طالع الجميع فى يوم الأحد، الحادى والعشرين من يوليو2024 ، قرار الرئيس الأمريكى الحالى جو بايدن بالانسحاب من سباق الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها فى نوفمبر من هذا العام، وتحويله التذكرة الانتخابية لنائبته كامالا هاريس، رغم إعلانه فى أبريل الماضى أنه سيخوض السباق لمدة ثانية ليستكمل ما بدأه فى مدته الأولى[1]. جاء هذا فى خضم ضغوط عديدة من عدة فاعلين داخل الحزب الديمقراطى.
ويعد بايدن المرشح الثامن فى تاريخ الولايات المتحدة الذى ينسحب من السباق وأشهرهم، فقد انسحب هارى ترومان عام 1952 وليندون جونسون عام 1968 اللذان للمصادفة كانا مرشحى الحزب الديمقراطى[2]. وهذه المعلومة الأخيرة تجعل التركيز على الحزب الديمقراطى زاوية مهمة فى النظر على قرار بايدن للانسحاب، لذلك سؤالنا هنا ليس لماذا قرر بايدن الانسحاب، ولكن ما دور الحزب الديمقراطى وراء انسحابه؟ وما تأثير ذلك فى السباق الانتخابى من منظور الحزب؟
يركز أى حزب فى أى نظام سياسى فى العالم على هدف رئيسي وهو الوصول إلى أعلى الهرم السياسى التنفيذى وهو رئاسة الحكومة، وتستخدم الأحزاب للوصول إلى هذا الهدف، فى غالبية الوقت، الطرق السياسية الرسمية مثل الانتخابات عكس التنظيمات السياسية الأخرى مثل الحركات وجماعات الضغط وغيرهما. وهذا جزء مهم من إطار تحليل قرارات الأحزاب السياسية. ثلاثة أشهر كاملة، منذ الثالث والعشرين من أبريل الماضي وحتى الحادى والعشرين من يوليو، كانت كافية لقادة وأعضاء الحزب الديمقراطى ليقرروا أن جو بايدن يجب أن ينسحب ويفسح المجال الانتخابى لمرشح آخر عن الحزب.
ماذا كان يدور قبل انسحاب بايدن؟
فى المناظرة الرئاسية بين ترامب وبايدن التي أقيمت فى 28 يونيو الماضي أدى الأخير أداء لا يليق، بالنسبة إلى العديد من الأمريكيين، برئيس حالى للولايات المتحدة، ولا مرشح لتولى أربع سنوات أخريات. وهذه المناظرة هى نقطة فارقة فى اتخاذ قرار أن بايدن لا بد له من الانسحاب لمصلحة الحزب وعلى هذا الأساس بدأت الضغوط عليه.
بدأ سقوط بايدن منذ عدة أشهر مع توسيع الفارق بين ترامب وبايدن فى استطلاعات الرأى، ولكن ما ظهر أكثر بعد المناظرة بين بايدن وترامب أن ترامب أخذ يتفوق أكثر على بايدن، بالإضافة إلى تفوق ترامب فى ولايات مثل ولاية بنسلفانيا، وهى ولاية متأرجحة يجب أن يفوز بها بايدن ليكسب 20 صوتا فى المجمع الانتخابى، وولاية فيرجينيا التى تُعد ولاية ديمقراطية، ولكن بدأت نسب تأييد الديمقراطيين فيها تتراجع[3]. وكانت أهم نقطة فى هذا الجانب أن ثلاثة أرباع مؤيدى الحزب الديمقراطى يرون أنه ستكون هناك فرصة أفضل للديمقراطيين أن يفوزوا بالانتخابات فى حالة لم يكن بايدن هو المرشح الديمقراطى للانتخابات. كما أن 34% من مؤيدى ترامب سجلوا أنهم سيعطون صوتهم لترامب لأنهم لا يريدون بايدن أن يتولى مدة أخرى[4].
ظهرت الخسائر المالية لحملة بايدن؛ حيث إنه مع بداية شهر يوليوالجارىأعلن العديد من ممولى الحملة الانتخابية للديمقراطيين أنهم سيعطلون وصول أموال التبرعات حتى ينسحب بايدن من السباق[5]. وأهمهم أبيجيل ديزنى التى أكدت أنها لا تتوقع فوز بايدن بالانتخابات، وأنه لا فائدة من الاستمرار فى تمويل حملته الانتخابية. والعديد من كبار الممولين الآخرين أكدوا عدم دعمهم لاستمرار بايدن فى السباق والبعض رشح هاريس، نائبة الرئيس، لتحل محله[6].
بدأت بعد ذلك الخسائر الحزبية لبايدن منذ نصف شهر يوليو، وقبل انسحاب بايدن بأيام بدأ العديد من قيادات الحزب الديمقراطى بالضغط على بايدن لكى ينسحب من السباق الانتخابى، أهمهم قادة الكتلة الديمقراطية فى مجلس النواب ومجلس الشيوخ وهم حكيم جيفريس وشاك شومر فى اجتماعات لهم مع بايدن، والنائبان كانا يوصلان إلى بايدن رأى الكتلتين داخل المجلسين أنه من الأفضل للجميع أن ينسحب[7].
ووصل عدد أعضاء الحزب المطالبين بانسحاب بايدن إلى أكثر من ثلاثين من بينهم قيادات ثقيلة داخل الحزب أهمهم باراك أوباما[8]ونانسى بيلوسى، رئيسة مجلس النواب السابقة، وجون تيستر ومارتن هاينريش وهما عضوان حاليان من مجلس الشيوخ عن نيوميكسكو، وأربعة من أعضاء مجلس النواب الحاليين عن كاليفورنيا، وتيكساس، وإلينوى ويسكينسون[9]. جدير بالذكر هنا، أن السياسة الأمريكية على مستوى أعضاء الكونجرس دائما ما تبدأ بفرضية أن النائب دائما ما يسعى لإعادة انتخابه، فمعنى وجود هذا الضغط يرجح أن هؤلاء النواب يشعرون بقلق ما أن استمرار بايدن فى السباق لن يؤدى إلى النتائج المرجوة. إلى جانب ذلك العديد من حُكام الولايات أبدوا قلقهم من استمرار بايدن فى السباق رغم دعمهم له[10].
ماذا حدث داخل الحزب الديمقراطى؟
بعد المناظرة بين ترامب وبايدن، اجتمع أعضاء الحزب الديمقراطى يوم ٩ يوليو الجارى لمناقشة مستقبل الانتخابات، وما إذا كان بايدن سيكمل السباق الانتخابى. وما ظهر كان تصريحات متضاربة بين الأعضاء المختلفة، فهناك نواب أكدوا أن الأعضاء اتفقوا على دعم بايدن، وعلى الجانب الآخر لم يتردد بعض النواب فى الإفصاح أن الاجتماع لم يكن فيه أى اتفاق[11]. ولكن خطاب بايدن بعد الانسحاب كان يؤكد بشكل أو بآخر أن الديمقراطية أهم من المجد الشخصى، وقال نصا: "الحفاظ على الديمقراطية يتطلب إعادة توحيد الحزب"[12]، ما يدل أنه كان هناك انقسام داخل الحزب.
قادت نانسى بيلوسى، أحد أهم كوادر الحزب الديمقراطى، التيار غير الداعم لبايدن؛ حيث إن بيلوسي أكدت أكثر من مرة فى تفاعلاتها مع أعضاء الحزب أنها متخوفة من أن استكمال بايدن فى السباق قد يؤدى بالحزب إلى خسارة الأغلبية فى مجلسى النواب والشيوخ، إلى جانب خسارة القيادة الأمريكية فى البيت الأبيض ما يعنى أن الحزب سيفقد جميع مفاتيح السياسة الأمريكية لمصلحة الحزب الجمهورى[13]. وظهر هذا فى مكالمات بيلوسى مع بايدن التى أكدت له فيها أن الاستطلاعات ليست فى مصلحة الحزب ووفقا للعديد من الأعضاء، انتهجت بيلوسى نهجا لخلق حالة لمحاولة إنقاذ الحزب، خاصة بعد المناظرة مع ترامب؛ حيث أكدت بيلوسى أنه يجب أن يكون هناك حل سريع لأن الوقت ينفد قبل الانتخابات[14].
ما هو واضح بشكل كبير أن الانقسام أخذ ينمو داخل الحزب الديمقراطى بعد المناظرة؛ حيث إن معظم الشخصيات التى تم ذكرها كانت داعمة لبايدن رغم حالته الصحية السيئة، ولكن المناظرة كانت كاشفة بشكل كبير لما يمكن أن يحدث من خسارة فى الانتخابات. فالتيار الجديد المناهض لاستكمال بايدن أخذ ينمو من خمسة أعضاء فقط حتى وصل إلى ٣٧ عضوا قبل انسحاب بايدن بيومين فقط، ما يُظهر أن الحزب الديمقراطى كان فى طريقه للتعرض لانقسام واضح ما قد يؤثر فى عمل الحزب بعض ذلك، وهو ما وصفه بعض العاملين فى الحزب الديمقراطى أن أول ثلاثة أسابيع من يوليو كانت كالكابوس الذى لم يشهده الحزب فى تاريخه من قبل[15]. فكانت مناورة الحزب الديمقراطى لسحب بايدن ضامنة للفوز على جميع الاتجاهات، فكانت من ناحية وسيلة لتوحيد الحزب قبل الانقسام ومن ناحية أخرى كانت ضمانا لاستكمال السباق.
ماذا بعد الانسحاب؟
حول بايدن تذكرته الانتخابية بعد الانسحاب لنائبته كامالا هاريس مباشرة، ولكن ظل هناك انقسام حول من سيصبح المرشح الجديد. والجدير بالذكر أن هاريس حصلت على دعم غالبية أعضاء الحزب الديمقراطى لكى تستكمل السباق بدلا من بايدن[16]. الأمر الذى يؤكد أن تبديل بايدن بهاريس أرضى جزءا كبيرا من التيار المخالف لاستمرار بايدن. وتحظى هاريس بدعم الكثير من قادة الحزب، أولهم الرئيس جو بايدن نفسه، والرئيس السابق باراك أوباما حيث تشبه ظروفه ظروف هاريس كمرشح رئاسى من أصل غير أوروبى وليس أبيض[17]. بالإضافة إلى حصولها على دعم بيل وهيلارى كلينتون[18]. وظهر ذلك أيضا فى حصول هاريس على 976,1تفويض من المؤيدين لها، وكان المطلوب فقط ٥٠٠ تفويض للدخول فى السباق الرئاسى كمرشحة. وقبل كل ذلك كانت نانسى بيلوسى قد أكدت دعمها الكامل لهاريس، وأنها تشكر بايدن على حكمته لإنقاذ الحزب[19].
ولكن لماذا دعم العديد من الديمقراطيين هاريس؟
أدت اعتبارات كثيرة إلى دعم الديمقراطيين لكامالا هاريس منها أسباب لوجستية مثل أن الوقت ينفد قبل الانتخابات، ويجب اللجوء إلى أى مرشح غير بايدن فى أسرع وقت. بالإضافة إلى ذلك أن بعد إعلان بايدن أن هاريس ستخلفه على التذكرة اختلفت عدة أشياء. أولا،بدأ المتبرعون يرسلون أموالهم مرة أخرى لدعم الحملة، فجمعت الحملة ٩٥ مليون دولار فى أول ثلاثة أيام، وحتى يوم ٢٨ يوليو أى بعد أسبوع حصلت الحملة على إجمالى ٢٥٠ مليون دولار، وهو ما يعد عملية إنقاذ لتمويل الحملة بعد إيقاف العديد من التبرعات قبلها بأسبوع[20].ثانيا، تقلص الفارق بشكل كبير بين الحزبين الديمقراطى والجمهورى فى استطلاعات الرأى؛ حيث كان الفارق بين ترامب وبايدن ٦%، الأول يحظى بـ ٤٨% من الأصوات والثانى ٤٢% من الأصوات، مع دخول هاريس السباق تقلص هذا الفارق ليصبح ١% فأصبح ترامب ٤٨% وهاريس ٤٧%[21].
ولكن هناك أسبابا سياسية أخرى جعلت هاريس هى الخيار الأفضل:
1- كان يجب على الحزب التضحية ببايدن وإحضار مرشح جديد بعد الغضب الشعبى الذى أخذ يتنامى لأسباب كثيرة مثل الدعم الأمريكى لأوكرانيا وإسرائيل والحالة الصحية لبايدن التى لم تسعفه كواجهة للحزب والدولة بشكل عام.
2- تعد هاريس هى الاختيار الأمثل لتوجه الحزب القادم فى تغيير تكتيكات اللعبة الانتخابية، فأصبح التركيز على كسب أصوات الأقليات فى الولايات المتحدة، فبعد ترشح هاريس من المتوقع أن تحظى هاريس بزيادة دعم ١٠% من الأمريكان الأفارقة، و٨% من الأمريكان من أصل إسبانى، و١٠% آخرون من المصوتين تحت الثلاثين عاما[22].
3- هى فرصة أخرى لتقديم وجه آخر للسياسات الخارجية الأمريكية؛ حيث إنه فى المقابلة بين نتنياهو وهاريس يوم ٢٦ يوليو، تبنت هاريس خطابا أكثر موازنة بين إسرائيل والشعب الفلسطينى، مشيرة إلى أن الحرب يجب أن تتوقف ويجب أن يمارس الشعب الفلسطينى حقه فى تقرير المصير[23]. وهو ما يعد تحولا فى الخطاب الأمريكى نحو الحرب فى غزة، والتجربة ستُظهر ما إذا كانت محاولة لاحتواء الغضب الشعبى والمرور بسلام من صندوق الاقتراع أم أنه تغير حقيقى فى السياسة الأمريكية نحو الصراع.
فى ٢٧ يوليو وقعت هاريس أوراق ترشحها رسميا للسباق الرئاسى الأمريكى، ولكن هناك بعض الإجراءات الداخلية داخل الحزب التى من المتوقع أن تنتهى فى الأسبوع الأول من أغسطس. لنرى أن ما حدث هو من أذكى التكتيكات الحزبية للتضحية والدفع بوجه جديد يمكن أن يغير مجرى الانتخابات تماما، لتعود المنافسة والترقب مرة أخرى للانتخابات الأمريكية بعد أن كان هناك شبه تأكد أن ترامب سيصبح الرئيس القادم حتى ٢٠٢٨.
الهوامش: