عادت الاتجاهات من جديد، ناحية الذراع القضائية الأهم للأمم المتحدة أى محكمة العدل الدولية، لإصدار حكم من شأنه إنهاء الصراع الدائر ما بين الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى، سيما عقب مجموعة من الدعاوى والتى قدمت أمامها من أجل إدانة إسرائيل وممارساتها الإجرامية، تحديدا بحق غزة وشعبها، بدأت محكمة العدل الدولية فى الإلزام المباشر لإسرائيل_ إن جاز التعبير_ عقب مجموعة من القرارات غير المسبوقة، تمثلت فى الوقف الفورى لهجومها على رفح، إلى جانب فتح المعبر من أجل دخول المساعدات الإنسانية، ومع التقدم بتقرير بموجبه يتم إيضاح الخطوات والتى تم تنفيذها، غير أن تقديم طلبات أيضا لاستصدار أوامر اعتقال من الجنائية الدولية، بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلى يوآف جالانت، اعتبرت خطوة فى المسار السليم ليس فقط من أجل القضية الفلسطينية، لكن من أجل عودة فعالية القانون الدولى وأعرافه فى فض المنازعات ما بين الدول ومرتكبى الجرائم الدولية، وبحسب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، فقد قام بتقديم طلبات إلى المحكمة لاستصدار أوامر اعتقال بتهم ارتكاب جرائم حرب، وإبادة ضد الإنسانية، في ما يتعلق بالحرب في غزة وهجوم السابع من أكتوبر الماضى، وبحسب خان أيضا فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف جالانت، يتحملان المسئولية عن الجرائم ضد الإنسانية في غزة، مضيفا أن الأدلة خلصت إلى أن مسئولين إسرائيليين حرموا بشكل ممنهج فلسطينيين من أساسيات الحياة، وأن نتنياهو وجالانت متواطئان في التسبب بمعاناة وتجويع المدنيين في غزة.
الخلفية القانونية للموقف:
ما يخص محكمة العدل الدولية، فإن توالى الدعوات أمامها من قبل جنوب إفريقيا أكثر من مرة، طلب رأيها الاستشارى من قبل الأمم المتحدة، لتخرج كل مرة قراراتها مطالبة إسرائيل بعدم الإبادة الجماعية والحث على دخول المساعدات!، غير أن هذه المرة خرجت مطالبة دولة الاحتلال بالتوقف عن الهجوم على رفح، وغيرها من مطالبات تعلقت بالمدنيين ومساعداتهم، إلا أن الإشكالية تكمن فى عدم إلزامية قرارات العدل الدولية، حتى المسار القانونى المفترض أن تسلكه هذه القرارات، قد يتجه ناحية مجلس الأمن وهنا تبرز صفة الإلزام، وبموجب المواثيق الأممية فإن مجلس الأمن المؤسسة الوحيدة التى لها حق إلزام الدول من أجل العمل بقراراته، لكن أيضا ثمة مخاوف متوقعة حول احتمالية أن تواجه بالفيتو الأمريكي، ومن ثم إعادتنا للدائرة نفسها.
بيد أن الجنائية الدولية والتى تتحرك فى إطار المادة 12 من نظام روما الأساسي _ ومقرها لاهاي_ وبموجب هذه المادة فإن " الدولة التي تصبح طرفاً في هذا النظام الأساسي تقبل بذلك اختصاص المحكمة فيما يتعلق بجرائم بعينها"، أيضا وبحسب المادة 13 يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إذا كانت واحدة أو أكثر من الدول التالية طرفاً في هذا النظام الأساسي أو قبلت باختصاص المحكمة، وعليه فإن "الدولة التي وقع في إقليمها السلوك قيد البحث أو دولة تسجيل السفينة أو الطائرة إذا كانت الجريمة قد ارتكبت على متن سفينة أو طائرة" ، أيضاالدولة التي يكون الشخص المتهم بالجريمة أحد رعاياها، وحالة أخرى أيضا تمارس بناء عليه المحكمة اختصاصها وفى إطار النظام نفسه أى نظام روما الأساسي "إذا كان قبول دولة غير طرف في هذا النظام الأساسي لازما، جاز لتلك الدولة بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة, أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث. وتتعاون الدولة القابلة مع المحكمة دون أي تأخير أو استثناء،وعليه فإنه يصعب الأحاديث عن أية تحرر إسرائيلي من ولاية المحكمة الجنائية، طالما أن ممارساتها بحق فلسطين وأراضيها انطبقت عليها أعراف روما حتى وإن كانت لا تخضع للمحكمة، كونهاليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية، بالتالى تشكك فى اختصاص الجنائية الدولية بالنظر فى القضية، وإن انطبقت ولاية المحكمة طبقا لما جاء أعلاه، ولعل القرار التاريخى مع توقيته وآنيته، من شأنه أن يدفع بمزيد من الضغوط.
توازنات السياسة:
لم تغب السياسة وحساباتها عن هذه التحركات من قبل المحاكم الدولية، خصوصا محكمة العدل، والتى طالما راعت فى قراراتها الكبار، حتى حينما خرجت بقراراتها الأخيرة، لم تطالب إسرائيل بإنهاء الحرب، لكنها طالبتها بوقف النار الفورى فى رفح، وبالرغم من أن القرار الأخير حمل تغير نوعى طفيف، إلا أن ردود الفعل الإسرائيلية كانت حادة وواضحة والتى برزت فى تصريحات سموتريتش حول استحالة توقف الحرب وحول استناده إلى التاريخ وحساباته بقوله، إن إسرائيل "لن توافق على وقف الحرب" "التاريخ سيحكم على من وقف إلى جانب حماس"، واضعا الأمر فى إطار تعقيدى بقوله: أيضا "من يطالب إسرائيل بوقف الحرب يطالبها بإنهاء وجودها"، أيضا بن غفير والذى صرح فى استباحة واضحة أن الرد الإسرائيلى لا بد وأن يتمثل فى احتلال رفح وزيادة الضغط العسكرى، أيضا هزيمة حماس.
يؤشر ما سبق حتما على استمرارية المساعى الإسرائيلية فى السيطرة على القناعات الغربية وتحديدا الأمريكية، خصوصا كما أشرنا فى السابق، إلى أن أى تحركات إسرائيل تجاه رفح جاءت عقب حصولها على الضوء الأخضر من الولايات المتحدة، ما تمثل فى اجتماعات بايدن ونتنياهو، أيضا تمرير بعض صفقات الأسلحة من خلال الكونجرس، ناهيك عن قناعات السياسة الأمريكية والتى تقتضى أول ما تقتضيه دعم إسرائيل ومن منطقات تاريخية وسياسية متجذرة، ما يؤكد فى المجمل على استمرارية تسييس المواقف والأطراف اللاعبة، حتى وإن كانت المحاكم الدولية.
أيضا قرارات الجنائية الدولية ومطالباتها باستصدار قرارات اعتقال بحق نتنياهو، بالمقابل أيضا قادة حماس، فى اعتبار للسياسة وتوازناتها، ولخلق حالة من التعامل بالمثل، خصوصا أن ثمة بعض الشخصيات الإسرائيلية فى مجلس الحرب الإسرائيلي كان من المنتظر أن تصدر الطلبات نفسها بمذكرات اعتقال تجاههم، ولم يحدث، ما دفع المدعى العام بالتصريح بتوالي الطلبات.
ويمكن القول إن أعراف القانون الدولى لا تزال عاجزة عن إحكام السيطرة على دولة الاحتلال، ورغم القرارات الفعالة بعض الشئ، إلا أن الحل لم يعد بجعبة هذه المؤسسات الأممية أو حتى أحكامها، بالتالى يظل الموقف بمجمله مرهونا بالحراك العربي وحجم علاقاته مع الغرب، خصوصا القاهرة والتى نعول عليها كثيرا وعلى دبلوماسيتها، كونها أحكمت-عن جد -السيطرة على الأزمة منذ السابع من أكتوبر، حتى موقفها ظل محافظا على مجموعة من الثوابت أهمها إنفاذ المساعدات، حماية المدنيين، مع وقف إطلاق النيران، والأهم المطالبة بالحل الجذرى والمتعلق بحل الدولتين وقيام دولة فلسطين على حدود ما قبل 67، متغيرا الموقف نفسه وحسبما تقتضى المعطيات، حتى دخول إسرائيل والإصرار على اجتياح رفح، برزت الخارجية المصرية أكثر وضوحا مؤكدة انفتاحها على كافة الخيارات، ومن ثم يُعول عليها فى قيادة بحث آلية جديدة من شأنها تكليل كل هذه المجهودات وإنهاء هذه الإشكالية المعقدة.
رابط دائم: