دور "الدبلوماسية الهادئة وتصفير المشكلات" فى تطور العلاقات المصرية-التركية
10-9-2024

حبيبة زيدان
* باحثة فى العلوم السياسية

حازت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي الرسمية الأولى إلى أنقرة، في الرابع من سبتمبر 2024، اهتماما دوليا وإقليميا كبيرين؛ حيث مثلت تلك الخطوة التاريخية نقلة نوعية في مسار العلاقات المصرية – التركية بعد الجمود الذي شهدته خلال السنوات العشر الماضية، وجاءت لتعلن انطلاق مرحلة جديدة من التعاون المشترك بين مصر وتركيا، خاصة في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزمة التي يمر بها الإقليم.

التقارب رغبة مشتركة:

لا شك أن العلاقات الدولية تقوم كليًا على مبدأ خدمة المصالح؛ فلا تعترف بالعداء الدائم ولا بالصداقة الدائمة، ومع تأزم الأوضاع الاقتصادية والسياسية للشرق الأوسط مؤخرًا، أصبح تجاوز الخلافات ضروريا لحماية مصالح البلدين ومنع الإقليم من الخروج عن السيطرة.

وفي سبيل تحقيق ذلك، قررت تركيا العودة مرة أخرى إلى استخدام سياسة " تصفير المشكلات" التي كانت تنتهجها في مطلع القرن الحالي من أجل تحسين العلاقات التركية المتوترة تاريخيا مع جيرانها، وتحسين نفوذها الإقليمي، والنهوض بوضعها الاقتصادي، لكن لم تلبث تلك السياسة أن تؤتِ ثمارها حتى تخلت عنها القيادة التركية في مرحلة ما يعرف " بثورات الربيع العربي "، وتأثرت علاقاتها الخارجية بالاضطرابات التي مرت بها المنطقة العربية منذ عام 2011، مما أثر بشكل سلبي على وضعها الاقتصادي ووضعها في المنطقة، ودفعها لإعادة النظر في سياساتها للحفاظ على مصالحها.

من جهة أخرى، تؤمن مصر بأن الدبلوماسية الهادئة هي السبيل الأمثل للتهدئة وتحقيق السلام والاستقرار والتنمية انطلاقا من مبادئ سياستها الخارجية ؛ فتسعي دائمًا نحو خلق مساحات للتعاون المشترك بين دول المنطقة، وتتبنى سياسات خارجية متزنة وأكثر انفتاحًا، وتركز على تخفيف التوتر ومنع تصاعد الخلافات، لذلك وجدت مصر في التقارب المصري - التركي إضافة قوية إلى الخطة المصرية الرامية إلى تعزيز مكانة مصر إقليميا ودوليا وتعميق دورها المحوري في محيطها الإقليمي، بالإضافة إلى ذلك أصبحت دول المنطقة تدرك تماما أن مصر هي الشريك الإقليمي الأهم والأقوى الذي لا يمكن ضمان استقرار المنطقة بمنأى عنه، خاصة مع بروز الدور المصري في إدارة الكثير من ملفات المنطقة سواء فيما يتعلق بملف الحرب على غزة، أو الأزمة الليبية، أو قضايا القرن الإفريقي والبحر الأحمر.

ولذلك بعد سنوات من الجمود، اتفقت الرؤية التركية مع الرؤية المصرية، وأدركت القيادة التركية أن التعاون والحوار هما أساس تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة لا المواجهة، وبناءً على ذلك سعت تركيا إلى استعادة العلاقات الودية مع مصر قبل ما يقرب من ثلاث سنوات، رغبة منها في فتح مسارات للحوار مرة أخرى وإذابة الجليد الذي أثر على العلاقات بينهما لفترة طويلة.

تطور متلاحق في مسار العلاقات:

لا شك أن الأزمات التي مر بها الإقليم في الآونة الأخيرة واتساع دائرة التهديدات الإقليمية أعطت دفعة قوية للتقارب المصري – التركي، لكن منذ عام 2020 توالت عدة مواقف إيجابية بين البلدين كانت بمثابة الضوء الأخضر الذي أعطى إشارة للتحرك نحو إصلاح العلاقات والتركيز على تخفيف التوتر وتفادي تصاعد الخلافات، وبحلول يوليو 2023، عزمت الدولتان على تصحيح مسار العلاقات بشكل أكثر رسمية، وأعلنتا عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما ورفعها مجددًا إلى مستوى السفراء تمهيدا لنقلة نوعية بدأت بزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمصر في فبراير الماضي.

 أنتجت زيارة أردوغان آثارها الإيجابية وساهمت في تحسين مناخ العلاقات بين مصر وتركيا؛ حيث تم إحياء مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين، وفتحت آفاق للتعاون بينهما على كافة الأصعدة عن طريق توقيع عدة اتفاقات في مجالات السياحة، والثقافة،  والتعليم. وفي إطار ترسيخ علاقات أكثر دفئًا، شهدت الأشهر الماضية زيارات متبادلة بين وزراء خارجية كل من مصر وتركيا للتحضير للزيارة الرسمية الأولى للرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة، والتي جاءت للبناء على الزيارة السابقة التي قام بها الرئيس أردوغان لمصر قبل سبعة أشهر؛ لذلك يعد الارتقاء بمستوى العلاقات من دبلوماسية السفراء إلى دبلوماسية الرؤساء نقطة تحول تاريخية كسرت الفتور بين أكبر قوتين في الشرق الأوسط وأعلنت عودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي بعد فترة طويلة من التوتر.

دوافع زيارة الرئيس السيسي إلى تركيا:

تعتبر زيارة الرئيس السيسي إلى تركيا خطوة استراتيجية مهمة تهدف إلى تعزيز أواصر العلاقات الثنائية بين البلدين اقتصاديا وتجاريا وعسكريا، وسمحت للقوى الإقليمية الكبرى الأكثر تأثيرا باستعراض كافة الملفات الإقليمية والعالمية الراهنة، خاصة تطورات الحرب الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وما ترتب عليها من أحداث أثرت سلبًا على العديد من الدول وساهمت في خلق إقليم مضطرب كليًا، وبالتالي دفعت الأزمات الإقليمية الحالية كل من مصر وتركيا إلى التفكير في خدمة مصالحهما المشتركة، وإتباع سياسات أوثق وأكثر تقاربًا للخروج بالإقليم من أزمته وللارتقاء بالعلاقات الثنائية بين الدولتين.

1.   إقامة علاقات اقتصادية أقوى وتعظيم المكاسب بين الدولتين:

ترتب على زيارة الرئيس السيسي لتركيا عقد أول اجتماع لمجلس التعاون برئاسة كل من الرئيس السيسي ونظيره التركي، بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم متعددة تهدف إلى إحداث نقلة نوعية على كافة الأصعدة، ووضع إطار جديد للتعاون بين البلدين، ومن خلال إعلان مشترك، أكد الرئيسان رغبتهما المشتركة في تعزيز التعاون بين مصر وتركيا في جميع المجالات، بما في ذلك التجارة، والصناعة، والدفاع، والصحة، والبيئة، والطاقة بالإضافة إلى تقوية الروابط بين الشعبين من خلال السياحة وتبادل الثقافات، لكن بشكل عام شكل كل من الاستثمار والتجارة البعدين الأقوى في التعاون بين البلدين حتى أصبحت تركيا في ظل السنوات العشر الماضية من بين أكبر خمسة شركاء تجاريين لمصر رغم توتر العلاقات، ولا تزال تهدف إلى زيادة حجم التجارة المشتركة إلى 15 مليار دولار خلال الخمس سنوات المقبلة، كما أكد الرئيسان أيضا على ضرورة تشجيع الاستثمار المتبادل بين البلدين، ومنح التسهيلات الممكنة لرجال الأعمال المصريين والأتراك، وتطوير التعاون في مجال الطاقة خاصة فيما يتعلق بالطاقة النووية والغاز الطبيعي.

2.   التشاور في ملفات إقليمية وعالمية تهدد استقرار المنطقة :

أما فيما يتعلق بالجانب السياسي، تعتبر مصر وتركيا أكبر قوتين إقليميتين تحملان على عاتقهما مسئولية المساهمة في تحقيق السلم والأمن الإقليميين، لذلك خلال تلك الزيارة ناقش الرئيسان سبل التنسيق بين الدولتين للمساهمة في التصدي للأزمات التي تهدد أمن وسلامة الإقليم، وتوصلت الدولتان إلى ضرورة إقامة مشاورات منتظمة لحل القضايا الإقليمية التي تهدد أمن وسلامة المنطقة، والتركيز على ملف الحرب على غزة الذي سيكون قلب تلك المشاورات خلال الفترات المقبلة، خاصة أن لكل من مصر وتركيا موقفا مشتركا بشأن القضية، وتلعبان دورًا محوريا في الوساطة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؛ حيث يتمسك كل منهما بالمطالبة بإنهاء الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وضرورة الوقف الدائم لإطلاق النار، وتدفق المساعدات الإنسانية دون عوائق، ومحاسبة إسرائيل على جرائمها التي ارتكبتها في حق الشعب الفلسطيني، ورفض استمرار بعض الدول في تقديم الدعم غير المشروط لإسرائيل، وأكدا على مسئولية المجتمع الدولي الذي لم يتخذ أي خطوة لردع إسرائيل التي تعرض العالم كله إلى الخطر، كما أشاد الرئيس أردوغان بالدور الذي تلعبه مصر في المفاوضات لوقف إراقة الدماء رغم تعنت الجانب الإسرائيلي، وبالإضافة إلى القضية الفلسطينية استعرض الرئيسان باقي الملفات الإقليمية المتعلقة بدول شرق المتوسط، وسوريا، وليبيا،  والسودان، ومنطقة القرن الإفريقي، وشددا على ضرورة تسوية الخلافات وإنهاء ظاهرة الميليشيات المسلحة والحفاظ على وحدة وسلامة وسيادة كل دولة على أراضيها وإنهاء معاناة شعوبها.

المصلحة أولًا:

يؤكد المشهد الحالي على نظرية خضوع العلاقات الدولية دائمًا لقانون حماية المصالح، فلا عداء دائم ولا صداقة دائمة بل مصلحة دائمة، وفي الحالة المصرية-التركية فرض تقاطع المصالح- وليست المصلحة الواحدة - التقارب بين البلدين؛ فإن أهم ما يميز هذا التصالح أنه جاء في التوقيت المناسب سواء على مستوى العلاقات الثنائية بين الدولتين أو على مستوى الإقليم بشكل عام؛ حيث أصبح التعاون وتجاوز المسائل الخلافية ضرورة قصوى لحماية مصالح الدولتين ودعم استقرار المنطقة.

فمن ناحية، كانت للمصلحة الوطنية ورغبة كل دولة في تعظيم مكاسبها اقتصاديا وسياسيا دور أساسي في فرض هذا التقارب؛ حيث تتقاطع المصالح بين مصر وتركيا في عدة ملفات اقتصادية، وسياسية، وعسكرية نتيجة الثقل الجغرافي والاستراتيجي الذي يتمتع به الطرفان.

ومن ناحية أخرى، سيمثل تقارب أكبر قوى الشرق الأوسط عسكريا واقتصاديا أهم دعامة لاستعادة استقرار المنطقة وحمايتها من الانزلاق نحو حرب إقليمية محتملة نتيجة التحديات المتواترة التي يشهدها الإقليم، وتصعيدات الحرب الإسرائيلية على غزة، وما ترتب عليها من أزمات عديدة حولت المنطقة إلى كتلة لهب جعلت الإقليم في حاجة ماسة إلى مثل هذا التقارب ، لذلك تمثل زيارة الرئيس السيسي إلى أنقرة تتويجًا لعودة العلاقات بينهما إلى مسارها الطبيعي واستعادة توازنها بعد سنوات من الفتور،وتعتبر تأكيدًا على أن الدولة المصرية تخطو خطوات صحيحة فيما يتعلق بإدارة علاقاتها الخارجية؛ حيث تتبنى سياسة التوازن والانفتاح وتلجأ دائمًا إلى الاعتماد على فكرة الدبلوماسية الهادئة لضمان تحقيق مصالحها الاستراتيجية؛ فتحرص دائمًا على الوقوف على مسافات متساوية من الجميع دون الإضرار بمصالحها وأهدافها، وتجدر الإشارة أيضا إلى أن عودة العلاقات تحديدًا في مثل هذا التوقيت الصعب الذي يشهده الإقليم تعكس حكمة البلدين في إدارة ملفاتهم وعلاقاتهم الخارجية ووعي أكبر القوى الإقليمية بخطورة ما يمر به الشرق الأوسط من تكالب أطراف إقليمية على مصالح دول المنطقة، بالإضافة إلى الدعم غير المشروط الذي تقدمه لهم القوى الغربية، مما جعل تضافر الجهود ضرورة قصوى للخروج من الأزمات التي تهدد استقرار المنطقة وأمنها القومي ؛ لذلك كان التعاون المشترك هو السبيل الأمثل لتحقيق ذلك وحرصت كل منهما على عدم تصعيد التوترات، وتجميد الخلافات السابقة، والسعي نحو إقامة علاقات ودية، وبدء صفحة جديدة في العلاقات المصرية-التركية.

 


رابط دائم: