فى العقدين الماضيين، كان الوصول إلى مصادر الطاقة الموثوقة والمستدامة والاتصال بالسوق الكبير للجغرافيا الأوراسية قضية مركزية فى السياسة الخارجية لقوتين صاعدتين، وهما الصين والهند. خلال هذه الفترة، حققت الصين والهند أعلى معدل نمو اقتصادى بين دول العالم. شهدت هذه البلدان نموا اقتصاديا كبيرا على الرغم من الركود الاقتصادى العالمى. بلغ متوسط النمو الاقتصادى السنوى للصين 10.5٪ بين عامى 2001 و2010و 9.7٪ بين عامى 2010-2017. بعد الولايات المتحدة، يمتلك هذا البلد أكبر اقتصاد فى العالم؛ حيث يزيد الناتج المحلى الإجمالى على 17.73 تريليون دولار أمريكى بالقيمة الاسمية فى عام 2021. فى المقابل، حققت الهند ناتجا محليا إجماليا يزيد على 2.7 تريليون دولار بقيمة أقل، وتحتل المرتبة الخامسة كأكبر اقتصاد فى العالم بعد ألمانيا. خلال الفترة 2010 - 2017، حقق هذا البلد نموا اقتصاديا سنويا بنسبة 7.3٪، وفى عام 2018، كان 7.4٪. يُتوقع أنه بحلول عام 2050، ستحتل الصين والهند المرتبتين الأولى والثانية كأكبر اقتصادات فى العالم.
رغم تركيزهما على التعاون علانية، فإن هذين الاقتصادين الآسيويين الصاعدين الرئيسيين يركزان على الممرات الدولية لتوسيع نطاق النفوذ وتصدير المنتجات الفائضة والوصول إلى أسواق استهلاكية كبيرة وتوفير طاقة موثوقة ومستقرة والسعى إلى تأمين الأمن القومى فى منطقة أوراسيا الكبرى. ومع ذلك، فهما لا يؤكدان علانية المنافسةَ الاستراتيجية بينهما. بادرت بكين بمشروع الممر الاقتصادى الصينى الباكستانى الذى يركز على ميناء جوادر فى باكستان، وهو فرع أساسى من مشروع طريق الحرير الجديد المسمى بمبادرة الحزام والطريق.
على العكس من ذلك، بادر الهنود بمشروع الممر الدولى للنقل من الشمال إلى الجنوب (INSTC) الذى يركز على ميناء تشابهار. يمكن تحليل الاستثمار الصينى فى ميناء جوادر والمبادرة الهندية فى ميناء تشابهار فى سياق المنافسة الجيوسياسية بين الصين والهند فى جنوب آسيا والوصول إلى أوراسيا. ومع ذلك، فإن رأس السهم الصينى هو فى الواقع منافسته ضد الولايات المتحدة وليس الهند. مع ذلك، تعد الصين نيودلهى واحدة من حلفاء واشنطن فى منافستها العالمية مع الولايات المتحدة، وبناء عليه تسعى بكين فى الوقت نفسه إلى احتواء الهند فى المجال الجيوستراتيجى للمحيط الهندى.
لذلك، تهدف هذه الدراسة إلى شرح المنافسة الجيوسياسية بين الصين والهند فى مبادرات الاتصال مثل "قلادة الماس" و "خيط اللؤلؤ" بما يتماشى مع مبادرات ممراتهما الدولية مع تأكيد دور ميناء جوادر وميناء تشابهار فى هذا التنافس الجيوسياسى.
أولا- مبادرات الترابط الصينى التى تؤثر فى المصالح الهندية:
إن استراتيجية الصين للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية فى المحيط الهندى، التى تؤثر فى المصالح الاستراتيجية للهند، ظهرت بطريقتين رئيسيتين:
الأولى: توسيع طريق الحرير البحرى باستثمارات كبيرة فى الموانئ الرئيسية للدول المستفيدة، بالإضافة إلى فرضية إنشاء قناة تايلاند ووصل مباشر بين بحر الصين والمحيط الهندى لتطويق مضيق ملقا.
الثانية: الاعتماد الاقتصادى المتبادل القوى بين اقتصاد الصين ودول الآسيان وجنوب آسيا.
مضيق ملقا، الذى تبلغ مساحته 65,000 كيلومتر مربع، هو ممر مائى يربط بحر أندامان (المحيط الهندى) وبحر الصين الجنوبى (المحيط الهادئ)، ويقع كالنهر بين جزيرة سومطرة الإندونيسية غربا وشبه جزيرة ماليزيا غربا وجنوب تايلاند شرقا. يبلغ طول هذا المضيق على شكل قمع 800 كيلومتر وينطلق من ميناء ملقا التجارى الذى كان مهما جدا فى القرنين السادس عشر والسابع عشر. يمر عبر هذا المضيق ما يقرب من 60٪ من النقل البحرى العالمى، أى أكثر من 150 سفينة يوميا، معظمها ناقلات نفط عملاقة قادمة من جمهورية الصين الشعبية واليابان. ومن ثم، يمر عبر هذا المضيق نحو 25٪ من النفط المنقول بين الشرق الأوسط وآسيا، وهو رقم ارتفع باطراد مع نمو سكان الصين وغيرها من القوى الإقليمية وثرواتها.
أدى مضيق ملقا دورا حيويا جغرافيا لمنطقة المحيطين الهندى والهادى بأكملها، ولهذا السبب فإن العديد من الدول فى المنطقة، بما فى ذلك الصين وحتى الولايات المتحدة، حريصة على حماية هذا الممر. تكمن الحقيقة فى وجود منافسة محتملة كبيرة بين قوتين آسيويتين، وهما الصين والهند، فى منطقة مضيق ملقا التى أصبحت تُعرف باسم "معضلة ملقا"، بسبب الوجود المتزايد ونفوذ الصين فى المحيط الهندى. ولذلك اتخذت الهند إجراءات احترازية ووسعت وجودها من ساحلها الشرقى إلى المضيق من أجل الحفاظ على التوازن. تتقدم الهند بمواقفها نحو المدخل الغربى للمضيق لمراقبة استراتيجية الصين البحرية التى تركز بشكل أكبر على ملقا. و أثار موقع الهند عند مصب مضيق ملقا حالة من الذعر بين المسئولين الصينيين، لذلك يحاولون إيجاد طريق بديل.
تجدر الإشارة إلى أن معظم واردات الصين من النفط من الخليج العربى وفنزويلا وأنجولا والمواد الخام من إفريقيا - حيث استثمرت الصين مليارات الدولارات فى مشروعات التعدين والبنية التحتية - تتم عبر مضيق ملقا الاستراتيجى. وبفعل حالة التوتر بين بكين ونيودلهى، سيتأثر مضيق ملقا بسهولة من قبل الهند، وذلك بسبب موقع الهند الطبيعى فى المحيط الهندى، مع قدرات لوجستية فى جزر أندامانونيكوبار الهندية عند مصب المضيق، ما يسمح للبحرية الهندية بالحصول على ميزة عسكرية نسبية (1) .
اتخذت الصين عدة مبادرات لضمان أمنها البحرى، منها:
1-اقتراح إنشاء قناة تايلاند، هذه القناة الافتراضية تتماشى مع البنية التحتية الأكثر طموحًا فى الصين والمشروع الإقليمى طريق الحرير البحري. ستُبنى هذه القناة المثيرة للجدل جنوب برزخ كرا فى تايلاند - وهى أضيق نقطة فى شبه جزيرة الملايو - والتى يمكن أن تصبح بوابة الصين الثانية إلى المحيط الهندي. ستمكن القناة البحرية الصينية من تحريك سفنها بين قاعدتها الجديدة فى بحر الصين الجنوبى والمحيط الهندى دون السفر عبر الطريق البالغ طوله 700 ميل جنوبا لتجاوز ماليزيا.
2-مشروع آخر لطريق الحرير البحرى الصينى: هو الاستثمار الهائل فى بناء وتأجير طويل الأمد للموانئ فى الدول الساحلية فى جنوب آسيا، مثل ميناء تشيتاغونغ فى بنجلاديش (نحو24.1 مليار) وميناء كياوكبيو فى ميانمار (نحو 7.4 مليار) وميناء جوادر الباكستانى للمياه العميقة (نحو 50.6 مليار) وميناء هامبانتوتا فى سريلانكا (نحو 14.7 مليار) والمشروع الضخم لهافانا فى جزر المالديف وميناء بقيمة 10 مليارات دولار فى باغامويو بتنزانيا وما إلى ذلك، والتى تؤدى دور جسور ربط تربط الصين بالمحيط الهندى. فى هذا الصدد، يعد عقد الصين لمدة 10 سنوات مع حكومة جيبوتى (قابلة للتمديد لعشر سنوات أخرى) فى يناير 2016 لإنشاء منشأة دعم للبحرية الصينية فى باب المندب مثالا آخر على طريق حرير بحرى طموح فى المحيط الهندي. كما ضخت بكين استثمارا بقيمة 350 مليون دولار فى ميناء جيبوتى.
3- بالإضافة إلى ذلك، تمتلك الصين أكثر من 100
ميناء فى نحو 63 دولة. تمتلك "الثلاثة الكبار" من مشغلى المحطات أكثر من 80٪ من محطات الموانئ الخارجية للصين، وهى: شركة الصين للملاحة البحرية (كوسكو)، ومجموعة الصين التجارية (سى إم جى)، وسى كيه هاتشيسون القابضة.
4- فى مجال الاستثمار، ووفقا لتقديرات معهد بوابة الهند، أنفقت الصين خلال العقد الماضى أكثر من 150 مليار دولار فى قطاعات مختلفة من اقتصادات جنوب آسيا، بما فى ذلك الموانئ والمطارات والمواصلات والطاقة والإيجار والبنى التحتية الحضرية الصناعية والاقتصادية والبحث والتطوير والفضاء والمناجم والزراعة، والتى تغطى من بين أشياء أخرى 60 مشروعا فى باكستان، و 33 مشروعا فى ميانمار، و 50 مشروعا فى بنجلاديش، و 38 مشروعا فى سريلانكا، و 37 مشروعا فى نيبال، و 20 مشروعا فى جزر المالديف.
5- كما أن الصين قادرة على الوصول إلى حدود الهند برا عبر الممر الاقتصادى الصينى الباكستانى والمشروعات الاقتصادية الصينية الميانمارية، واكتساب ميزة استراتيجية فى حالة الحرب مع الهند. يعتقد بعض المحللين الهنود والغربيين أن الصين، من خلال الاستثمارات الهائلة فى بناء الموانئ فى الدول الساحلية وجزر المحيط الهندى، تتبع استراتيجية بحرية طويلة الأجل تسمى "خيط اللؤلؤ". وفقا لهذه الخطة، ستتوسع القواعد العسكرية التى تبنيها الصين من ميانمار فى جنوب شرق آسيا إلى سريلانكا وجزر المالديف وباكستان فى جنوب آسيا وجيبوتى فى باب المندب. يتم تقييم المناورات العسكرية المشتركة مع باكستان وإيران وروسيا وغيرها فى المحيط الهندى فى هذا الصدد. ومع ذلك، لم تلمح الصين قط إلى أن هدف تحركاتها كان ضد أى دولة، بما فى ذلك الهند.
ثانيا- المبادرات الهندية لموازنة الوجود الصينى فى المحيط الهندى:
بصرف النظر عن طرق التجارة البحرية، يحتوى المحيط الهندى على بعض من أهم الموارد فى العالم، يُقال إن 16.8%من احتياطيات العالم بأكمله، و27.9 %من احتياطيات الغاز الطبيعى موجودة فى المحيط الهندى نفسه. إنها واحدة من أكثر المناطق الاستراتيجية فى العالم، وتقع عند مفترق طرق التجارة العالمية نفسها، يربط المحيط الهندى الاقتصادات الدولية للمحيط الأطلسى الشمالى بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، ويربط الممر المائى الرئيسى للمنطقة الوسطى. إن 80٪ من تجارة النفط البحرية العالمية تمر عبر ثلاثة ممرات ضيقة فقط فى المحيط الهندى فى المضائق، مضيق هرمز ومضيق ملقا ومضيق باب المندب، تُسمى هذه النقاط نقاط الاختناق؛ لأنه عندما يتم اختناق هذه النقاط تتوقف معظم التجارة العالمية.إن الصين هى أكبر اقتصاد تصنيعى فى العالم، وهى مصدر للسلع تعتمد بشكل كبير على التجارة، وجزء كبير من التجارة يتم عبر المحيط الهندى. يُلاحظ أن الصين ظهرت بشكل استراتيجى كواحدة من أهم الشركاء التجاريين لمنطقة المحيط الهندى(2).
ترى الهند أن القوة الصينية المتصاعدة تشكل تهديدا لمصالحها، التى تشمل "النظام الدولى القائم على القواعد" و"المنطقة الحرة والمفتوحة فى المحيطين الهندى والهادئ"، كما تعد الهند "خيط اللؤلؤ" الصينى تحركا استراتيجيا. نتيجة لذلك، ولكى توازن نفوذ الصين، تعمل الهند بثبات وبشكل غير علنى من خلال ما يسمى بـ "استراتيجية عقد الماس"، ومن خلال التحالف مع "الرباعى" (حوار أمنى رباعى)، الذى يهدف إلى تطوير آلية للتعاون بين الأعضاء فى المجال الاستخباراتى الاستراتيجى والمناورات العسكرية.
استراتيجية "عقد الماس" الهندى.. مواجهة النفوذ الصينى:
من خلال استراتيجية "عقد الماس"، تحاول الهند زيادة التعاون البحرى والتعاملات والمساعدات الإنمائية والاستثمارات مع دول المحيط الهندي. هذه الاستراتيجية ليست جزءا من أى وثيقة هندية رسمية، ومع ذلك، فهى إشارة واضحة من اتفاقيات التجارة المختلفة التى وقعتها الهند وأنشأت قواعد استراتيجية. يزعم الخبراء أن هذا الإجراء مرتبط بالمخاوف بشأن تزايد النفوذ البحرى للصين فى المنطقة وهو جزء من استراتيجية "العمل شرقا" لتعزيز العلاقات مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان). تمت مناقشة الاستراتيجية لأول مرة فى عام 2011 من قبل لاليتمانسينغ، وزير الخارجية، ردا على "استراتيجية خيط اللؤلؤ" الصينية.
لذلك قامت الاستراتيجية الهندية "عقد الماس" على أساس:
1-إنشاء قاعدة الهند الاستراتيجية فى ميناء الدقم، عمان :أنشأت الهند قاعدتها الأولى فى ميناء الدقم فى عمان، لمواجهة الموقع الاستراتيجى للصين فى جوادر وجيبوتى، تتدفق واردات النفط الخام الحيوية للهند من الخليج العربى عبر هذا الميناء .يتمتع هذا المكان بموقع استراتيجى على الساحل الجنوبى الشرقى لعمان، ويطل على بحر العرب والمحيط الهندى، كما أنه يمتد على طول الممرات الملاحية الحيوية فى بحر العرب وخليج عدن .تقع عمان عند مدخل مضيق هرمز، الذى يمر من خلاله خمس واردات النفط الهندية،حصلت الهند على حق الوصول العسكرى إلى هذا الميناء بسبب علاقاتها الوثيقة مع عمان. فى عام 2019، كانت الهند ثالث أكبر سوق للصادرات غير النفطية وثالث أكبر مصدر للواردات (بعد الإمارات العربية المتحدة والصين).
2-نقطة الاختناق الثانية كانت قناة موزمبيق عام 2015. وقع رئيس الوزراء الهندى مودى اتفاقية مع رئيس سيشل لتطوير جزيرة أسومبشون للاستخدام العسكرى. ومع ذلك، وبسبب الاحتجاجات التى نظمها السكان المحليون بعد إبرام هذه الصفقة، غيرت الحكومة موقفها.
3- تعد الهند مضيق ملقا أهم نقطة اختناق، يقع كل من مضيق سوندا ومضيق لومبوك بجوار مضيق ملقا.
4-التعاون مع اليابان كجزء من الاستراتيجية: تعد اليابان من بين النقاط الأخيرة المكونة لاستراتيجية "عقد الماس". فى 9 سبتمبر 2020، وقعت الهند واليابان اتفاقية الخدمات المتبادلة واكتساب الإمدادات (ACSA)التى تسمح لقواتهما المسلحة بتبادل الإمدادات والخدمات على أساس المعاملة بالمثل. ومن ثم، يمكن لليابان والهند مرة أخرى الاستفادة من دعم بعضهما بعضا وفقا لاتفاقهما الاستراتيجى. يمنح هذا الاتفاق موقعا قريبا جدا من البر الرئيسى للصين.
فيما تركز استراتيجية "عقد الماس" على مواجهة نفوذ الصين، تظهر أيضا بعض جوانب التعاون مع الصين، ما يزيد من تعقيد مزيج السياسات:
5- زيارة رئيس الوزراء مودى إلى منغوليا: على عكس نهجه تجاه الصين، قام مودى بزيارة منغوليا بعد اليابان ليصبح أول رئيس وزراء هندى يفعل ذلك. الأهم من ذلك، أنشأت الهند علاقة قوية مع منغوليا من خلال تقديم قرض بقيمة مليار دولار أمريكى لتطوير ممر جوى لها.
6- ميناء تشابهار فى إيران:يعد ميناء تشابهار جزءًا من مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI)التى تهدف إلى إنشاء خط سكة حديد يمتد من الصين إلى إيران عبر قرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان وينتهى فى طهران بإيران. وافقت الهند على بناء ميناء للمياه العميقة فى تشابهار على خليج عمان عام 2015 عندما كانت إيران تخضع لعقوبات اقتصادية ودبلوماسية خانقة. وفى إطار هذه الصفقة، زار مودى إيران ووقع اتفاقية لبناء هذا الميناء والبنية التحتية المصاحبة له.
ثالثا- أهمية ميناءى تشابهار وجوادر فى التنافس على الممرات التجارية بين الهند والصين:
على الرغم من أن الممرات التجارية تُحدد عادةً بشكل خطى وفقًا لأنماط النقل السائدة، فإنها تميل أيضا إلى تعميق النشاط الاقتصادى وإنشاء مراكز لوجستية. سيؤدى هذا الارتباط المتزايد إلى انتشار المناطق الاقتصادية الخاصة والمناطق الصناعية ومراكز النقل وغيرها من المساحات المخصصة، ما يخلق جغرافية جديدة لتنظيم الإنتاج وجذب الاستثمارات وتنظيم عرض العمالة. نتيجة لتحسين الاتصال بين هذه العقد والبر الرئيسى، سيتحول الخط الحدودى بشكل متزايد إلى ممر تجارى، والذى بدوره يصبح وسيلة أكثر فاعلية للأنشطة الجيو - اقتصادية. ومع ذلك، فإن التوترات الجيوسياسية بين الدول تميل إلى التحكم فى الجيو - اقتصادية وإثارة المشكلات حول المكاسب السياسية.
يعد عقد ميناءى جوادر ووتشابهار أحد هذه الأمثلة، نشأ كلا الميناءين بدافع الحاجة إلى مراكز لوجستية والمنافسة الجيوسياسية. يمثل كلاهما نقاطا جيوسياسية مهمة للقوتين الصاعدتين، الهند والصين. تقع هذه الموانئ فى بلوشستان، وهى منطقة فقدت استقلالها فى القرن التاسع عشر خلال "اللعبة الكبرى". الآن تدخل موانئ تشابهار وجوادر عصر "لعبة كبرى جديدة"، مع إمكانية حدوث تداعيات وعواقب بعيدة المدى. يعد ميناء جوادر ثالث أهم ميناء للمياه العميقة فى باكستان بعد ميناءى كراتشى والقاسم.
بالنسبة إلى الصين، تُعد كازاخستان بوابة إلى أوروبا، وباكستان بوابة إلى المحيط الهندى، تقع على تقاطع طرق الشحن البحرى الدولية وتجارة النفط فى باكستان. يمكن أن تعمل كمركز تجارة دولى لباكستان. يوفر ممر الصين - باكستان الاقتصادى (CPEC) اتصالا بديلا بين الشمال والجنوب لممر النقل الدولى بين الشمال والجنوب الذى تدعمه الهند. أظهر الروس فى الآونة الأخيرة بعض الاهتمام، خاصة بعد حربهم الشاملة مع أوكرانيا عندما بدأت الهند بشراء النفط من روسيا، وارتفعت الأرقام التجارية بين روسيا والهند بشكل صاروخى. بالنظر إلى القواعد واللوائح الناشئة التى ستحكم التجارة العالمية والواقع العالمى لشبكة تجارية تركز على الصين تتداخل مع مجتمع اقتصادى موجه من قبل روسيا يشمل كلا من الطرق البرية والبحرية الآسيوية، فإن تطوير بديل لوجستى أو الاتصال بالإطار الحالى سيكون ضروريا لجدول أعمال الهند للتنمية الاقتصادية والتمدين.
يعد ميناء جوادر مهما للغاية بالنسبة إلى الصين؛ حيث تأتى معظم واردات النفط من الشرق الأوسط عبر المحيط الهندى (مضيق ملقا). وفقا لتقرير معهد وارسو، يتم نقل أكثر من 70٪ من صادرات الصين من البترول والغاز الطبيعى المسال عبر مضيق ملقا هذا؛ إضافة إلى ذلك، يتم نقل 60 % من حركة التجارة الصينية عبر ممر التجارة هذا وبحر الصين الجنوبى. إذا قامت الصين بشىء مثل روسيا، مثل غزو تايوان أو أى دولة أخرى، يمكن للولايات المتحدة والهند استخدام تحالف مع سنغافورة لإغلاق هذه النقطة وعند القيام بذلك، سيتم على الفور حظر أو إبطاء 70% من إمدادات النفط الصينية، وكذلك 60٪ من تجارتهم(3) .
إذا تم ذلك، فلن يكون أمام هذه السفن خيار سوى اتخاذ طريق طويل جدا، وحتى فى تلك الطرق، يوجد حلفاء للولايات المتحدة يمكنهم جعل التجارة الصينية صعبة للغاية. وبالمثل، فإن للصين العديد من نقاط الضعف فى طريق تجارتها، ما يجعل من الصعب عليها أن تكون قوة عظمى. تهدف الصين إلى بناء طريق تجارى بديل، لذلك وللتغلب على القيود البحرية، تتحكم الصين بشكل كبير فى ميناء جوادر، وقد قدمت مليارات الدولارات من القروض إلى باكستان تحت غطاء المساعدات وبدأت تملك ممر الصين - باكستان الاقتصادى (CPEC) بشكل غير مباشر. تم تأجير الميناء لمدة 40 عاما؛ حيث حصلت الصين فى الآونة الأخيرة على عقد من الحكومة الباكستانية لبناء خط أنابيب استراتيجى للنفط الخام بطول 3021 كيلومترا يمتد من ميناء جوادر فى باكستان إلى شينجيانغ فى الصين. وافقت باكستان أيضا على منح إعفاءات ضريبية لمدة 20 عامًا على أرباح الشركات الصينية وإيرادات خطوط أنابيب النفط، ثم سيتم ربط باكستان والصين بطريق سريع يمتد من جوادر إلى كاشغر.
إضافة إلى ذلك، فإن قيام باكستان بتأجير ميناء جوادر للصين لمدة 40 عاما يثير مخاوف الهند من أن هذا سيمنح الصين موطئ قدم فى بحر العرب والمحيط الهندى، ويشكل تحديا للسيطرة البحرية الهندية. وهذا يظهر رغبة الصين فى ممارسة القوة البحرية فى المحيطين الهادئ والهندى. كما تتوقع الهند، قد يعمل ميناء جوادر كقاعدة للسفن والغواصات الصينية، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للهند.
بمجرد اكتمال العمل بشكل كامل، وليس الآن بسبب تردد المطورين الهنود بسبب الخوف من العقوبات الثانوية التى تفرضها الولايات المتحدة على الشركات التى تتعامل مع الحرس الثورى الإيرانى؛ وذلك لأن الحرس مرتبط بالغالبية العظمى من الشركات الإيرانية المشاركة فى مشروع ميناء تشابهار، والذى سيكون نقطة تحول أساسية للهند فى تحقيق أهدافها فى آسيا الوسطى. لذلك، تواصل الهند رؤية ميناء تشابهار على أنه "بوابة" إلى آسيا الوسطى. استثمرت الهند فى ميناء تشابهار الإيرانى بموجب اتفاقية ثلاثية تشمل أفغانستان لتطوير هذا الميناء وربطه بطريق قرانة الأفغانى. من هناك، يمكن أن تتحرك إلى الشمال أكثر، لتصل إلى جمهوريات آسيا الوسطى وحتى روسيا. تكمن الأهمية الاستراتيجية لچابهار بالنسبة إلى الهند فى أنها تعمل كبوابة للعمليات الهندية فى أفغانستان وآوراسيا. يعد ميناء تشابهار أقصر طريق بحرى للدول غير المطلة على البحر فى آسيا الوسطى، والبدائل الأخرى هى عبر موانئ بندر عباس فى روسيا أو تركيا أو إيران (4).
حظى ميناء تشابهار باهتمام متزايد فى الآونة الأخيرة كطريق عبور متعدد الوسائط أسرع وأكثر فعالية من حيث التكلفة مرتبط بممر النقل الدولى بين الشمال والجنوب (INSTC) وذلك بعد الحادثة الأخيرة التى أدت إلى إغلاق قناة السويس التى كلفت اقتصاد العالم نحو 9 مليارات دولار أمريكى .يهدف ممر النقل الدولى بين الشمال والجنوب إلى نقل البضائع عن طريق البحر من مومباى بالهند إلى ميناء شهيد بهشتى فى چابهار بإيران، ثم برا من تشابهار إلى بندر أنزلى، وهو ميناء إيرانى على بحر قزوين، ثم عن طريق السفن من بندر أنزلى إلى أستراخان، وهى ميناء قزوينى فى الاتحاد الروسي، وأخيرا عن طريق سكك حديد روسيا من أستراخان إلى أجزاء أخرى من الاتحاد الروسى وصولاًإلى أوروبا(5) .
حظى ممر النقل الدولى بين الشمال والجنوب باهتمام أكبر فى الآونة الأخيرة بسبب حرب روسيا وأوكرانيا وإيران (بسبب العقوبات الأمريكية، تم إخراجهما من نظام سويفت وهما تحت ضغط لإيجاد طرق جديدة لتشغيل اقتصاديهما بسلاسة). ونظرا لأن ممر النقل الدولى بين الشمال والجنوب هو طريق أسرع وأرخص من قناة السويس التقليدية،يُقال إن الأول لديه القدرة على أن يكون بديلا للثانى. كما أن الاتجاهات عبر أرمينيا وجورجيا تهم الهند أيضا. ومع ذلك، لم يتم توضيح ما إذا كان الاتجاه الأخير جذابا لتسليم البضائع إلى روسيا وأوروبا أم أنه يهدف فقط إلى ربط الدول بأسواق تجارة منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لم يتم توضيح هذا الموقف الهندى بعد. تم استثناء ميناء تشابهار من العقوبات الأمريكية. ومع ذلك، لا يزال خط السكة الحديد بين چابهار وزهدان مقطوعا.
فى أوائل عام 2021، وبمبادرة هندية، تم إنشاء فريق عمل مشترك بين الهند وأفغانستان وإيران وأوزبكستان لاستخدام هذا المركز للنقل بشكل مشترك، وبعد انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، أكد رئيس الوزراء الهندى ناريندرا مودى، فى قمة منظمة شنغهاى للتعاون (SCO) فى طاجيكستان، على الاهتمام الهندى بالمزيد من التطوير لهذا الميناء بالتعاون مع دول آسيا الوسطى. لذلك، يعد تطوير ميناء تشابهار مهما جدا بالنسبة إلى الهند فى إستراتيجيتها للاتصال؛ حيث سيسمح هذا الميناء للهند بتجاوز باكستان وإقامة علاقات تجارية مباشرة مع أفغانستان، ومن ثم احتواء نفوذ باكستان فى هذا البلد فى مرحلة ما بعد طالبان. كما سيساعد هذا الميناء الهند على زيادة صادراتها إلى الدول المستهدفة وتقليل تكلفة نقل سلعها التصديرية بنسبة 30٪ عبر ممر النقل الدولى بين الشمال والجنوب. فى الوقت نفسه، فإن تحقيق خطة تطوير ميناء چابهار سيسمح للهند بموازنة نفوذ الصين فى بحر عمان وميناء جوادر الباكستاني. يفسر هذا السبب الأخير سبب إعفاء الولايات المتحدة مؤخرًا لميناء چابهار من نظام عقوباتها الصارمة المفروض على إيران.
خلاصة القول:
بالمعايير العالمية، تعد الصين الآن قوة عالمية بحكم الواقع، فيما تعد الهند قوة صاعدة. فى عام 2023، احتلت الصين والهند المرتبتين الثانية والرابعة على مستوى العالم فيما يتعلق بالإنفاق العسكرى على التوالى. لقد حقق كلاهما تقدما ملحوظا من خلال امتلاك أسلحة نووية وتحقيق معدلات نمو اقتصادى مرتفعة. يمكن تعريف العلاقات بين بكين ونيودلهى فى إطار "التعاون والمنافسة" حيث تبرز سمة المنافسة. مع زيادة الاستثمارات الصينية داخل الهند، أصبحت الأخيرة أهم شريك تجارى للصين، بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود البلدين فى منظمة شنغهاى للتعاون ومنتدى بريكس قد قرب المسافة بينهما.
مع ذلك، فإن السياسات الجيوسياسية الجريئة للرئيس الصينى شى جين بينغ فى المجال الجيوسياسى للهند، وخاصة فى المحيط الهندى، والمنازعات الحدودية قد أثارت مخاوف الهند. حاولت الصين خلق امتيازات جيوسياسية فى المحيط الهندى من خلال الاستثمار بكثافة فى اتفاقيات التأجير طويلة الأجل على طول طريق الحرير البحرى فى موانئ ميانمار وبنغلاديش وسريلانكا وجزر المالديف وباكستان وجيبوتى وتنزانيا وما إلى ذلك. كان وجود الصين فى المحيط الهندى وإنشاء قاعدة عسكرية فى جيبوتى أول حضور ملموس لبكين خارج أراضيها، وهو ما تعده الهند تحديا محتملا. فى الوقت نفسه، من خلال خلق تبعية اقتصادية معقدة مع دول جنوب آسيا وآسيان، تقوم الصين بتوجيه العلاقات السياسية والاقتصادية فى المنطقة لمصلحتها.على أى حال، تريد الهند زيادة التجارة مع الصين، ما يجعل نيودلهى أكثر اعتمادا على بكين، يحدث هذا فيما تدرك الهند التأثير السياسى والاقتصادى المتزايد للصين فى المنطقة.
على الرغم من أن الهند لم تنضم بعد إلى مبادرة طريق الحرير الجديدة الصينية، لكن نيودلهى لم تعارضها أيضا. ومع ذلك، فهى تحاول فى الوقت نفسه تحقيق التوازن مع بكين من خلال استراتيجيات الموازنة الجيوسياسية مثل "عقد الماس"، والمشاركة فى الممر الشمالى الجنوبى، وتشكيل تحالف رباعى (QUAD)، وما إلى ذلك، ومن ثم فإن هذه الإجراءات تهدف إلى إنشاء شبكة من الشركاء لها فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
فى المقابل، تبحث كل من الهند والصين، من خلال اعتماد استراتيجية للاتصال، عن وصول آمن وسهل إلى موارد وأسواق أوراسيا ومنطقة المحيط الهندى. فى إطار هذه الاستراتيجية، تعد كل من الصين والهند أراضى باكستان وإيران موقعا مناسبا للموازنة لإنشاء ممرات اتصال عبر آسيا. ظهر ميناء جوادر وتشابهار كنقطتى ارتكاز فى ممرات الاتصال كمنافسين فى التنافس الجيوسياسى بين الصين والهند. من خلال ميناء جوادر، خلقت الصين امتيازا جيوسياسيا جديدا تجاه الهند. من ناحية أخرى، تحاول الهند التعامل مع التحديات الجيوسياسية للصين وباكستان من خلال المشاركة والاستثمار فى الممر الدولى للنقل الشمال - جنوب مع التركيز بشكل خاص على ميناء چابهار.
بمعنى آخر، تحاول الهند تحسين وزنها الجيوسياسى والجيواقتصادى فى مقابل الصين من خلال ميناء تشابهار والأراضى الإيرانية .وفقا للحكومة الهندية، لا يربط موقع إيران وميناء تشابهار الهند بآسيا الوسطى فحسب، بل يمكنهما أيضا أداء دور أساسى فى موازنة الهند فى مقابل استراتيجية الصين الكبرى للاتصال. لذلك، ليس من قبيل الصدفة أن أطلقت الهند على 31 من يوليو "يوم تشابهار".
المراجع:
1. Kashif Hasan Khan, CHINA INDIA COUNTERBALANCING MEASURES THROUGH INTERNATIONAL CORRIDORS AND PORTS: THE FOCUS ON CHABAHAR AND GWADAR PORTS, Journal of Liberty and International Affairs, Volume 9. Number2. 2023.
2. Chegniz, Belt Road Initiative and its strategic implications on India China Relations (2013 - 2022), Quarterly Foreign Relations, 2022, 14(54), 132.
3. Bashir, R., Rashid, Geostrategic Importance of Gwadar Port. , Journal of Indian Studies, Vol. 4, No. 1, January – June 2018, pp. 53 – 64
4. Madiha Sattar, Gwadar port's geostrategic significance: a gateway to regional prosperity and integration, Liberal Arts & Social Sciences International Journal (LASSIJ), Vol. 7, No. 2 (July-December), 2023, pp. 24-40
5. Twesh Mishra, ET Bureau, India seeks to unlock trade potential with Central Asian through Chabahar Port: Shipping Minister, Article, The Economic Times, 2022, https://2u.pw/H1T8IU35
رابط دائم: