حرب المعلومات الخفية عبر مقاطع الفيديو القصيرة بين الاستهداف السلوكى والقيم الأخلاقية
13-8-2024

د. عمـرو حسـن فتـوح
* أستاذ مساعد تكنولوجيا المعلومات، ومدير وحدة المكتبة الرقمية والانتحال العلمى بجامعة الوادى الجديد

يمثل الأطفال والمراهقون فئة كبيرة ومهمة فى المجتمع؛ حيث يقدر عددهم بمليار  وثمانمائة مليون حول العالم وفقا للإحصائيات المقدمة من صندوق الأمم المتحدة للسكان(UNFPA) . لذلك، يمكن عدهم ركائز المستقبل التى تسهم فى بناء الأوطان وتقدمها. تعيش هذه الفئة الآن معارك شرسة مع شبكات التواصل الاجتماعى – التى تمثل جزءا كبيرا من حياتهم اليومية– والتى تشكل هويتهم وسلوكياتهم الشخصية.

انتشرت أخيرا عبر هذه الشبكات مقاطع الفيديو القصيرة "ريليز"، التى تعد أحد أشكال الحرب المعلوماتية الخفية التى تستهدف عقول الشباب والمراهقين وأيضا الأطفال، ويتابعها ملايين الأشخاص حول العالم. يعتقد خبراء الصحة النفسية فى جامعة ماساتشوستس أن مشاهدة مثل هذه المقاطع بشكل يومى يمكن أن تؤثر فى نمو الدماغ وتشتت الانتباه. وتُضيف جريفين، أستاذ الطب النفسى وطب الأطفال فى الجامعة ذاتها، أن مقاطع الفيديو القصيرة مثل الحلوى، توفر اندفاعا من الدوبامين، وهى مادة كيميائية تمنح الشعور بالرضا والسعادة يتم إطلاقها إلى مركز المتعة فى أدمغتنا، وغالبا ما تؤدى بهم إلى إدمان مشاهدتها ومحاولة تطبيقها على أرض الواقع، فهى ليست مجرد محتوى ترفيهى، بل هى سلاح يستخدم لتشكيل عقول الأجيال القادمة وتوجيه سلوكياتهم؛ حيث تغرس فيهم قيمًا وهمية وأفكارًا مغلوطة، بهدف تجريف هويتهم الوطنية، ومن ثم إضعاف الشعور بالانتماء والولاء للوطن.

من الذاكرة إلى السلوك: رحلة مقاطع الفيديو القصيرة

هل ذاكرة الإنسان تؤثر فى سلوكياته؟الإجابة نعم، فبقدر ما تحمله هذه الذاكرة من معلومات إيجابية أو سلبية تسهم بشكل كبير فى تشكيل سلوك الإنسان وشخصيته. وفى علم النفس المعرفى تعرف الذاكرة البشرية بأنها قدرة الدماغ البشرى على تخزين المعلومات واسترجاعها، وتصنف هذه الذاكرة إلى نوعين هما: ذاكرة قصيرة المدى تستطيع تخزين كمية صغيرة من المعلومات لفترة قصيرة من الزمن تتراوح بين 18 : 30 ثانية فقط، على سبيل المثال حفظ رقم هاتف لاستخدامه فى الوقت الحالى، وأخرى طويلة المدى لديها القدرة على تخزين المعلومات لفترة طويلة وبكميات كبيرة، وتعد الأخيرة من أهم أنواع الذاكرة لدى الإنسان؛ حيث إنها تحتفظ بالأحداث والمواقف والمشاعر لسنوات طويلة، بل يُمكن القول بأنها ترافق الإنسان حتى مماته. وعن الإعجاز الإلهى فى صنع الإنسان أن جعل له عقلا ذا ذاكرة، قادرا على تخزين المعلومات واستدعائها عند الحاجة إليها؛ حيث توصل باحثون فى معهد سالك "Salk"للعلوم البيولوجية فى كاليفورنيا إلى حساب سعة تخزين العقل البشرى، التى تُقدر بتريليون جيجا بايت من البيانات، أى ما يعادل تخزين 4.7 مليار كتاب أو تسجيل بث مباشر لنحو ألفى سنة من الموسيقى.

 بناء عليه، فإن تخزين المعلومات بالذاكرة البشرية يمر بمرحلتين رئيستين هما: التحصيل ومصدرها خارجى مثل الحصول على المعلومات من كتاب أو موقع إنترنت، وهكذا يُمكن أن يكون مقطعا صوتيا مسموعا أو مقطع فيديو مرئيا، ثم تأتى مرحلة تخزين هذه المعلومات داخليا فى العقل بإحدى الذاكرتين طويلة المدى أو المؤقتة القصيرة.

أشارت الدراسات الحديثة فى مجال علم النفس إلى أن العقل البشرى وبشكل لا إرادى يُخزن المعلومات عند سماعها أو رؤيتها، واسترجاعها فى المواقف ذات العلاقة، ومن هنا تظهر المشكلة بوضوح فى المحتوى غير الأخلاقى أو المضلل لمقاطع الفيديو القصيرة المنشورة عبر شبكات التواصل الاجتماعى "فيس بوك – تويتر - انستجرام .... الخ" أو من خلال برامج البث المباشر الاجتماعية "التيك توك - وسناب شات ... إلخ" التى يمكن أن يخزنها العقل البشرى، والتى تنعكس سلبا على سلوكيات الإنسان وشخصيته؛ والتى أدت إلى ارتفاع معدل الجريمة كالقتل والاغتصاب والانتحار والإدمان، واكتساب السلوكيات السيئة كالشذوذ والعنف والتنمر.ولماذا مقاطع الفيديو تحديدا الأكثر والأسرع حفظا فى ذاكرة العقل البشرى؟ والإجابة عن هذا السؤال أن الشخص يستخدم حاستى البصر والسمع معا عكس النص المقروء أو المسموع يستخدم حواس فردية؛ ومن ثم إمكانية حفظها فى الذاكرة الطويلة المدى تكون أكبر. هذا ما أكدته ماثيون دون خبير الوسائط الرقمية بشركة مايكروسوفت أن العقل البشرى يعالج المرئيات بشكل أسرع 60 ألف مرة من النص المقروء، وأن 90% من المعلومات المخزنة فى عقولنا مصدرها المرئيات.

 

نستنتج مما سبق أن مشاهدة مقاطع الفيديو أيا كانت قصيرة أو طويلة يتبعها التأمل والتدقيق ومن ثم التقليد والتطبيق، ما يؤثر سلبا أو إيجابا فى سلوكياتنا وتعاملاتنا مع الآخرين. لقد صنف علماء علم النفس والاجتماع ظاهرة مقاطع الفيديو القصيرة "ريليز" ضمن ما يعرف به الاستهداف السلوكى النفسى عبر شبكات التواصل الاجتماعى وهى أداة تكنولوجية خبيثة تُلحق الضرر المادى والمعنوى بالفرد والمجتمع؛ حيث تسهم فى تآكل القيم والمبادئ التى تقوم عليها المجتمعات.

أخيرا، يمكن القول إن وسائل التواصل الاجتماعى وما تحمله من محتوى نصى ومرئى تؤدى دورا حاسما فى تشكيل شخصية الفرد وتغيير نمط حياته وسلوكياته، وإن مواجهة هذه الحرب المعلوماتية تتطلب تضافر جهود جميع الأطراف، بما فى ذلك الحكومات والمدارس والمجتمع، لتعزيز الوعى بخطورة هذه الظاهرة؛ وذلك من خلال التوجه نحو التثقيف الرقمى، أو ما يُعرف بالمواطنة الرقمية، التى تهدف إلى تعليم الأفراد كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعى بمسئولية - منخلال مقرر دراسى يدرس لهم فى المرحلة ما قبل الجامعية أو الجامعية- بالإضافة إلى ذلك، يجب على الأسر مراقبة المحتوى الذى يشاهده أبناؤهم على الإنترنت، وتوعيتهم بمخاطره. كما يجب سن قوانين صارمة تعاقب على نشر هذا المحتوى الضار والتحريضى.

إن مستقبل مجتمعاتنا مرتبط بكيفية استخدامنا لهذه لوسائل التواصل الاجتماعى، فدعونا نجعلها مكانا ترتقى فيه العقول وليس بئرا تسقط فيها القيم والأخلاق.


رابط دائم: