تأثير الانتخابات الأمريكية فى مستقبل العقوبات الإيرانية
30-7-2024

د.وليد عبد الرحيم جاب الله
* خبير الاقتصاد والمالية العامة، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع

إذا كانت المصلحة الأمريكية هى الهدف والغاية لكل من الحزبين الجمهورى والديمقراطى، فإننا نجد تباينا فى أساليب تحقيق تلك المصلحة، بما فى ذلك اختلافهما التاريخى حول ملف العقوبات الإيرانية، الذى سيتأثر ويتشكل حسب نتيجة الانتخابات الأمريكية القادمة.

بالنظر إلى عقيدة الحزب الديمقراطى نجد أنها تسمح بهامش تعاون مع القوى السياسية ذات المرجعيات الدينية، إذا كان ذلك يحقق المصالح الأمريكية، وبدا ذلك خلال تعامل الإدارة الديمقراطية برئاسة كارتر مع الأحداث الإيرانية مطلع عام 1979؛ حيث كشفت وثائق أمريكية رُفعت عنها درجة السرية، أن كارتر وافق على دعم الخمينى بعد أن وصلته رسائل طمأنة بأنه مرحب بالتعاون مع الولايات المتحدة، وأنه مقتنع بأن مصلحة إيران فى استمرار الصداقة الأمريكية. الأمر الذى دفع نحو عرقلة أمريكا لسيناريو انقلاب الجيش على الشاه، كمسار للخروج من الأزمة فى ذلك الوقت، ويتم تمهيد عودة الخمينى، كما أبدت الإدارة الديمقراطية الأمريكية مرونة تجاه صياغة دستور إيرانى يؤسس لنظام حكم "ولاية الفقيه" بناء على تعهدات من الخمينى بأنه سيعمل على حماية المصالح الأمريكية، وسيحرص على سلامة مواطنيها، وبأنه لن يعمل على تصدير الثورة، ولن يُعادى الأنظمة العربية المُجاورة كالسعودية والعراق والكويت، وأنه سيضمن استمرار النفوذ الأمريكى فى إيران، وهى الأمور التى لم يتحقق منها شىء، لتثبت الأحداث بعد ذلك خسارة الرهان الديمقراطى. تبدأ العقوبات الأمريكية على إيران مُبكرا، فى نوفمبر 1979، ارتباطا باستيلاء مجموعة من الطلاب الثائرين على السفارة الأمريكية واحتجازهم 52 أمريكيا، لتقرر الولايات المتحدة تجميد نحو 12 مليار دولار من الأصول الإيرانية لديها، وتفرض حظرا اقتصاديا على إيران، ثم يتوالى استخدام سلاح العقوبات فى ظل اتخاذ النظام الإيرانى لسياسات تتعارض كليا مع المصالح الأمريكية.

رغم كل ما فعله النظام الإيرانى من أمور تتعارض مع المصالح الأمريكية، فإن الديمقراطيين استمروا مقتنعين بأنه يمكنهم التفاهم معه، واتخاذ ذلك نموذجا لتفاهمات أوسع مع القوى السياسية الدينية فى العالم، فتزعمت الإدارة الديمقراطية الدفع نحو مسار التفاوض مع إيران بشأن ملفها النووى، ليشهد عام 2015 توقيع الاتفاق النووى بين إيران من جانب والولايات المتحدة وشركائها من جانب آخر، ذلك الاتفاق الذى تضمن التزامات تحد من نطاق البرنامج النووى الإيرانى، وتضعه تحت الرقابة، فى مقابل إلغاء منظم للعقوبات على إيران بإيقاع متزامن مع التحقق من التزامها بتنفيذ الاتفاق. ومع وصف الرئيس أوباما هذا الاتفاق بأنه اتفاق تاريخى، وأنه الخيار الأمثل للتعامل مع طهران، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلى عبر عن رفض إسرائيل لهذا الاتفاق جملة وتفصيلا، وعدَّه خطأ تاريخيا.

التوجه الجمهورى بشأن العقوبات الإيرانية:

مع وصول الإدارة الجمهورية للبيت الأبيض أعلن الرئيس ترامب فى مايو 2018 انسحاب بلاده من الاتفاق النووى الإيرانى الموقع عام 2015، وإعادة العمل بالعقوبات الأمريكية على طهران. وبتتبع تعامل إدارات الحزب الجمهورى مع إيران نجد أنها تبدو أكثر استخدما لسلاح العقوبات ضد إيران، منذ أن قرر الرئيس "الجمهورى" رونالد ريجان عام 1987 حظرا على الواردات الإيرانية للولايات المتحدة، وقلص من صادرات بلاده لها ارتباطا بسلوكياتها العدائية لأمريكا ودول الخليج، ودعمها للإرهاب.

فى عهد الرئيس "الجمهورى" جورج بوش الابن، بدأت العقوبات الأمريكية المرتبطة بالملف النووى الإيرانى عام 2006، وتم استخدام النفوذ الأمريكى فى مجلس الأمن من أجل استصدر القرار رقم 1696 الذى طالب إيران بوقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم، والذى رفضته إيران، ليصدر المجلس قراره رقم 1737 فى ديسمبر 2006 متضمنا فرض عقوبات تجارية مرتبطة بحظر توريد التكنولوجيا والمواد ذات الصلة بالطاقة النووية لإيران، وتجميد أصول الأفراد والشركات ذات الصلة ببرنامجها لتخصيب اليورانيوم، وتلا ذللك قرار مجلس الأمن رقم 1747 فى أكتوبر 2007 الذى فرض حظرا على توريد الأسلحة من إيران وإليها، وشدد من إجراءات تجميد الأصول الإيرانية.

خلال فترة الرئيس الجمهورى جورج بوش الابن، قررت الولايات المتحدة عقوبات تفصيلية على إيران شملت استثمارات النفط، والغاز، والبتروكيماويات، والمعاملات البنكية، والتأمينات، والشحن، وغير ذلك، وهى العقوبات التى تم التخفيف منها بعد توقيع الإدارة الديمقراطية على الاتفاق النووى مع إيران عام 2015، الذى انسحب منه الرئيس "الجمهورى" ترامب عام 2018، وأعاد استخدام سلاح العقوبات ضد إيران، الذى منه التضييق على صادرات النفط الإيرانى، وتقرير عقوبات مالية على البنوك الإيرانية، واستخدام النفوذ الأمريكى فى وضع إيران على القائمة السوداء الخاصة بمجموعة العمل المالى فى أغسطس 2020.

التوجه الديمقراطى بشأن العقوبات الإيرانية:

مع عودة الإدارة الديمقراطية برئاسة بايدن لتولى الحكم فى الولايات المتحدة الأمريكية، بدا ملاحظا تهدئة المسار التصعيدى للعقوبات ضد إيران؛ حيث تبنى الديمقراطيون سياسة الإدارة المرنة للعقوبات، لنجد أن بايدن أمر بتعليق العقوبات عدة مرات خلال فترة ولايته، ومن ذلك ما تقرر فى فبراير 2022 من إعفاء للشركات الروسية، والصينية، والأوروبية من العقوبات كإجراء لدعم المحادثات الأمريكية الإيرانية غير المباشرة، وفى يوليو 2023 تم السماح بالإفراج عن عدد من الأصول الإيرانية فى العراق كجزء من ثمن غاز طبيعى سبق أن استوردته إيران من العراق، وفى أغسطس 2023 منح بايدن النظام الإيرانى إمكانية الوصول إلى نحو 6 مليارات دولار من العملات الأجنبية النفطية التى كانت مجمدة فى حساب مصرفى بكوريا الجنوبية كجزء من صفقة إطلاق سراح خمسة رهائن أمريكيين من إيران، وفى مارس 2024 سمح بايدن لإيران بالوصول إلى عشرة مليارات دولار سبق أن جمدها ترامب، شريطة استخدامها للأغراض الإنسانية.

مع تلك المرونة نجد أن الإدارة الديمقراطية تنفى تساهلها مع إيران لتعلن فى بيان صادر من البيت الأبيض أن بايدن قد فرض عقوبات على أكثر من 600 فرد وكيان مرتبط بإيران، مثل حماس، وحزب الله، والحوثيين.

العقوبات الإيرانية بين الديمقراطيين والجمهوريين:

بالنظر إلى عقيدة الحزب الديمقراطى، نجد أنها تبدو أكثر مرونة فى ملف العقوبات الإيرانية، ولديها عقيدة أن الحوار مع إيران يمكن أن يحقق نتائج إيجابية أكثر من الشدة المفرطة معها، ولعل ذلك بدا واضحا فى هندسة الإدارة الديمقراطية لحجم الفعل ورد الفعل، عندما تم تجاوز الخطوط الحمراء للصراع الإيرانى الإسرائيلى فى أبريل الماضى 2024، التى سمحت فيها الولايات المتحدة لإيران بحفظ ماء وجهها بعد ضرب إسرائيل لقنصليتها فى سوريا، والسماح لها برد فعل يطول الداخل الإسرائيلى دون أن يحقق خسائر مؤلمة، على أن ترد إسرائيل بضربة أخف حدة لإحدى المنشآت الإيرانية يثار بشأنها الجدل، ثم العودة لقواعد الاشتباك غير المباشر التى تنظم الصراع بينهما منذ سنوات.

أما الحزب الجمهورى، فإن سياسته مع إيران تحكمها القوة، والعقوبات المفرطة، وهذه السياسة حققت آثارا سلبية كبيرة فى الاقتصاد الإيرانى، التى منها حرمانه من جانب كبير من قدرته النفطية، ما خلق عجزا ماليا دفع نحو انهيار متتالٍ لقيمة العملة الإيرانية، بما ترتب على ذلك من انخفاض فى قدرة الدولة على صناعة النمو، وامتلاك مقومات التطور، وقد وصل الأمر إلى سقوط طائرة أمريكية متهالكة استقلها الرئيس الإيرانى، إبراهيم رئيسى، لتتسبب فى وفاته، ارتباطا بمعاناة إيرانية فى صيانة الطائرات، وصلت إلى تصنيف سلاح الجو لديها بأنه ثغرة فى قوتها العسكرية، ليكون ذلك مثالا على أنه ورغم تعايش إيران مع العقوبات لسنوات طويلة فإن استمرار تلك الحالة سيكون أكثر إيلاما مستقبلا فى حال تولى ترامب الجمهورى الرئاسة الأمريكية.

والمعضلة الأساسية تتمثل فى أن النظام الإيرانى بطبيعته الحالية لا يمكنه التعايش وضمان أمنه داخل حدوده، ما يجعله باحثا دائما عن أوراق ردع تضمن وجوده، التى من أهمها برنامجه النووى، ووكلاؤه فى الخارج الذين نجحوا فى خلق حالة من الاضطراب فى المنطقة، فيما تمثل التحركات الإيرانية الخارجية مساسا حقيقيا بالأمن الإقليمى والدولى لن تنظر إليه الولايات المتحدة والعالم نظرة المتفرج. وهنا ستنتظر إيران الانتخابات الأمريكية القادمة لتستقبل عام 2025 إما بإدارة ورئيس أمريكى من الحزب الجمهورى وسع من نطاق العقوبات الإيرانية، ليعمل على خنق نظام طهران وإنهاكه للحد من خطورته الإقليمة دون ثمة تفاهم، أو إدارة ورئيس من الحزب الديمقراطى يكون أكثر تفهما مع محددات أمن النظام الإيرانى، ويفتح الباب للحوار والوصول إلى توازن قوى فى المنطقة، رغم ما سيلقاه ذلك من معارضة ورفض كامل من إسرائيل، وتشكك من عدد من حلفاء الولايات المتحدة فى المنطقة.


رابط دائم: