الحرب الروسية - الأوكرانية وأمن الطاقة الأوروبى..هل من حلول بديلة؟
13-8-2024

نشوى عبد النبى
* باحث متخصص فى الدراسات اللوجستية- مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء

تسعى دول الاتحاد الأوروبى منذ أكثر من عقدين للتخلص من الاحتكار الروسى لسوق الغاز الأوروبى، إلا أنها فشلت فى تنفيذ العديد من مشروعات خطوط أنابيب الغاز الدولية، واضطرت للاعتماد بشكل أساسى على الغاز الطبيعى القادم من الحقول الغربية لسيبيريا الروسية، واستطاعت روسيا من ثم الحفاظ على احتكارها لسوق الغاز الأوروبى عبر تطبيق العديد من الإستراتيجيات، وكان أهمها ربط القارة الأوروبية بمشروعات ذات فعالية وتقنية وجدوى اقتصادية مرتفعة.
خلقت الحرب الروسية الأوكرانية 2022 فرصة للاتحاد الأوروبى لتغيير علاقته بموردى الطاقة، بعد أن قامت موسكو بالتهديد بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا عدة مرات من خلال تعطيل تدفق الغاز عبر الأنابيب بحجة أعطال فنية، الأمر الذى دفع الدول الأوروبية فى أن تلح على إيجاد بدائل عن الغاز الروسي، تخوفا من نقص إمداداتها وفراغ المخزونات الاستراتيجية، ما يؤدى إلى تهديد الأمن القومى الاقتصادى والمجتمعى الأوروبى.
ثم أصدر الاتحاد الأوروبى "إعلان فرساى" فى مارس 2022، الذى أدان الغزو، وأعلن أنه سيخفض الواردات الروسية ويبحث عن موردين جدد بأسرع ما يمكن. السؤال إذن: من يمكنه استبدال روسيا، والأهم من ذلك، كيف؟ بدأ المتخصصون ومحللو الإعلام والسياسيون فى مناقشة من يمكنه اغتنام هذه الفرصة وإعادة توجيه الإنتاج نحو السوق الأوروبى الجائع، تستكشف هذا الدراسة حالات الجزائر وفنزويلا كمرشحين محتملين.



تعد فنزويلا والجزائر من الدول المنتجة فى الجنوب العالمى التى لديها احتياجاتها الإنمائية الخاصة، وتقع على هامش مناقشات انتقال الطاقة العالمى؛ حيث تنتميان إلى المجموعة المختارة التى لديها كل من احتياطيات الغاز والنفط بكميات كبيرة. تمتلك الجزائر نحو 12.2 مليار برميل من الاحتياطيات المؤكدة للنفط ونحو 4504 مليارات متر مكعب من الاحتياطيات المؤكدة للغاز الطبيعى. ونحو 94٪ من الصادرات الجزائرية هى وقود - 40٪ غاز طبيعى و30٪ نفط خام - وتستهلك أقل من 40٪ من إنتاجها من الغاز، ما يعنى أنها تستورد القليل جدا من حيث الطاقة.

التحدى الأوروبى المزدوج
يشرح هذا القسم التحدى المزدوج الذى واجهه السياسيون الأوروبيون منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية:
 أولا، يحتاجون إلى العثور على بديل مناسب لروسيا، وهو أمر ليس سهلا.
 ثانيا، يجب عليهم فى الوقت نفسه تسريع الصفقة الخضراء، ما يضمن للقطاع مزيجا طاقويا أكثر أمانا وفقا لأهداف خفض الكربون والاستدامة.
إن أوروبا مستورد صاف للمواد الخام وموارد الطاقة، أدت برامجها التدريجية إلى إغلاق العديد من منشآت الفحم والنووى فى منتصف العقد الأول من القرن الحادى والعشرين إلى جعل المنطقة أكثر اعتمادا على الإمدادات الروسية، وخاصة الغاز الطبيعى والنفط، وكذلك الأسمدة والحديد والصلب والمواد الأخرى. فى العقد الماضى، بنت شركة غازبروم الروسية شبكة بنية تحتية شاملة فى جميع أنحاء الاتحاد الأوروبى من خلال بناء خطوط الأنابيب، وتوقيع اتفاقيات تجارية تفضيلية. فى عام 2021، استورد الاتحاد الأوروبى نحو 57٪ من الطاقة التى استهلكها. من إجمالى واردات الطاقة هذه، جاء 42٪ من روسيا - 40٪ من الغاز الطبيعى، و45٪ من الفحم، و30٪ من النفط. ومع ذلك، ردا على غزو أوكرانيا، أعلن الاتحاد الأوروبى خطة Repower EU عام 2022، التى تهدف إلى تقليل الاعتماد على الواردات الروسية. وافقت الدول الأعضاء على حظر نحو 90٪ من واردات النفط، باستثناء الخام الذى يتم تسليمه عبر خطوط الأنابيب. فى الوقت نفسه، تم فرض عقوبات على روسيا وفرض سقف على واردات مشتقات النفط، كما دعا إلى مزيد من تنويع مصادر ومسارات الإمداد، وتحسين كفاءة الطاقة، والتخزين، وشبكات التوزيع، وتسريع تنفيذ الطاقة المتجددة.
 



على الرغم من الصعوبات، تمكن الاتحاد الأوروبى من تقليل اعتماده على الطاقة الروسية بشكل أسرع مما توقعه الكثيرون. طوال عام 2022، قامت الدول الأعضاء بتسريع العديد من المشروعات المتجددة، خاصة فى مجالى الطاقة الشمسية والرياح، ما وفر حوافز للإنتاج المحلى. تدخلت دول مثل الولايات المتحدة والنرويج لضمان إمدادات الغاز الطبيعى المسال. وقعت الشركات الأوروبية أكثر من مائة اتفاق تعاون فى مجال الطاقة لضمان الإمداد على المدى القصير. إضافة إلى ذلك، استفادت أوروبا من فصل الشتاء الأكثر دفئا وانخفاض الاستهلاك المحلى الذى خفف من ضغط الطلب. ومن ثم، بحلول منتصف عام 2023، انخفضت تدفقات خطوط الأنابيب الروسية إلى 80٪ من المستوى السابق للحرب.
هذا لا يعنى أن أوروبا خرجت من الأزمة بعد، لا تزال المخاطر مرتفعة؛ حيث تشير تقارير الطاقة إلى وجود فجوة بين العرض والطلب، حتى مع التخفيض المتوقع بالفعل فى استهلاك الغاز:
 أولا، قد لا تكون درجات حرارة الشتاء 2023-2024 معتدلة كما كانت فى 2022-2023.
ثانيا، يمكن لروسيا قطع جميع التدفقات المتبقية، ما يخلق صدمة جديدة.
ثالثا، إمدادات الغاز الطبيعى المسال مكلفة للغاية ومكلفة بيئيا، خاصة تلك القادمة من التكسير الهيدروليكى فى الولايات المتحدة. يمكن أن تكون زيادة مستوى إمدادات الغاز الطبيعى المسال أكثر صرامة، خاصة مع نمو الطلب الصينى وخلق المنافسة.
حفز ذلك العديد من القادة الأوروبيين على إيجاد طرق لحماية المستهلكين وتحفيز الإنتاج الوطنى للطاقة، اكتسبت السياسة الداخلية للانتقال المزيد من التركيز بالفعل منذ بدء الصراع. على سبيل المثال، تم تقديم إطار عمل جديد فى ديسمبر 2022 لتسريع نشر الطاقة المتجددة فى مختلف القطاعات وتسهيل إجراءات التصاريح لتثبيت البنية التحتية للطاقة الشمسية والرياح وغيرها من مصادر الطاقة المتجددة.
أدى التغيير المفاجئ فى أسعار الطاقة وأسواق المواد الغذائية وحركة الأشخاص والبضائع إلى الكشف عن عدم جدوى استبدال الإمداد بالكامل داخليا. كما أوضح أن أى انتقال بعيدا عن الوقود الأحفورى لا يمكن أن يحدث من يوم إلى آخر بسبب الاضطراب الاجتماعى الذى يمكن أن يسببه، والذى يتم بالفعل استغلاله فى الانتخابات المحلية فى جميع أنحاء أوروبا. وبهذه الطريقة، أكدت الحرب فقط أن الجغرافيا السياسية وأمن الطاقة وانتقال الطاقة مرتبطة ارتباطا وثيقًا أكثر مما قد يفترض المرء فى البداية.
إن الانتقال الطاقوى هو مسعى عالمى؛ حيث تتطلب مشروعات خفض الكربون مبالغ كبيرة من رأس المال وتطوير التكنولوجيا والوصول إلى موارد التعدين وتوافر الأراضى والتدريب واستعداد القوى العاملة. فى حين أن الاتحاد الأوروبى يمتلك المال والتكنولوجيا والدراية، إلا أنه يفتقر إلى الأراضى المتاحة وموارد التعدين القابلة للوصول، كما يفتقر إلى الدعم الشعبى والقوى العاملة لبناء وتشغيل الصناعات الجديدة. على العكس من ذلك، فإن معظم بلدان الجنوب العالمى، التى تعانى بالفعل العواقب المروعة لتغير المناخ، لديها حوافز أقل وأموال وتكنولوجيا أقل للتقدم فى مشروعات الاستدامة من تلقاء نفسها. الأهم من ذلك، أنها لا تمتلك السوق المحلية اللازمة لعملية خفض الكربون المستقرة. باختصار، يتطلب الانتقال الطاقوى المزيد وليس أقل من الترابط العالمى - على عدة مستويات ومستويات.
يجب أن يدفع هذا الوضع صانعى السياسات فى الاتحاد الأوروبى إلى البحث عن شراكات أمن الطاقة مع الدول الموردة، وربط الاحتياجات المحلية المختلفة فى كلا الجانبين لضمان علاقة أقل عرضة للتقلبات الجيوسياسية. إضافة إلى ذلك، يجب أن تقلق هذه الشراكات الأمنية للطاقة بشأن معالجة العواقب الضارة لتغير المناخ بشكل جماعى مع إدراك أن الجهات الفاعلة المختلفة لها مسئوليات مختلفة. يجب أن تكون هذه المشروعات قادرة على الاستجابة لاحتياجات المجتمعات بناء على مكان استكشاف الموارد، ما يؤدى إلى نقل رأس المال والمعرفة والتكنولوجيا والرفاهية. وإلا فإن الاستدامة العالمية ستكون بمنزلة آلية لتكثيف عدم التماثل بين البلدان الموردة والبلدان الصناعية. هنا، من المهم تأكيد أن هذه الاختلالات ستؤدى فى النهاية إلى حلقة تغذية مرتدة فى السياسة الأوروبية من خلال موجات الهجرة والتوترات السياسية واللاجئين البيئيين والردود القمعية وما إلى ذلك.
من ثم، يجب على الاتحاد الأوروبى اغتنام هذه الفرصة وتغيير طبيعة سياسته الخارجية مع الدول الموردة لتتناسب بشكل أفضل مع خطة التحول الأخضر الشاملة. إن الموازنة بين مطالب الإمداد قصيرة الأجل وأهداف الاستدامة طويلة الأجل هى اختبار لجميع قادة الاتحاد الأوروبى وستتطلب تفكيرا استراتيجيا ليس فقط من حيث السياسات الداخلية ولكن الأهم من ذلك العلاقات الخارجية.
سوف نتعمق فى حالتين مختلفتين تم الترويج لهما كبدائل: الجزائر وفنزويلا. الهدف هو تحديد ما إذا كانت هذه الفرصة فرصة رابحة لكلا الجانبين، ما يجب أن يؤدى بالاتحاد الأوروبى إلى تغيير سياسته الخارجية وفقا لذلك.

الجزائر: شريك طاقة واعد
الجزائر لديها إمكانات كبيرة لتكون بديلا لروسيا. اليوم، تعد من بين أفضل عشرين منتجًا للنفط وأفضل خمسة منتجين للغاز فى العالم، مع عدد قليل من احتياطيات الغاز المؤكدة غير المستغلة وثالث أكبر احتياطى للغاز الصخرى. النفط الخام الجزائرى عالى الجودة وخفيف وقليل الكبريت. إضافة إلى ذلك، تتمتع بموقع استراتيجى فى البحر الأبيض المتوسط. تذهب صادرات الغاز إلى الأسواق الأوروبية عبر ثلاثة خطوط أنابيب: ترانس ميد، ميدغاز، ومغرب - الاتحاد الأوروبى (مغلق منذ عام 2021).
 


فى الواقع، حاولت الجزائر الاستفادة من الغزو الأوكرانى من خلال الترويج لنفسها كشريك طاقة موثوق لأوروبا. وقد أثمر ذلك بالفعل، على الأقل من الناحية السياسية:
-  زار العديد من الوفود الأجنبية البلاد عام 2022، ما أدى إلى كسر عزلتها الدولية الأخيرة المرتبطة بالانتقادات القاسية التى وجهت إلى حكومة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة المسنة وقمع الشرطة لحركة الاحتجاج عام 2019.
- إن وزيرة الطاقة الأوروبية، كادرى سيمسون، والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، ورئيس المجلس الأوروبى شارل ميشيل، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، والممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية فى الاتحاد الأوروبى، جوزيب بوريل، من بين القلائل الذين تم استقبالهم فى الجزائر لمناقشة العلاقات الثنائية وتعزيز التعاون فى مجالات الطاقة والأمن والاقتصاد.
- أكدت سيمسون فى تصريحاتها بعد مناقشة مع وزير الطاقة الجزائرى محمد عرقاب خلال الحوار رفيع المستوى بين الاتحاد الأوروبى والجزائر على ضرورة مواصلة تطوير التعاون بين أوروبا والجزائر، ولا سيما فى مجال الغاز والطاقة المتجددة وصناعة الهيدروجين الأخضر. أكدت هذه الاجتماعات اهتمام الاتحاد الأوروبى بتوسيع العلاقات مع الجزائر.


احتلت الجزائر بالفعل المركز الثالث فى صادرات الغاز إلى أوروبا، وعلى عكس أكبر مصدرين حاليين للغاز الطبيعى المسال إلى أوروبا، الولايات المتحدة والنرويج، فإن الجزائر تصدر الغاز الطبيعى عبر خطوط الأنابيب. وهذا أمر مفيد على المدى الطويل؛ لأنه يتمتع بتكلفة إنتاج ونقل أقل نسبيا. تم توقيع العديد من الصفقات الثنائية مع الشركات الأوروبية منذ بداية عام 2022. على سبيل المثال، وقعت شركة إينى الإيطالية وأوكسيدنتال الأمريكية وتوتال الفرنسية مع سوناطراك، الشركة النفطية الجزائرية، عقد مشاركة فى الإنتاج بقيمة 4 مليارات دولار. بالمثل، تعمل إينى مع سوناطراك لتطوير المنشآت البحرية وحفر آبار جديدة وفتح الحقول غير المستغلة وتوسيع مرافق الاستخراج والتخزين.



صادرات الغاز الجزائرى إلى أوروبا فى 2023، عملت الجزائر على تعزيز صادراتها من الغاز لدول الاتحاد، وخاصة فى جنوب قارة أوروبا، التى سجلت مستويات قياسية خلال عام 2023، خاصة بعد أن تمكنت من طرح نفسها بديلا موثوقا بعد الغزو الروسى لأوكرانيا. وفى مايو 2023، تصدرت صادرات الغاز الجزائرى واردات إيطاليا الغازية.
على الرغم من عدم كفاية استبدال روسيا بالكامل، فإن الجزائر يمكن أن تكون جزءًا من استراتيجية أمن الطاقة طويلة الأمد للاتحاد الأوروبى. ومع ذلك، فهى تواجه العديد من التحديات التى يمكن أن تعرقل هذه العملية، منها:
 أولا، الاستهلاك المحلى للطاقة، الذى يتم تلبيته بالنفط والغاز المدعومين بشدة، آخذ فى الارتفاع. ومن المتوقع أن يستمر النمو بسبب السكان الشباب جدا، ما يعرض قدرة البلاد على التصدير على المدى الطويل للخطر. حتى الآن، تستهلك الجزائر أقل من نصف ما تنتجه من حيث الغاز، ولكن من المحتمل جدا ألا يظل الأمر كذلك. يتطلب التعامل مع هذا الأمر تحسين مزيج الطاقة والكفاءة فى الإنتاج والتخزين والاستهلاك. وهذا بدوره يتطلب الوصول إلى التقنيات الحديثة والاستثمارات بالإضافة إلى تغيير تدريجى فى لوائح الدعم على التوزيع المحلى.
 ثانيا، تعانى الجزائر جذب الاستثمار الأجنبى والمحلى الخاص لتحسين قطاع الطاقة وتوسيع سوقها المحلية. منذ انخفاض أسعار النفط عام 2014، واجهت البلاد ارتفاعا فى التضخم وارتفاعا فى البطالة وضعفا فى العملة. ذلك بالإضافة إلى البنية التحتية المصرفية غير المستقرة، والبيروقراطية البطيئة، وفضائح الفساد المتزايدة. بلغت ذروة عدم الرضا الاحتجاجات التى اندلعت عام 2019 التى أجبرت الرئيس بوتفليقة على عدم الترشح لولاية خامسة. زاد وباء كوفيد -19 من الشعور بالكارثة الاقتصادية وعدم الرضا المتزايد. مع اعتقال الناس حتى يومنا هذا واستمرار الشعور بالقلق السياسى، فإن الوعى بالمخاطر لدى المستثمرين الخاصين، المحليين أو الأجانب، مرتفع.
تعمل الجزائر من خلال رصد استثمارات ضخمة على زيادة احتياطيات وإنتاج البلاد من النفط والغاز، للسعى نحو اقتناص فرص تصديرية جديدة والاستفادة من زيادة الطلب على الغاز الطبيعى كونه وقودا انتقاليا، والبحث الأوروبى عن بديل للوقود القادم من موسكو.
 

كما طرح وزير الطاقة الجزائرى السابق، عبد المجيد عطار، 10 توصيات من أجل إصلاح منظومة الطاقة فى الجزائر، وإزالة التشوهات الموجودة بها.


فنزويلا.. الأمر يتعلق بالسياسة، يا صديقى"It's politics, stupid":


عبارة  "It's politics, stupid"هى عبارة شهيرة فى السياسة الأمريكية تعنى أن القضايا السياسية هى المحرك الرئيسى للأحداث، بغض النظر عن العوامل الأخرى. عندما نقول "فنزويلا :الأمر يتعلق بالسياسة، يا صديقى" فإننا نعنى أن الأزمة فى فنزويلا ليست مجرد أزمة اقتصادية أو اجتماعية، بل هى فى المقام الأول أزمة سياسية.

مثل الجزائر، تعد فنزويلا أيضا مرشحا بديلا محتملا للصادرات الروسية. وعلى عكس الجزائر، فإن قطاع النفط الفنزويلى هو أحد أقدم القطاعات فى العالم، ويعود تاريخه إلى عام 1914. وعلى مدى عقود، قدمت الشركات الأمريكية الخبرة التقنية لتكرير الخام الثقيل للغاية من حزام أورينوكو المربح للغاية.
تمتلك فنزويلا أكبر احتياطى مؤكد من النفط الخام فى العالم عام 2023 بنحو 303 مليارات برميل، وهو ما يمثل نحو 17% من إجمالى الاحتياطيات العالمية، ما يجعلها منتجا رئيسيا للنفط منذ اكتشافه فى البلاد عام 1922. ويمكن عدُّ فنزويلا بمنزلة دراسة حالة حول مخاطر التحول إلى دولة يعتمد اقتصادها بشكل رئيسى على النفط، ويرى المجلس الأمريكى للعلاقات الخارجية أن ذلك هو أحد الأسباب الرئيسية لركود الاقتصاد الفنزويلى.
طوال العقد الأول من حكم تشافيز، وخاصة بعد الإضراب الوطنى عام 2002 ومحاولة الانقلاب عام 2003، تم فصل العديد من الأشخاص فى شركة النفط الفنزويلية، وتم مراجعة العقود مع الشركات عبر الوطنية، وتمت مصادرة العديد من الشركات. نتيجة لذلك، نشأت معارك قانونية، وانخفض الاستثمار، وتم تجميد الأصول، وخفضت الشركات عبر الوطنية العمليات، وتضخمت فضائح الفساد وسوء الإدارة، وانخفض إنتاج النفط بشكل عام. ومع ذلك، فإن فنزويلا التى كانت تكافح بالفعل مع الأعطال المؤسسية فى شركة النفط الفنزويلية شهدت انخفاضا فى إيراداتها مع انخفاض أسعار النفط العالمية عام 2014. جاء ذلك بعد أقل من عام على وفاة تشافيز، الذى أدى إلى غمر البلاد فى صراع سياسى بين خليفته نيكولاس مادورو، والمعارضة التى شككت فى شرعيته. أدى عدم الاستقرار الاقتصادى والسياسى إلى التضخم المفرط وأزمات النقص والعقوبات الدولية والقمع السياسى وتدفقات الهجرة. بحلول انتخابات مادورو لعام 2018، كانت البلاد غارقة فى كارثة سياسية واجتماعية وإنسانية واقتصادية.
عدَّ معظم الفاعلين الغربيين، بما فى ذلك الاتحاد الأوروبى، حكم مادورو غير شرعى، وأدانوا انتهاكاته للسلطة، وكثفوا العقوبات ضد النظام. وفى يناير 2019، اعترفوا بالبرلمانى خوان غوايدو رئيسا مؤقتا بعد إعلانه عن نفسه. وفى العام نفسه، فرض الرئيس الأمريكى دونالد ترامب حصارا اقتصاديا، جمد الأصول، وحظر أى نوع من المعاملات مع فنزويلا. وهذا يعنى أنه لا يمكن لأى دولة أو شركة التفاوض مع شركة النفط الفنزويلية (PDVSA) دون المخاطرة بفرض عقوبات عليها من قبل الولايات المتحدة. ومن ثم، تعرضت صناعة النفط الفنزويلية التى كانت بالفعل فى حالة تدهور قبل العقوبات، لضربة قاتلة. بعد أن كانت واحدة من أكبر منتجى العالم؛ حيث ضخت نحو 3.2 مليون برميل يوميا فى التسعينيات، أنتجت الشركة نحو 673 برميل يوميا عام 2022.

من المثير للاهتمام أن روسيا كانت واحدة من أكبر الرابحين من الأزمة الفنزويلية، ففيما أعلن ترامب أن الولايات المتحدة دولة مستقلة فى مجال الطاقة، فإنها لم تتوقف عن استيراد النفط - خاصة الخام وغير المكتمل - لتلبية الطلب المحلى. وبعد حظر عام 2019، بدأت مصافى النفط الأمريكية فى استبدال الخام الفنزويلى بخامات ثقيلة مماثلة من خام الأورال الروسى. وفى الوقت نفسه، عزز الروس مشاركتهم فى الأسواق الفنزويلية، ليصبحوا بسرعة شريكا اقتصاديا وعسكريا رائدا. لتسهيل التغلب على العقوبات الأمريكية، نقلت شركة النفط الفنزويلية PDVSA مقرها الرئيسى من لشبونة إلى موسكو وواصلت الأعمال؛ حيث قامت بتصدير النفط بأسعار أقل بمساعدة الصين وإيران وتركيا.
من المفارقات أنه الآن وبعد أن فرضت عقوبات على روسيا أكثر من فنزويلا، يشير بعض مستشارى النفط والعلماء والسياسيين إلى كاراكاس كبديل بديل. فى الواقع، يمكن أن تكون الأزمة الأوروبية هى ما كان مفقودا لمادورو للحصول على الاعتراف العالمى الذى يرغب فيه بشدة. شهد الاقتصاد انتعاشا معتدلا منذ ارتفاع أسعار النفط عام 2022. على العكس من ذلك، لم تنجح سياسة الضغط الأقصى التى اتبعها ترامب فى إجبار مادورو على ترك السلطة، بل عملت فى كثير من النواحى كأداة سردية لتعزيز الخطاب المعادى للإمبريالية الشافيزى.
لذلك، على الرغم من أن الأزمة الأوكرانية تمثل فرصة، فإنها لا تقدم سيناريو رابحا فوريا لكل من دول الاتحاد الأوروبى وفنزويلا، فالسياسة تسبق أى مفاوضات طاقة فعلية، وذلك لأن مسألة التراجع الديمقراطى فى فنزويلا تم تأمينها داخل السياسة الأمريكية والأوروبية، يعنى تأمين القضية رفع قضية السياسة الخارجية إلى مستوى "خاص" من السياسة، وتحويلها إلى نقاش وطنى أوسع حول التهديدات والأمن.

أخيرا، فإن السيناريو طويل الأجل المتعلق بالانتقال الطاقوى ليس ذا صلة كبيرة بالعلاقات بين الاتحاد الأوروبى وفنزويلا حتى الآن. فحتى الآن، هناك القليل من الفرص المتاحة لجعل فنزويلا جذابة لسوق الطاقة الخضراء فى الاتحاد الأوروبى، حيث إن هناك نقصا فى التكامل بين الصناعات، وهناك عامل المسافة، وخاصة فى سياق المنافسة المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة فى أمريكا اللاتينية، يؤدى الاتحاد الأوروبى دورا ثانويا هناك. إضافة إلى ذلك، وعلى عكس الجزائر، لم يتم تحديد إزالة الكربون كحالة طوارئ من قبل النخب السياسية الفنزويلية حتى الآن، حيث إن استهلاك الطاقة فى البلاد لا يعتمد بشكل كبير على الوقود الأحفورى. وفى النهاية، فإن رؤى الشافعية حول الاشتراكية البيئية لا تقرب البلاد من نهج الصفقة الخضراء للاتحاد الأوروبى.

خلاصة القول، ناقشت هذه الدراسة ما إذا كان بإمكان أوروبا استغلال الحرب الأوكرانية لتغيير طبيعة علاقاتها مع الجزائر وفنزويلا وكيفية القيام بذلك. وأظهرت كيف أن الموقع الجغرافى والسياقات السياسية والبنية التحتية السابقة والمصالح المحلية المشتركة ضرورية لتحديد من يمكنه استبدال روسيا. وفى حين تمكنت من تلبية الطلب من خلال واردات الغاز الطبيعى المسال فى العام الماضى، إلا أن المشكلة لا تزال كامنة ولم يتم العثور على حل نهائي. وفى الوقت نفسه، أدت الأزمة إلى تسريع النقاش فى أوروبا بشأن انتقال الطاقة وتعزيز الطاقة المتجددة للتخفيف من تغير المناخ.
من الدروس المستفادة من أزمة أوكرانيا، أن السياسات المتعلقة بأمن الطاقة يجب أن تكون على اتصال ليس فقط باحتياجات التحول المحلى ولكن أيضا بالتحولات الجيوسياسية. ويجب أن ينعكس هذا التعقيد فى عملية صنع القرار فى السياسة الخارجية، ومن شأن ذلك تمكين الاتحاد الأوروبى من الجمع بين احتياجاته قصيرة الأجل من إمدادات الطاقة وأهدافه طويلة الأجل فى مجال انتقال الطاقة.
أظهرت الدراسة، أنه بينما أبدت كل من حكومتى كاراكاس والجزائر اهتماما بترويج نفسها كبديلين عن موسكو، فإن الجزائر فقط قدمت سيناريو رابحا مثيرا للاهتمام. ويمكن لأعضاء الاتحاد الأوروبى والجزائر اكتساب الزخم لتغيير علاقتهما بطريقة ذات مغزى، وهذا يتطلب من الأوروبيين إدراك الجزائر ليس فقط كبديل للإمدادات الروسية ولكن أيضا - وربما الأهم من ذلك - كشريك فى أمن الطاقة، وذلك لعدة أسباب:
- تتمتع الجزائر بموقع استراتيجى فى البحر الأبيض المتوسط مع اتصال خط أنابيب قائم، ما يسهل تكاليف النقل.
- لديها البنية التحتية لبدء زيادة الإنتاج، وشركة سوناطراك - وشركة سونيلجاز التابعة لها - تتمتع بسمعة شريك موثوق يمكنه التعاون مع شركات الاتحاد الأوروبى الأخرى.
- ترى الجزائر أن الطاقة المتجددة أمر أساسى لأمنها الطاقوى، الذى يعتمد بشدة على الغاز.
من ثم، فإن إمكانية شراكات أمن الطاقة موجودة، وهناك جهات فاعلة محلية ودولية مختلفة على استعداد للمشاركة فى مثل هذه المساعى. ويتوقف الأمر على الحكومتين الجزائرية والأوروبية لتوفير الضمانات المناسبة لتقدم هذه التعاونات. ومن شأن تعزيز مشروعات الطاقة الشمسية والهيدروجين فى الجزائر أن يربط بين أهداف الإمداد قصيرة الأجل وأهداف الانتقال طويلة الأجل فى أوروبا. كما أنه من شأنه أن يعزز تطوير قطاع الطاقة المتجددة فى الجزائر مع التدفقات النقدية اللازمة التى لا يمكن الوصول إليها إلا محليا بسبب ضعف الطلب المحلى.
مع ذلك، لا تمتلك الجزائر اليوم رأس المال أو التكنولوجيا اللازمة لبناء السوق المحلية للطاقة المتجددة ولا القوة السياسية للتأثير فى سلوك الاستهلاك لتمكين الطاقة المتجددة من منافسة الوقود الأحفورى. من ثم، يجب أن تجذب المستثمرين الأجانب والتعاون الدولى والشراكات عبر الوطنية لتنويع مزيج الطاقة لديها، ويجب أن تساعد شراكة أمن الطاقة التى تركز على انتقال الطاقة الجزائر على تقليل اعتمادها الكلى على الإيجارات الاستخراجية وتعزيز الجهات الفاعلة المحلية لتطوير قطاعات إنتاجية أخرى، مما يؤدى إلى تحول قطاع تصاعدى وتنازلى.

على العكس من ذلك، فإن الحالة الفنزويلية أكثر تقييدا بسبب العوامل السياسية التى تسبق مناقشة أمن الطاقة؛ فمنذ بداية حكم تشافيز، وخاصة مع مادورو، تم تأمين الصراع السياسى الفنزويلى من قبل الجهات الفاعلة الغربية، واشترطت الولايات المتحدة الوصول إلى موارد الطاقة الفنزويلية على تغيير السياق السياسى للبلاد من خلال وضع الديمقراطية الفنزويلية على المستوى الأمنى للسياسة الدولية، لا تستطيع الدول التى انتقدت حكومة مادورو ببساطة الانخراط فى مفاوضات واسعة النطاق دون إثارة مناقشات ساخنة بين دوائرها السياسية الخاصة، ما يؤدى إلى مخاطر سياسية عالية فى كثير من الأحيان. لذلك، كانت تدابير تخفيف العقوبات حتى الآن مخصصة للحالات المحددة، مع تغطية إعلامية قليلة ومشروطة بكيفية رؤية الغرب للمفاوضات بين المعارضة والشافيستيين.
إضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تكون الاستثمارات اللازمة لإعادة فنزويلا إلى سوق النفط العالمى مرتفعة للغاية، وستعتمد بلا شك على الجهات الفاعلة الأجنبية؛، حيث إن البلاد لا تمتلك رأس المال والتكنولوجيا اللازمين .والآن، لا يستطيع سوى عدد قليل من الجهات الفاعلة إرسال هذا المبلغ من رأس المال أو التكنولوجيا دون المخاطرة بفرض عقوبات عليه من قبل الولايات المتحدة .بالإضافة إلى ذلك، هناك مسألة نقص العمالة الماهرة، بالنظر إلى العدد الهائل من الفنزويليين الذين هاجروا منذ عام 2019.
على الرغم من أن أوروبا تمكنت من تلبية الطلب على الطاقة عام 2023 من خلال واردات الغاز الطبيعى المسال، فإن المشكلة لا تزال قائمة ولم يتم العثور على حل نهائى .وفى الوقت نفسه، أدت الأزمة إلى تسريع الجدل فى أوروبا بشأن انتقال الطاقة وتعزيز مصادر الطاقة المتجددة للتخفيف من آثار تغير المناخ. ومن استنتاجات أزمة أوكرانيا أن السياسات المتعلقة بأمن الطاقة يجب أن تكون على اتصال ليس فقط باحتياجات التحول المحلية ولكن أيضا بالتحولات الجيوسياسية، ويجب أن ينعكس هذا التعقيد فى عملية صنع القرار فى السياسة الخارجية. وهذا من شأنه تمكين الاتحاد الأوروبى من الجمع بين احتياجاته قصيرة الأجل من إمدادات الطاقة وأهدافه طويلة الأجل فى مجال انتقال الطاقة.

أظهرت الدراسة أنه فى حين أبدت كل من حكومتى فنزويلا والجزائر اهتماما بتعريف نفسيهما كموردين بديلين عن روسيا، فإن الجزائر فقط قدمت سيناريو رابحا للطرفين؛ حيث يمكن لأعضاء الاتحاد الأوروبى والجزائر اكتساب زخم لتغيير علاقتهما بطريقة مجدية .وهذا يتطلب من الأوروبيين إدراك الجزائر ليس فقط كمورد بديل للغاز الروسى ولكن أيضا، وربما الأهم من ذلك، كشريك موثوق بمجال أمن الطاقة.
هناك عدة عوامل تجعل الجزائر شريكا أكثر جاذبية من فنزويلا بالنسبة للاتحاد الأوروبي:
• الموقع الجغرافي: تتمتع الجزائر بموقع استراتيجى فى البحر الأبيض المتوسط مع اتصال خط أنابيب قائم، ما يسهل عملية النقل ويقلل التكاليف.
• البنية التحتية: تمتلك الجزائر البنية التحتية اللازمة لتعزيز إنتاج الغاز، كما تتمتع شركة سوناطراك - وشركة سونيلغاز التابعة لها - بسمعة طيبة كشريك موثوق يمكنه التعاون مع شركات الاتحاد الأوروبى الأخرى.
• الطاقة المتجددة: ترى الجزائر أن الطاقة المتجددة ضرورية لأمنها الطاقوى الذى يعتمد حاليا بشكل كبير على الغاز.
ومن ثم، فإن إمكانية عقد شراكات أمن الطاقة بين الجزائر والاتحاد الأوروبى قائمة، وهناك جهات فاعلة محلية ودولية مختلفة على استعداد للمشاركة فى مثل هذه المساعى.

مع ذلك، فإن الجزائر اليوم تفتقر إلى رأس المال والتكنولوجيا اللازمة لتنمية سوقها المحلية للطاقة المتجددة أو التأثير فى سلوكيات الاستهلاك لجعل الطاقة المتجددة قادرة على المنافسة مع الوقود الأحفورى .لذلك، يجب على الجزائر جذب المستثمرين الأجانب والتعاون الدولى والشراكات عبر الوطنية لتنويع مزيج الطاقة لديها .يجب أن تساعد شراكة أمن الطاقة التى تركز على انتقال الطاقة الجزائر على تقليل اعتمادها الكلى على عائدات استخراج النفط والغاز وتعزيز الجهات الفاعلة المحلية لتطوير قطاعات إنتاجية أخرى، ما يؤدى إلى تحول تصاعدى وتنازلى فى هذا القطاع.
على النقيض من ذلك، فإن الحالة الفنزويلية أكثر تعقيدا بسبب العوامل السياسية التى تسبق مناقشة أمن الطاقة .منذ بداية حكم تشافيز، وخاصة مع مادورو، تم تأمين الصراع السياسى الفنزويلى من قبل الجهات الغربية .اشترطت الولايات المتحدة الوصول إلى موارد الطاقة الفنزويلية على تغيير السياق السياسى للبلاد. بسبب تسييس مسألة الديمقراطية الفنزويلية على المستوى الدولى، لا تستطيع الدول التى انتقدت حكومة مادورو ببساطة الدخول فى مفاوضات واسعة النطاق مع فنزويلا دون إثارة مناقشات سياسية داخلية حساسة .لذلك، كانت تخفيضات العقوبات حتى الآن محدودة ومشروطة بكيفية رؤية الغرب للمفاوضات بين المعارضة والشافيستيين.


رابط دائم: