تشهد العلاقات الروسية الصينية تطورا ملحوظا، على الرغم من مواجهة كلا البلدين تحديات عدة أبرزها استمرار الأزمة الأوكرانية وفرض العقوبات الأمريكية على كل منهما، إلا أنه يمكن القول إن هذه التحديات كانت سببا لتحالف أقوى بين البلدين، وقد جاءت زيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى الصين، تلبية لدعوة نظيره الصينى شى جين بينج، واستمرت الزيارة يومى 16 و17 مايو 2024، كخطوة تحمل كثيرا من الدلالات والمؤشرات، لتلقى الضوء على عديد الملفات والقضايا المشتركة على رأس أولويات قيادة البلدين، وفى ضوء هذه الزيارة المهمة يلقى هذا التحليل الضوء على عدد من المحاور الرئيسية التى تشير إليها الزيارة:
أولا- القمة الروسية الصينية.. قراءة فى دلالات التوقيت:
تأتى زيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين للصين فى ظل عديد المؤشرات والدلائل التى من شانها أن تؤكد استراتيجية العلاقات بين روسيا والصين، فقد اختار فلاديمير بوتين الصين كأول زيارة رسمية خارجية له منذ أن أدى اليمين الدستورية لولاية خامسة كرئيس لروسيا فى 7 مايو 2024، ويجدر القول إن هذه الخطوة ليست بجديدة على مسار العلاقات الروسية الصينية، فقد اعتمد الجانبان على دبلوماسية القمم لتأكيد عمق العلاقات، فبالعودة إلى العام الماضى (2023)، قام الرئيس الصينى بالخطوة ذاتها؛ حيث اختار شى جين بينج أيضا، فى مارس 2023 بعد إعادة انتخابه رئيسا لبلاده، روسيا كأول زيارة خارجية له، كما تعد هذه الزيارة هى الثالثة لبوتين للصين منذ بدء العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا 2022، كما تعد المباحثات التاسعة بينهما منذ ذلك الحين.
تظهر الزيارة أن موسكو تولى أهمية كبيرة لمواصلة تطوير شراكتها الاستراتيجية مع الصين؛ حيث تعد هذه الخطوة بمنزلة رسالة واضحة للولايات المتحدة على عمق الشراكة بين موسكو وبكين رغم الضغوط الغربية، فى إشارة إلى أنها أصبحت أكثر إصرارا على التوجه شرقا؛ حيث تأتى فى ظروف تتعرض فيها روسيا لعقوبات دولية كبيرة، فيما تتعرض الصين أيضا لضغوط غربية؛ إذ تأتى بالتزامن مع تكثيف الولايات المتحدة مباحثاتها وزيارات مسئوليها إلى الصين، فقد حث وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن الصين، على التخلى عن دعمها لحرب روسيا فى أوكرانيا؛ حيث جاءت بعد شهر من زيارة بلينكن للصين فى أبريل 2024 فى ثانى زيارة لهذا البلد فى أقل من عام، لتشديد الضغط على بكين فى مسائل مختلفة منها دعمها لروسيا، مع السعى إلى إرساء المزيد من الاستقرار فى العلاقات بين البلدين.
ثانيا - القمة الروسية الصينية الأخيرة.. تنسيق مستمر ورؤى مشتركة:
شهدت الزيارة تفاهم الجانبين فى عدة قضايا وملفات مشتركة فى عديد القطاعات سواء السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية، وذلك عبر توقيع بيان مشترك بشأن تعميق علاقات الشراكة الشاملة والتفاعل الاستراتيجى، وفيما يلى أبرز مخرجات الزيارة:
1- التسوية فى أوكرانيا.. رؤية مشتركة
يمكن القول: إن الهدف الرئيسى من الزيارة هو تطلع روسيا لتنسيق الرؤى مع بكين بشأن القضايا المشتركة، فى ضوء حرص البلدين على مناقشة خريطة الصين لتسوية الحرب الأوكرانية خلال الفترة القادمة، بوصفها محايدة وموضوعية، وستسهم فى التسوية العادلة الحرب، وكذلك تبنى موقف موحد، وهو ما أكده الرئيس الصينى قائلا إن بكين وموسكو اتفقتا على ضرورة التوصل إلى "حل سياسى" للحرب الروسية الأوكرانية، كما ذكر البيان المشترك أن الدولتين تعارضان إطالة أمد الصراع فى أوكرانيا وتحوله المحتمل إلى مرحلة خارجة عن السيطرة، وقال فلاديمير بوتين: إنه ممتن للصين لمحاولتها حل الأزمة الأوكرانية، مضيفا أنه سيطلع الرئيس الصينى على الوضع هناك حيث تتقدم القوات الروسية على عدة جبهات، وهو ما يمكن أن يعيد إلى الواجهة مبادرة السلام التى طرحتها الصين العام الماضى، والتى تعرضت لانتقادات من كييف وحلفائها الغربيين، إلا أن الصين أكدت بعد ذلك استعدادها للتوسط فى السلام بين روسيا وأوكرانيا.
2- مواجهة السياسة الأمريكية.. موقف متسق
على الرغم من المباحثات المكثفة التى تمت بين الجانبين الأمريكى والصينى فى الآونة الأخيرة، فإن التوتر لا يزال واضحا فى العلاقات بين البلدين، وهو ما تُبنى عليه العلاقات القوية بين روسيا والصين على رؤية مشتركة ترى فى الولايات المتحدة تهديدا رئيسيا، وهذا التوافق الذى يعزز من قوة التحالف بينهما؛ حيث اتسق الموقف الروسى الصينى فى مواجهة الولايات المتحدة فى عدد من القضايا بداية من انتقاد كل من روسيا والصين الدعم الأمريكى لإسرائيل وحربها فى غزة، ساعيين إلى تعزيز العلاقات فى جميع أنحاء الجنوب العالمى؛ حيث يوجد رد فعل متصاعد ضد تصرفات إسرائيل فى غزة، كما دعت دول الجنوب العالمى إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، مع التعبير أيضا عن نقاط اصطفافها بشأن مجموعة من القضايا الجيوسياسية الأخرى المثيرة للجدل بما فى ذلك تايوان وكوريا الشمالية وتصرفات واشنطن تجاه الإندو-باسيفيك.
أكدت المباحثات بين الرئيس الروسى ونظيره الصينى هذا الاتساق؛ حيث انتقد الرئيسان ما وصفاه بأنه تزايد فى عداء السلوك الأمريكى وتعهدا بتوثيق العلاقات الدفاعية والعسكرية القوية بالفعل بين موسكو وبكين، كما أكد البيان المشترك مخاوف البلدين بشأن ما وصفه بأنها جهود من الولايات المتحدة للإخلال بالتوازن النووى الاستراتيجى وبشأن الدفاع الصاروخى الأمريكى العالمى الذى يهدد روسيا والصين، فضلا عن خطط الولايات المتحدة المتعلقة بأسلحة غير نووية عالية الدقة؛ حيث انتقد البيان التحالفات التى شكلتها الولايات المتحدة، والتى وصفها البيان بأنها "عقلية الحرب الباردة"، واتهمت الصين وروسيا الولايات المتحدة بنشر أنظمة صواريخ أرضية متوسطة المدى فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ بحجة التدريبات المشتركة مع الحلفاء، وقالوا إن التصرفات الأمريكية فى آسيا "تغير ميزان القوى"، و"تعرض أمن جميع دول المنطقة للخطر".
3- التعاون الاقتصادى.. الطاقة على رأس الطاولة
يواصل التبادل التجارى والروابط الاقتصادية بين موسكو وبكين الازدياد والنمو، ولا سيما أن التجارة بين بلديهما ازدادت بنحو 64% منذ إعلان الشراكة الاستراتيجية قبل نحو عامين؛ حيث وصل التبادل التجارى إلى نحو 240 مليار دولار عام 2023، ومن هذا المنطلق مثّل التعاون الاقتصادى أحد الجوانب الرئيسية فى اجتماع الرئيسين؛ إذ سلطا الضوء على أن التجارة الثنائية زادت بنسبة 170% على مدى السنوات العشر الماضية مع إمكانية التوسع، وجاءت الطاقة على رأس هذا التعاون؛ حيث أكد بوتين فى كلمته أمام منتدى صناعى، أن الشراكة "غير القابلة للانفصال" بين البلدين تعمل كضامن لأمن الطاقة، وتعهد الجانبان بشكل عام "بالعمل المشترك على تعزيز تنفيذ مشاريع الطاقة واسعة النطاق"، مع تعزيز التعاون فى مجال الطاقة فى مجالات النفط والغاز الطبيعى المسال والغاز الطبيعى والفحم والكهرباء، فضلا عن تأكيد الرغبة فى تعزيز التعاون الصناعى فى مجموعة من المجالات بما فى ذلك بناء الطيران المدنى والإلكترونيات والصناعة الكيميائية وبناء السفن والمعدات الصناعية وهو ما يشير إلى المزيد من التنسيق الاقتصادى فى السنوات المقبلة، الأمر الذى يعد بمنزلة دافع لاستمرار مواجهة روسيا العقوبات الغربية.
جدير بالذكر، أن النمو الذى حققته روسيا عام 2023 تجاوز نمو كل من الولايات المتحدة وأوروبا بنسبة 3.6% ما يشير إلى أن موسكو فى طريقها إلى عام اقتصادى قوى، ويعود ذلك النمو الذى حققته روسيا فى الفترة الأخيرة على الرغم من العقوبات الغربية، إلى تنامى التعاون التجارى مع الصين؛ حيث رفضت بكين الامتثال للعقوبات الأمريكية والأوروبية، بل بات العملاق الصينى أكبر مستورد للوقود الأحفورى الروسى، وهو ما يرجح عودة المباحثات لاتخاذ خطوات جدية بشأن مشروع "قوة سيبيريا ٢" الذى توقف منذ عام ٢٠٢٢ عندما تم الاتفاق عليه لتوريد الغاز من روسيا إلى الصين عبر منغوليا وسيبلغ معدل تدفقه ٥٠ مليار متر مكعب سنويا.
4- تعزيز العلاقات العسكرية.. آلية تعاون مستمرة
أشار البيان المشترك إلى خطط لتعزيز العلاقات العسكرية بين الصين ورسيا، الأمر الذى يشير إلى استمرار أحد أهم أوجه التعاون بين البلدين؛ حيث شهدت موسكو وبكين علاقات وثيقة بشكل متزايد فى المجالين العسكرى والدفاعى، وحولت معظم صادراتها من الطاقة إلى الصين، واستوردت مكونات عالية التقنية لصناعاتها العسكرية من الشركات الصينية وسط العقوبات الغربية، وفى تطور مهم يؤكد تعميق العلاقات بين روسيا والصين، أكد وزيرا دفاع البلدين التزامهما برفع التعاون العسكرى إلى مستويات غير مسبوقة، ولا يعد التعاون فى المجال العسكرى بين البلدين أمرا جديدا، فقد شهدت السنوات الأخيرة، استخدام روسيا والصين بشكل متزايد التدريبات العسكرية المشتركة لتأكيد وجودهما وقدراتهما استجابة للتطورات الجيوسياسيةـ كما تشير إلى استعداد بكين وموسكو لمواجهة التهديدات الأمنية الإقليمية وتقديم المساعدة عند الحاجة، كما عقدتا مناورات حربية مشتركة فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقى، وتنظيم تدريب للقوات البرية فى أراضى كل منهما.
ثالثا- روسيا والصين.. شراكة نحو عالم متعدد الأقطاب:
تظهر زيارة بوتين للصين تأكيد الدعم الروسى والصينى المشترك لإنشاء عالم متعدد الأقطاب، وحرص الجانبان على تأكيد أهمية تحقيق عالم متعدد الأقطاب بوصفهما قوى عظمى فى النظام الدولى، بالإضافة إلى تأكيد رفض الهيمنة الغربية والأمريكية على النظام الدولى، وهو الأمر الذى دعتا إليه مرارا وتكرارا منذ بدء العملية العسكرية؛ حيث يمثل كل منهما قيمة استراتيجية للآخرفى ظل اشتداد المنافسة الجيوسياسية، وتأتى هذه الزيارة بالتزامن مع التهديد الأوروبى بفرض رسوم جمركية على السيارات الكهربائية الصينية، ولذلك تعد الصين روسيا شريكا ضروريا للغاية فى العالم المتعدد الأقطاب، الأمر الذى تعارضه الولايات المتحدة والدول الغربية؛ حيث انتقدت عديد الدول وعلى رأسها بريطانيا زيارة بوتين للصين وشراكة البلدين، مؤكدة أنها تمثل تهديدا للعالم، كما اتهم وزير الدفاع البريطانى جرانت شابس الصين بالعمل على تزويد روسيا بمعدات قتالية فى حربها ضد أوكرانيا.
يؤكد ذلك تأكيد شى لبوتين أن الاثنين لديهما الفرصة لإحداث تغييرات لم يشهدها العالم منذ قرن من الزمان، مؤكدا أن الصين مستعدة لتحقيق تنمية وتجديد شباب بلداننا بشكل مشترك، والعمل معا لدعم الإنصاف والعدالة فى العالم، فقد أوضح البلدان أنهما يريدان إعادة تشكيل النظام الدولى بما يتماشى مع رؤيتهما للكيفية التى يحب أن يكون عليها العالم، كونهما عضوين يتمتعان بحق النقض فى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إلى جانب الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة؛ حيث شدد البيان على ضرورة "إرساء عالم متعدد الأقطاب مع ضرورة إعادة توزيع الموارد والفرص على الأسواق الناشئة والبلدان النامية، بوصفهما قوتين مستقلتين فى عملية بناء عالم متعدد الأقطاب، فإن الصين وروسيا سوف تستغلان إمكانات علاقاتهما بالكامل، وتعززان تحقيق عالم متعدد الأقطاب وإضفاء الطابع الديمقراطى على العلاقات الدولية بطريقة عادلة ومنظمة، وتوحيد جهودهما من أجل تحقيق ذلك"، وهو يمكن عده محاولة لتحدى النظام العالمى الذى تقوده الولايات المتحدة، خاصة فى ضوء تعزيز الصين وروسيا تعاونهما فى عديد من المنظمات والتكتلات أبرزها التنسيق المشترك فى تكتل "بريكس" الذى يحاولان من خلاله تشكيل نوع جديد من المنظمات الإقليمية التى لا تعتمد بشكل رئيسى على التقارب الجغرافى.
ختاما، يمكن القول: إن زيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى الصين فى هذا التوقيت، هى خطوة تعكس النقلات النوعية نحو تمتين العلاقات بين البلدين، اللذين قطعا خلال السنوات الأخيرة أشواطا كبيرة فى التوجه نحو صياغة علاقات ثنائية استراتيجية، بما يعكس تزايد حجم التعاون بينهما خلال الفترة الحالية خاصة فى ظل رغبة الجانبين فى الاستفادة من دعم بعضهما بعضا فى إعادة هيكلة النظام الدولى.