني جراء هجوم إسرائيلي سيبراني استهدف لبنان وسوريا لتزيد من التوتر الحاصل بين الحزب وإسرائيل.

    وقد أثار الهجوم السيبراني المعقد بتفجير إسرائيل أجهزة اتصال محمولة "البيجر" لحزب الله تساؤلات عن طريقة تنفيذ العملية، وكيف تمكنت من اختراق هذه الأجهزة، هل فجرتها عن بعد أم إن الأجهزة كانت ملغمة مسبقاً؟

و«البيجر» هي أجهزة لاسلكية صغيرة كانت تُستخدم بشكل شائع قبل انتشار الهواتف المحمولة لإرسال واستقبال رسائل نصية قصيرة أو تنبيهات، وعملها يعتمد على إرسال إشارات عبر الشبكات اللاسلكية، وكانت تستخدم بشكل رئيسي في المستشفيات، والشركات، وأحيانًا للأفراد

الهجوم يتزامن مع تهديدات إسرائيل بشن حرب برية على لبنان، بينما تملك إسرائيل تاريخا باستخدام تقنيات تجسس متطورة، مثل برنامج "بيغاسوس" (Pegasus)الذي أثار جدلا عالميا بسبب انتهاكات حقوق الإنسان.

    وهناك ثلاثة سيناريوهات محتملة للعملية: اختراق أنظمة "البيجر" عبر هجوم سيبراني، أو استغلال ثغرة أمنية للتحكم عن بعد، أو أن الأجهزة كانت ملغمة مسبقًا وتم تفجيرها.

الأول، احتمال وقوع هجوم سيبراني متطور عبر اختراق أنظمة تشغيل أجهزة "البيجر" وتسبب في خفض أو زيادة الطاقة المخزنة في بطاريات الليثيوم مما أدى إلى انفجارها.وتجدر الإشارة إلى أن أجهزة "البيجر" تعتمد على تقنيات قديمة، كانت مشهورة في تسعينيات القرن الماضي، ولا تنتمي إلى جيل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية المربوطة بالأقمار الصناعية لتسهيل علمية الاختراق "التهكير".وأجهزة البيجر تعتمد تقنية إرسال رسائل نصية مشفرة ومصممة لمنع الاختراق أو التنصت على الاتصالات.

والاحتمال الآخر، هو استغلال ثغرة أمنية في البرامج الثابتة لهذه الأجهزة، والتي تسمح لطرف خارجي بالتحكم فيها عن بعد وجعلها تعمل بشكل غير طبيعي إلى حد الانفجار.

واحتمال ثالث وهو الأكثر ترجيحًا، قد تكون هذه الأجهزة ملغمة مسبقًا وتم تفجيرها عن بعد، خاصة أن الحزب استوردها منذ أشهر وليس سنوات.ومن الممكن أن تكون هذه الأجهزة مزروعة بداخلها مكونات مصممة للانفجار عن بعد.

وبعد هذا الحادث ازداد طرح التساؤل هل تبقى المواجهة بين إسرائيل وحزب الله ضمن قواعد الاشتباك أم تتطور لتصبح حربا شاملة؟

تطور التصعيد:

يتبادل حزب الله وإسرائيل القصف بشكل يومي منذ بدء الحرب بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة في السابع من أكتوبر ففي اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى"، في الثامن من أكتوبر الماضي، فتح حزب الله ما أسماه "جبهة إسناد" للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، عبر قصف مزارع شبعا المحتلة.

لكن منسوب التوتر ارتفع في الفترة الأخيرة بعد مقتل القائد العسكري البارز بالحزب فؤاد شكر 30 يوليو الماضى، والذي تلاه اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران في ضربة نُسبت إلى إسرائيل، والذى جاء رد الحزب عليه فى 25 أغسطس باستهداف قاعدة غليلوت للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ومواقع أخرى فيما عُرف ب"عملية يوم الأربعين" لتزامنه مع أربعينية الإمام الحسين.

ومنذ عام 2006 تم تحديد ما عُرف بقواعد اشتباك بين "حزب الله" وإسرائيل، وتتمثل بأن أي رد سيقابله رد مماثل بالحجم نفسه مع الالتزام بالقرارات الدولية.وقد حصلت عدة انتهاكات بين الجانبين منذ ذلك الحين، لكنها لم تتطور إلى حرب أو معركة.

احتمالات الحرب:

فيما يتعلق بالحرب الإقليمية فهو أمر مُستبعد؛ وذلك لأسباب تتعلق بالدول المنخرطة فعلًا في الحرب.إذا بدأنا بالدول المنخرطة في الحرب الحالية، وهي إسرائيل وإيران على المستوى الإقليمي، والولايات المتحدة من خلال مساندتها الكاملة لتل أبيب.

فإن الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو هي الطرف الوحيد الذي يرى مصلحته في توسيع الحرب وإطالة أجلها. ويمكن تفسير هذا الموقف، بأن توسيع الحرب سوف يؤدي إلى حشد وزيادة التأييد الأمريكي والغربي لإسرائيل، ووقف الانتقادات المتزايدة لها، وتوحيد الرأي العام الداخلي فيها وراء هذه الحكومة اليمينية المتطرفة التي تهددها الانقسامات الداخلية والمظاهرات الحاشدة التي تدعو إلى استقالتها وإجراء انتخابات مُبكرة. أضف إلى ذلك، أن حربًا أكبر تشارك فيها أطراف أخرى قد تشغل اهتمام الرأي العام العالمي عما يحدث في غزة والضفة الغربية؛ مما قد يسهل مهمة إسرائيل في اجتياح مدينة رفح.

وقد تعددت تصريحات كبار المسئولين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين حول ضرورة شن حرب لتأمين المنطقة الشمالية، بعد أن أدت المناوشات المتبادلة مع حزب الله اللبناني إلى إخلاء حزام المستوطنات في تلك المنطقة.

    فقد أكد وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، في 19 يونيو 2024، أنه في نهاية تقييم الوضع في القيادة الشمالية مع كل من رئيس الأركان وقائد القيادة الشمالية وقائد القوات الجوية؛ فإن التقدير الاستراتيجي لتلك القيادات قد تضمن أن الجيش الإسرائيلي يستعد وسوف يستمر في الاستعداد لمواجهة أي تهديد يأتي من المنطقة الشمالية سواء في الدفاع أم الهجوم. وأكد غالانت أن الوضع في الشمال لن يستمر على ما هو عليه، وسوف يتغير سواء بتسوية أم بعملية عسكرية واسعة النطاق؛ مشيرًا إلى أنه من الضروري أن يكون الهدف الاستراتيجي هو إعادة المواطنين الذين تم تهجيرهم بسبب ضربات حزب الله الموجهة إلى تلك المنطقة.

   كما صرح غالانت، يوم 26 يونيو الماضي، بأن "حزب الله يدرك جيدًا أننا قادرون على إلحاق أضرار جسيمة بلبنان إذا اندلعت حرب". وأضاف"لدينا الإمكانية لإعادة لبنان إلى العصر الحجري لكننا لا نريد القيام بذلك"، مؤكدًا أن الحكومة الإسرائيلية تستعد لكل السيناريوهات.

كذلك أعلن عدد من كبار قادة الجيش الإسرائيلي، وعلى رأسهم رئيس الأركان، أنه من الضروري القيام بعملية عسكرية واسعة لتحجيم نشاط حزب الله والقضاء على قدراته العسكرية. وتزامنت مع ذلك تصريحات كبار الشخصيات والوزراء اليمينيين المتطرفين حول ضرورة شن حرب شاملة ليس فقط على حزب الله وإنما على الدولة اللبنانية لتحميلها مسئولية ما يقوم به حزب الله على الحدود الشمالية لإسرائيل، وتأكيد أن تل أبيب لن تسمح بتهديد أمنها، وأن ما جرى في غزة ليس قابلًا اللتكرار.

يُضاف إلى ذلك، إبلاغ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للولايات المتحدة اعتزامه شن حرب خاطفة في لبنان، فضلًا عن إصدار تصريحات تنتقد الإدارة الأمريكية الحالية لعدم تقديمها الأسلحة والذخائر المطلوبة؛ في إشارة إلى أن ذلك يمكن أن يؤثر في القدرات الإسرائيلية لشن تلك الحرب.

هذا من ناحية التصريحات أما واقع الأمر أن الجيش الإسرائيلي الذي عجز طوال ما يقرب من عام عن "تفكيك" قدرات حماس، لن يستطيع بالتأكيد فعل ذلك لحزب الله خلال أيام معدودة.يتزامن كل ذلك مع صدور تقارير في الصحف الإسرائيلية مفادها أن إسرائيل تفتقر إلى القدرات العسكرية اللازمة لخوض حرب على جبهات عدة. فقد لفت الكاتب في صحيفة هآرتس زفاي بارئيل إلى أن إسرائيل تواجه مشكلات متعلقة بعدد القوات العسكرية في تنفيذ جميع المهام التي حددتها. وقال إن "العجز العميق في ميزانية رأس المال البشري في إسرائيل يتطلب منها إعادة التفكير في عدد الحروب التي يمكنها التعامل معها - طالما أن هذا الخيار لا يزال متاحًا". في غضون ذلك، قد تكون شبكة الدفاع الجوي التي كثيرًا ما تتباهى بها إسرائيل عُرضة للخطر، إذ حذرت الولايات المتحدة من أن منظومة القبة الحديدية الإسرائيلية قد لا تكون قادرة على الصمود أمام ضربات حزب الله الصاروخية. بعبارة أخرى، قد تتكبد إسرائيل، على الرغم من تفوقها العسكري، أضرارًا جسيمة في لبنان.

أما إيران والولايات المتحدة فإنهما لا يرغبان وليس لديهما مصلحة في توسيع الحرب.

بالنسبة لإيران: تُعد طهران الطرف الحاضر في الأزمة الحالية منذ بدايتها وحتى الآن، ويمثل حزب الله بالنسبة لإيران شريكاً أساسياً ونقطة التماس مع إسرائيل. وتعتبر طهران أن بقاء حزب الله واستمرار قدراته العسكرية وما يحمله ذلك من تهديد لتل أبيب، حائط صد ضروري في مواجهة المخططات الاستراتيجية لإسرائيل لضرب إيران وتقويض قدراتها العسكرية والنووية. ومن هنا كانت المساندة الإيرانية لحزب الله واضحة، وتعددت زيارات كبار المسئولين الإيرانيين لبيروت، خاصة القائم بأعمال وزير الخارجية الحالي، وكذلك إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني؛ إذ التقوا خلالها القيادات العسكرية والسياسية في حزب الله، وهو ما يمثل نوعًا من الدعم.

كما أكدت تقارير استخباراتية وعسكرية متعددة أن إيران قدمت في الفترة الأخيرة أسلحة أكثر تطورًا لحزب الله، وأمدته بطائرات مُسيرة حديثة وذخائر متعددة، وكأنها تُعِد الترسانة العسكرية لحزب الله لعملية عسكرية واسعة يمكن أن يتعرض لها إذا قررت القيادة الإسرائيلية شن عملية عسكرية ضد الحزب.

وينطلق الموقف الإيراني، كذلك؛ مما أعلنه المرشد الأعلى، علي خامنئي، بشأن ضرورة مواصلة العمليات ضد إسرائيل، وتعزيز "قوى الإسناد" الموجودة في المنطقة والمرتبطة بطهران لدعم حركة حماس في حربها ضد إسرائيل، والمساومة بالموقف الإيراني في مجمله فيما يجري من ملفات عالقة مع الولايات المتحدة. ولعل الضغوط التي واجهتها إيران في الفترة الأخيرة، وخاصة من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتي عبرت عن موقف أمريكي وأوروبي متصاعد، تكشف عن ذلك بوضوح.

    ورغم أن العداء لإسرائيل ومواجهتها ربما يعطي لطهران تأييداً وزخما شعبياً، فإن القيادة الإيرانية تدرك مخاطر وتداعيات اندلاع حرب مفتوحة مع إسرائيل؛ بسبب طبيعة التوازن العسكري القائم بين البلدين، وحجم التأييد العسكري الأمريكي اللا محدود لإسرائيل، والاختراقات الاستخباراتية والأمنية الإسرائيلية في الداخل الإيراني. ولذلك، فقد حرصت طهران دوماً على ضبط سلوكها السياسي والعسكري بما لا يدفع الأمور نحو "حافة الهاوية".وأبقت على التواصل مع الولايات المتحدة من خلال وسطاء كسلطنة عُمان وسويسرا. وأكدت وفقاً لتصريحات وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان، يوم 14 إبريل الماضى، أنها لا تبحث عن استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة وتوسيع دائرة الصراع.

أما حزب الله اللبناني: فقد تكررت تصريحات كبار المسئولين في الحزب منذ 7 أكتوبر 2023 عن أن الحزب يمثل قوة إسناد وساحة إضافية لما يجري في قطاع غزة، وأن العمليات العسكرية بين الحزب وإسرائيل مرتبطة بصورة كبيرة بما يحدث هناك، وأن تحقيق الهدنة أو وقف القتال في الشمال يرتبط بصورة أساسية بوقف القتال في القطاع.

ويمثل خطاب حسن نصر الله، في 19 يونيو الماضي، نقطة فارقة في موقف حزب الله. وعلى الرغم من أن هذا الخطاب كان موجهاً للداخل الإسرائيلي والوسطاء، وخصوصاً الولايات المتحدة، فإنه أشار إلى ما يملكه حزب الله حالياً من أسلحة متطورة وما حصل عليه من أسلحة جديدة وتطوير لقدراته العسكرية. وهذا يعني أنه عند حدوث عملية عسكرية بين إسرائيل وحزب الله، فلن تكون عملية محدودة أو سهلة، لكنها ستكون حرباً مفتوحة بين الطرفين.

وقد كشف حديث نصر الله عن تقديره للصعوبة التي تواجهها كل من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، خاصةً في منطقة رفح؛ ومن ثم جاءت إشارته إلى أن الحرب الشاملة والمفتوحة سوف تكون الخيار الضروري إذا لم تتوقف الحرب في غزة. وأشار نصر الله إلى أن لدى حزب الله بنك أهداف استراتيجية إسرائيلية، وأن المُسيّرة "الهدهد"، والتي صورت المناطق الاستراتيجية تؤكد أن لدى الحزب قدرات متصاعدة على اختراق المنظومة الدفاعية الإسرائيلية والوصول إلى مناطق أكثر أهمية سواء عسكرية أم مدنية.

وأكد أنه لا يريد الحرب، لكنه مستعد لها، وأنها إن وقعت ستكون "بلا ضوابط ولا قواعد ولا سقوف"؛ ما يعني أن هذه الخطوات: التصعيد، وفيديو الهدهد، والخطاب، هي محاولات جادة من الحزب لتجنب سيناريو الحرب الموسعة، والتأكيد على أنها إن وقعت ستكون مختلفة عما سبقها، بما في ذلك حرب 2006م.

بالنسبة للولايات المتحدة: فقد انطلق الموقف الأمريكي من التطورات خلال الأسابيع الأخيرة من محورين أساسيين؛ الأول كان محاولة تقريب وجهات النظر، والاضطلاع بجهود وساطة قادها ممثل الرئيس الأمريكي، عاموس هوكشتاين، خلال زيارات مكوكية لكل من تل أبيب وبيروت، التقى خلالها شخصيات لبنانية مقربة من حزب الله وخاصةً نبيه بري، الحليف القوي للحزب.

تركزت جهود هوكشتاين على موافقة حزب الله على انسحاب قواته إلى جنوب نهر الليطاني والعودة إلى تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701، والذي يحدد الخط الأزرق كمنطقة فاصلة بين قوات إسرائيل والقوات العسكرية ويُبقي المنطقة الممتدة من الخط الأزرق إلى جنوب نهر الليطاني خالية من وجود عسكري لحزب الله. وهذا هدف إسرائيلي واضح المعالم منذ فترة؛ وذلك لتوسيع المنطقة العازلة بين الحدود الإسرائيلية والوجود العسكري لحزب الله، وبما يضمن عدم وجود أنفاق أو منصات دفاع جوي للحزب في تلك المنطقة، ويحقق الأمن لشمال إسرائيل بصورة كبيرة.

وأعلن هوكشتاين أثناء زيارته لتل أبيب، بعد زيارة بيروت، فشل مهمته، وأن كلا الطرفين يسعى إلى زيادة التوتر، وعاد إلى الولايات المتحدة على أمل أن تُبذل جهود أخرى للوساطة تسمح بسحب كل مبررات التوتر والتصعيد الجارية حالياً.

أما المحور الآخر للموقف الأمريكي فتمثل في المساندة العلنية الواضحة للجانب الإسرائيلي، وتمثل بصورة كبيرة في إعادة نشر حاملات الطائرات الأمريكية في منطقة البحر المتوسط، والحديث المتكرر عن تقديم المساعدات العسكرية والذخائر لتل أبيب والخضوع إلى الابتزاز الذي قام به نتنياهو من خلال الفيديو الذي نشرة واتهم فيه إدارة جو بايدن بعدم المساندة. فوافقت واشنطن على صفقة أسلحة ضخمة تتجاوز 18 مليار دولار لإسرائيل؛ بما يعني دعماً واضحاً لتل أبيب إذا فكرت في الحرب.

وفى النهاية فإن الولايات المتحدة لا تشجع نشوب حرب إقليمية؛ لأنه من شأن اندلاعها تهديد مصالحها الاقتصادية والعسكرية في المنطقة، ووضع الدول العربية الحليفة والشريكة لها في موقف حرج بسبب ضغوط الرأي العام الداخلي فيها، خاصةً أنه في مثل هذه الحرب سوف تشارك واشنطن إلى جانب إسرائيل بالتنسيق العسكري المباشر في وضع الخطط وتنفيذها والمشاركة الفعلية في القتال؛ وهو ما حدث بالفعل عندما تم إنشاء مقر لعمليات الدفاع الجوي الإسرائيلية-الأمريكية المشتركة، والتي شاركت في إسقاط عشرات المُسيرات والصواريخ الإيرانية وتدميرها وهي في طريقها إلى إسرائيل.ومن ثم، لا ترغب الإدارة الأمريكية في أن تتطور الأحداث على هذا النحو.

كذلك الحال لبقية دول المنطقة، فإنها كلها تدعو إسرائيل وإيران إلى ضبط النفس وعدم اتخاذ ما يكون من شأنه جر المنطقة إلى حرب إقليمية. وتتعدد دوافع تلك الدول ما بين انكفاء البعض على مشكلاته وأزماته الداخلية، وتركيز البعض الآخر على التنمية الاقتصادية والارتفاع بمستوى معيشة شعوبه، والاعتقاد بأن حربًا إقليمية سوف تؤدي إلى خسارة الجميع وتهديد السلم والأمن العالمي، وأن الهدف الأولى بالتبني هو وقف الحرب على غزة، وتوفير الإمدادات الإغاثية التي يحتاج إليها أهلها، والسعي لإنشاء الدولة الفلسطينية وانضمامها إلى الأمم المتحدة وفقاً لحدود ما قبل 5 يونيو 1967.

وفيما يتعلق بالموقف الأوروبى: فقد كان واضحاً منذ بداية العمليات العسكرية في شمال إسرائيل على الحدود اللبنانية، حجم الاهتمام الأوروبي بتلك التطورات، وخاصةً الموقف الفرنسي الحريص على عدم اتساع العمليات العسكرية في لبنان وعدم تحمله مسئولية ما يجري في غزة بصورة كبيرة، ومن هنا نشطت الجهود الأوروبية لدعم جهود المبعوث الأمريكي هوكشتاين للتوفيق بين الطرفين، كما جرت اتصالات بين دول أوروبية لها علاقات متميزة بإيران، لوقف هذا التصعيد وعدم تجاوزه للأسقف المحددة والمنضبطة.

وينطلق الموقف الأوروبي في أحد جوانبه من القلق من أن تؤدي أية عمليات عسكرية واسعة في لبنان إلى تزايد الهجرة من هذا البلد سواء من اللبنانيين أم اللاجئين السوريين؛ مما يثير المخاوف من موجات هجرة غير شرعية جديدة إلى دول جنوب المتوسط الأوروبية.

"الصبر الاستراتيجي":

أثار الحادث الأخير تساؤلات حول ماهية تغيير سياسة "الصبر الاستراتيجي" من قبل إيران وحزب الله.حيث قامت إسرائيل بتقويض الهيكل القيادي للقوات الإيرانية في سوريا ولبنان عبر ضربات نوعية متتالية، و بدأت الهجمات الإسرائيلية المكثفة في ديسمبر 2023 باغتيال العميد رضي موسوي مسئول وحدة “دعم جبهة المقاومة في لبنان وسوريا” في الحرس الثوري بغارة جوية على منزله في دمشق، فضلًا عن اغتيال العقيدين بالحرس الثوري محمد شورجه، وبناه تقي زادة، وتصفية الشيخ صالح العاروري رفقة عدد من معاونيه في قصف مكتبه بالضاحية الجنوبية في بيروت.

لم تكد طهران تستفيق من ضربات ديسمبر، إلا وتعرضت لضربة ثقيلة في يناير 2024 عبر اغتيال “حُجت الله أميدوار” قائد استخبارات فيلق القدس في سوريا رفقة أربعة من مساعديه بقصف مقر وجودهم في دمشق. ثُم اغتيل “سعيد دادي “مستشار الحرس الثوري إثر غارة على دمشق في يناير، ثُم في مارس اغتال الطيران الإسرائيلي المستشارين العسكريين بالحرس الثوري “رضا زارعي” في غارة على بانياس، و”بهروز واحدي” في غارة على مدينة دير الزور.

وقُتل في مطلع أبريل قائد فيلق القدس في لبنان وسوريا العميد محمد زاهدي ونائبه العميد محمد رحيمي، ومدير مكتبه ورئيس أركانه حسين أمان الله، فضلًا عن أربعة آخرين من مساعديه بقصف مبنى تابع للقنصلية الإيرانية في دمشق.

إن اغتيال قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان رفقة معاونيه، واغتيال قائد استخبارات فيلق القدس رفقة معاونيه، واغتيال مسئول اللوجستيات في أربعة أشهر يعني تقويض أهم شخصيات في الشبكات الإيرانية بسوريا ولبنان. فالجنرال زاهدي على سبيل المثال انضم للحرس الثوري في عام 1980 ثم تولى قيادة قاعدة “ثأر الله” التابعة للحرس، والمسئولة عن أمن العاصمة طهران، ثم قاد القوات الجوية بالحرس، وأخيرًا قاد القوات البرية بالحرس بين عامي 2004 و2007 قبل أن ينتقل للإشراف على القوات الإيرانية في سوريا ولبنان، وهو ما يعني أن تصفيته بخرت خبرة تشكلت على مدى 45 عامًا. بالإضافة لتصفية نائبه وفريقه المساعد في الهجوم ذاته، فهذا يعني حدوث فراغ قيادي وعملياتي يتطلب وقتا طويلا لسده.

وفضلًا عن تصفية الهيكل القيادي العسكري الإيراني في سوريا، فقد جاءت الضربة الأخيرة في وضح النهار ضد مبنى رسمي تابع للقنصلية الإيرانية في دمشق يُستخدم كمركز قيادة لعمليات الحرس الثوري في الأول من إبريل 2024، بما أدى إلى مقتل سبعة من ضباط الحرس الثوري الإيراني، أبرزهم الجنرال محمد رضا زاهدي، أحد قادة فيلق القدس؛ ثم فشل مجلس الأمن في إصدار بيان صاغته روسيا لإدانة هذا الهجوم بسبب رفض الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا. كل هذا مثل تحديًا علنيًا إسرائيليا للقيادة الإيرانية، واستخفافًا بها وبصبرها الاستراتيجي، وتغييرًا لقواعد اللعبة.

وفى حقيقة الأمر فإن طهران خرجت من حربها الطويلة مع العراق (1980-1988) بخلاصة مفادها تجنب خوض أي حرب مباشرة مع دولة أخرى لفداحة الثمن، والعمل وفق نموذج الشبكات لبناء خط دفاعي متقدم يبدأ من بيروت ويمتد إلى صنعاء، من أجل نقل محاور القتال بعيدًا عن الداخل الإيراني وفق نظرية “الدفاع المتقدم”. ولذا رفض مرشد الثورة علي خامنئي خوض حرب ضد حركة طالبان بعد مقتل عدد من الدبلوماسيين الإيرانيين إثر اقتحام القنصلية الإيرانية في مزار الشريف في عام 1998، فيما ازداد نشاط فيلق القدس في دول الجوار.

وبالتوازي مع ما سبق، عملت طهران على المضي قدمًا في برنامجها النووي، وتطوير قدراتها في مجال التصنيع المحلي للصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، فضلًا عن تصنيع منظومات دفاع جوي وسفن قتالية بحرية، وهو ما كثفته مؤخرًا، فمنذ بداية عام 2024 أعلنت انضمام البوارج “أبو مهدي المهندس” “صياد الشيرازي”، و”حسن باقري” للخدمة، وتدشين منظومة “آرمان” المضادة للصواريخ الباليستية، ومنظومة “آذرخش” للدفاع الجوي، وتزويد بعض السفن بأنظمة إطلاق صاروخية باليستية يصل مداها إلى 1700 كيلو متر.

وترى طهران أن نهج اقتناص الفرص وخوض الصراع بالنقاط هو الأنسب لتحقيق أهدافها، مع المحافظة على “صبرها الاستراتيجي”، وتجنب خوض حرب مباشرة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، لأنها ستكون حربًا مدمرة لنفوذها، وقد تنتهي بإسقاط نظام الحكم نفسه في طهران. ولهذا تتحمل طهران الضربات الأمريكية والإسرائيلية كما تعيد التموضع عند المنعطفات الخطيرة، مثلما تجلى في ردها بسقف منخفض على اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في عام 2020، وفي إجبارها مؤخرًا الميليشيات العراقية على وقف هجماتها على القوات الأمريكية في سوريا والعراق بعد مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في هجوم نفذته بالأردن، وهو الهجوم الذي استدعى ردا أمريكيا عنيفا طال أكثر من 80 هدفًا للميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا.

نقطة حاسمة

إن طوفان الأقصى لم يجرف فقط نظرية الأمن الإسرائيلية، لكنه أعاد تشكيل النظرة الإسرائيلية لدور طهران، وضرورة التعامل معها بشكل مختلف، و لم تبدأ إسرائيل في كسر الخطوط الحمراء دفعة واحدة، فبدأت بجس رد الفعل الإيراني، وعندما وجدته يقتصر بعد اغتيال العميد رضي موسوي على قصف  طهران لمقرات للموساد في كردستان العراق تشجعت تل أبيب على مواصلة وتعميق هجماتها، إذ لم يمس الرد الإيراني أحدًا من مواطنيها أو مصالحها الحيوية، ولذا ثنته باغتيال “حُجت الله أميدوار” وفريق معاونيه، ثُم زاهدي ومعاونيه.

إن طهران أمام نقطة حاسمة، فإما أن تكمل في سياسة الصبر الاستراتيجي، وتتحمل الضربات الإسرائيلية للحفاظ على مكتسباتها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وإما أن تسعى لاستعادة الردع عبر ردود تجعل تل أبيب تراجع حساباتها، لكن يعرقل ذلك خشية إيران من أن تنجر لحرب واسعة تعتبر أن نتنياهو يحاول جذبها لها لتحطيم القدرات الإيرانية بما فيها المشروع النووي، وصولًا إلى تهديد بقاء النظام ذاته، على اعتبار أن واشنطن ستتدخل بشكل مباشر دعمًا لإسرائيل، بينما لا يوجد حليف قوي سيتدخل دعمًا لإيران.

ختاماً، إن الفترة المقبلة حرجة في تعيين حدود النفوذ الإيراني في المنطقة؛ وسيُختبر هل تحول الصبر الاستراتيجي إلى هدف بذاته بدلًا من أن يقود طهران نحو تحقيق أهدافها. كما أنه من الواضح أن المواجهة الإيرانية-الإسرائيلية لم تصل إلى نهايتها بعد، فهناك رد فعل إيراني مُتوقع قد يعقبه انتقام إسرائيلي، وتتطور دوامة من الأفعال وردود الأفعال. وبالتالي، فإن الاحتمالات عديدة ومتنوعة، وتصريحات المسئولين في كل الدول، بما فيها إيران وإسرائيل، تؤكد أنها لا تسعى لنشوب حرب إقليمية، ولكن الأمور قد تتطور على نحو مخالف، فهل تكون النتيجة حربًا إقليمية أم فوضى إقليمية؟


رابط دائم: