ويتنبأ تقرير «التوقعات لمقاعد 2024» الصادر عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بأن يظل حزب الشعب الأوروبي ممسكًا بزمام المشهد السياسي حتى هذه الدورة البرلمانية، مما يستدعي دخوله في تحالفات مع أحزاب أقل اعتدالا وأكثر تطرفًا.وستحقق الأحزاب اليمينية مكاسب هي الأكبر خلال الانتخابات الأوروبية نتيجة المعادلة السياسية الجديدة، فالتكتل المعادي للفكرة الأوروبية من المحافظين والإصلاحيين يتجه لكسب 24 مقعدًا جديدًا مما يؤهله ليكون التكتل الثالث في البرلمان. أما حزب الهوية والديمقراطية الأكثر تطرُّفًا فمن المتوقع، حسب استطلاعات الرأي، أن يحقق مكاسب جديدة تجعله رابع أكبر الأحزاب بـ 77 مقعدًا.
اليمين في المقدمة:
هذه الانتخابات تأتي في ضوء انتخابات محلية داخل الدول الأوروبية خرج منها اليمين المتطرف منتصرًا، ومهدت له الفوز بالمزيد من مقاعد البرلمان الأوروبي؛ فحزب أخوة إيطاليا الذي ترأسه جورجا ميلوني أصبح منذ أكتوبر الماضي الحزب الحاكم في روما. كما تقدم الجناح اليميني في الانتخابات التشريعية بفنلندا في حين تراجع الاشتراكيون، حيث فاز حزب الائتلاف الوطني (اليميني) بـ 48 مقعدًا في البرلمان الفنلندي المكوّن من 200 مقعدًا، بزيادة 10 مقاعد لصالحه عن انتخابات 2019، تلاه الحزب الشعبوي اليميني، حزب الفنلنديين «بي إس»،(حزب يميني متطرف مناهض للهجرة)، بـ 46 مقعدًا، ارتفاعا من 39 مقعدًا في انتخابات 2019. وحلَّ الحزب الديمقراطي الاجتماعي في المركز الثالث، وحصل على 43 مقعدًا فقط. وكانت النتيجة مفاجأة لفنلندا، التي تخلت عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) بزعامة رئيسة الحكومة الشابة اليسارية المعتدلة سانا مارين، رغم قيادتها بكفاءة البلاد خلال أزمتي «كوفيد -19»، والحرب الأوكرانية. وصعد بذلك بيتيري أوربو(اليمين الوسط) ليقود الحكومة الائتلافية الجديدة مع اليمين المتطرف، حيث حصل كل منهما على أصوات أكثر من الاشتراكيين.
تحديات جديدة أمام حزب الشعب:
وبالعودة إلى حزب الشعب الذي تشير التوقعات إلى احتفاظه بقيادة البرلمان الأوروبي رغم تراجع شعبيته، فإنه يواجه تحديات جديدة لاضطراره إلى التحالف مع أحزاب وتيارات يمينية بعضها يتضارب مع توجهاته في وحدة الاتحاد الأوروبي وقيمه التي أرساها طيلة عقود من العمل المضنى. وقد حرص حزب الشعب منذ تأسيسه عام 1976 على لعب دور فعال في تشكيل السياسات الرئيسية، مثل السوق الموحدة، وعملة اليورو، وتوسيع الاتحاد الأوروبي وتكامله مع منطقة غرب البلقان. كما لعب حزب الشعب دورًا رئيسيًا أيضا في التفاوض على الإطار المالي المتعدد السنوات للاتحاد الأوروبي، والذي يحدد ميزانية الاتحاد للسنوات السبع المقبلة. ولعل أهم التحديات أمامه الآن هي كيفية ترويض الأحزاب الشعبوية والقومية التي تكتسب الدعم المتنامي في جميع أنحاء أوروبا، بالإضافة إلى إعادة الزخم والشعبية في صفوف مناصريه وإصلاح هياكله بالاستفادة من حجمه الكبير ونفوذه القويفي دول أوروبا.
ورغم تلك التحديات، يؤكد المراقبون أن حزب الشعب سيحتفظ في هذه الدورة بمعظم سلطاته، ومنها وضع جدول الأعمال واستكمال التشريعات واختيار رئيس المفوضية المقبل. لكنه سيواجه أزمات حادة نتيجة التجديف عكس الاتجاه لدفع وتعزيز رؤيةمشتركة لمستقبل الاتحاد الأوروبي لإنقاذ ديمقراطيته من براثن التطرف.
ويتمسك حزب الشعب بالدفاع عن البرلمان الأوروبي ومكتسباته باعتباره إحدى المؤسسات التي تعكس مفهوم الديمقراطية داخل أوروبا الموحدة وثمار نضالاتها؛ فالبرلمان هو المؤسسة الوحيدة المنتخبة بشكل مباشر في الاتحاد الأوروبي، كما أنه يمثل ثاني أكبرديمقراطية انتخابية في العالم بعد البرلمان الهندي، وأكبر دائرة انتخابية ديمقراطية في العالم من حيث عدد الناخبين. وتبلغ النسبة المتوقعة للمشاركة بالتصويت في معظم الانتخابات نحو 50% كما هو الحال في الدورات السابقة. ولا يستبعد المراقبون أن يواجه حزب الشعب أزمات جراء محاولات خروج دول أوروبية من الاتحاد كما فعلت بريطانيا في الدورة التشريعية السابقة. وهذا ما أعلنه، على سبيل المثال، حزب البديل من أجل ألمانيا وعدد من الأحزاب اليمينية الأخرى في فرنسا وبولندا والمجر.
الهجرة والفساد أبرز الملفات الخلافية:
قضايا الهجرة والفساد تتصدر الملفات الخلافية بين الأحزاب خلال الانتخابات الأوروبية. وتزيد هذه القضايا من حدة المنافسة بين الأحزاب الأوروبية بجميع أطيافها، ويستخدمها تيار اليمين المتطرف تحديدا لتعزيز صعوده المتنامي وكسب المزيد من الأصوات خلال هذه الانتخابات مستغلا استياء الأوروبيين من تدهور مستوى المعيشة وإلقاء اللوم على المهاجرين والسياسات المتبعة داخل الاتحاد وفشل حكومات اليسار والوسط في الوفاء بوعودهم الانتخابية.
ويشكك عدد من أحزاب اليمين في جدوى الاتحاد الأوروبي ويطالب بعضهم بحله، فيما يطالب البعض الآخربإصلاح الخلل في أنظمته بما يتلاءم مع فكر اليمين المتشدد. وتتخوَّفُ في المقابل أحزاب الوسط واليسار من تنامي اليمين للدرجة التي تهدد «ديمقراطية» أوروبا إذا ما قاد القارة العجوز. هذا الحلم «اليميني» أصبح كابوسًا حقيقيًا يؤرق قوى اليسار. ومما يزيد الوضع تعقيدا أمام أحزاب اليسار التغيرات الاجتماعية التي أدت لتقليص الطبقة العاملة الصناعية المعروفة بدعمها التقليدي لتلك الأحزاب.
ومن المعروف أن الأحزاب اليمينية تغذي نعرة العنصرية حيث ترفض المهاجرين ودمجهم والتعايش معهم؛ وتستخدم تلك الأحزاب الخطابات القومية المعادية للهجرة لحشد المؤيدين؛ ويسعى ممثلو هذه الأحزاب للفوز بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان حتى يتمكنوا من تحديد وصياغة سياسات الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الخمس القادمة في قضايا رئيسية مثل الهجرة. والمفارقة التي لا تطرح أحزاب اليمين لها حلولًا هي أنَّ معظم دول الاتحاد الأوروبي تعاني عجزًا سكانيًا متزايدًا لا مجال لتصحيحه إلا من خلال جذب المهاجرين، في ظل قناعات السكان الاقتصادية والاجتماعية التي تحجمُ عن إنجاب الأطفال. وهذا أدى إلى ارتفاع معدل عمر السكانمما يؤثر على معدلات النمو الاقتصادي التي يكون الشباب عادة هم العنصر الدافع والمحفز لها. ومع ذلك، فإن طرح قوىاليسار لقضية «الهجرة» باعتبارها حلًا لعلاج مشكلة العجز السكاني في أي بلد بالاتحاد الأوروبي، يجعلهم هدفًالغضب الحشود من غير المسيسين.
وتأتي قضية الفساد لتعمق تلك الخلافات. وتلاحق رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير، اتهامات بالفساد والمحسوبية لتعيينها ذويها وأصدقائها بمناصب ورواتب عليا، لدرجة أن فلوريان فيليبو، زعيم حزب «الوطنيون» الفرنسي، وصف الاتحاد الأوروبي بأنه «النظام الأكثر فسادا في العالم!». وأثارت قضية تعيين عضو في حزب رئيسة المفوضية، ويدعى ماركوس بيبر، في منصب مبعوث للشركات الصغيرة والمتوسطة في المفوضية الأوروبية فضيحة كبيرة في أرجاء الاتحاد. واتهم أعضاء في البرلمان الأوروبي رئيسة المفوضية بأنها أنشأت خصيصا هذا المنصب براتب 20 ألف يورو شهريا من أجل تعيين «بيبر»، وأشاروا إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها بترقية أصدقائها، وخاصة الألمان، إلى مناصب عليا في المفوضية.
كما أثار أعضاء آخرون خلال الأشهر الماضية قضايا أخرى تزعم بوجود تجسس داخل الهيئة التشريعية الأوروبية وأشارت أصابع الاتهام إلى أعضاء في البرلمان وموظفين قيل إنهم حصلوا على أموال من قطر والمغرب وموريتانيا للتأثير على صنع القرار داخل الهيئة التشريعية الأوروبية.وقد نفت هذه الدول تلك المزاعم. وفي مطلع العام الجاري، أثيرت قضية عضو البرلمان الأوروبي اللاتفية، تاتيانا زدانوكا، وتعاونها مع الاستخبارات الروسية وقد اتخذت السلطات الأمنية إجراءات جنائية ضدها. كما اتهم رئيس الوزراء البلجيكي، ألكسندر دي كرو، نوابًا في البرلمان الأوروبي بتلقي أموالًا من روسيا للدعاية لها. وتمتوقيف مساعد نائب ألماني من طرف المدعي العام في برلين بشبهة التجسس لصالح الصين وتقديم معلومات عن البرلمان الأوروبي. وجرى تعريف الشخص الموقوف باسم رمزي «جيان ج»، وهو أحد مساعدي ماكسيميليان كراه، النائب في حزب البديل من أجل ألمانيا، اليميني الشعبوي، والذي يعد أبرز مرشحي الحزب لانتخابات البرلمان الأوروبي كما أنه من أكثر دعاة تحسين العلاقات بين ألمانيا من جهة وبين روسيا والصين من جهة أخرى. كل تلك القضايا أشعلت المنافسة في الحملات الانتخابية وحصدت أصواتا جديدة للتيارات اليمينية المتطرفة.
تغييرات متوقعة للسياسات الأوروبية:
تتبنى الأحزاب اليمينية نفس الأطروحات في السر والعلن، وتراهن على انتخابات 2024في أن تكون حاسمة لكسب مساحات سياسية جديدة داخل البرلمان الأوروبي للوصول إلى سقف طموحاتها وإحداث تغييرات في السياسات الأوروبية. في فرنسا يسير «التجمع الوطني» (اليمين المتطرف)، الذي يقود جوردان بارديلا معركته الانتخابية، بخطى ثابتة نحو البرلمان الأوروبي. وتشير الاستطلاعات إلى أن اليمين في حزب البديل من أجل ألمانيا يسير على خطى نظيره الفرنسي أيضا، على الرغم من كونه حديث العهد بالسياسة حيث تأسس عام 2013، إلاَّ أنه يكتسب المزيد من الأنصار في مناطق غير تقليدية، لدرجة أن رئيسة الحزب أليس فايدل «تتفاخر» بأن حزبها أصبح حزباً شعبياً في جميع أنحاء ألمانيا، وفقًا لمركز «انترريجيونال للتحليلات الاستراتيجية» الألماني. والغريب أن «فايدل» سبق ولوّحت بالخروج من الاتحاد الأوروبي«ديكست»، حيث أعلنت يوم 22 يناير 2024 ، في مقابلة مع «فايننشال تايمز»، عن عزم حزبها إجراء استفتاء على خروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي إذا وصل حزبها إلى السلطة عام 2025، خصوصًا بعد إعلانه عن تحضيره لمرشح لمنصب المستشار هذه المرة؛ وأوضحت أنه إذا لم يستطيعوا إعادة بناء سيادة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فيجب أن يتجهوا إلى الاستفتاء الشعبي كما فعلت المملكة المتحدة التي أشادت بقرارها الخروج من الاتحاد الأوروبي واعتبرتها نموذجًا يجب أن تحتذي به لألمانيا.
أما في النمسا فالانعطاف نحو اليمين قد تم بالفعل منذ 15 أكتوبر 2017 عندما حصلت الغالبية الجديدة من اليمين على نحو 60% من الأصوات في الانتخابات التشريعية، منهيةً عشر سنوات من حكم الائتلاف الوسطي بين اليمين والاشتراكيين الديمقراطيين. وعلى نفس الخطى أيضًا يسير اليمين الشعبوي في هولندا نحو مقاعد البرلمان الأوروبي بعد أن فاز في الانتخابات الهولندية وشكل الحكومة الائتلافية. ووفقًا لاستطلاعات الرأي، يحتل حزب اليمين الشعبوي-الذي يقوده خيرت فيلدرز-المركز الأول في هولندا في الانتخابات الأوروبية بنسبة 22%من الأصوات. ويتوقع فوزه بعدد 7 مقاعد من أصل 31 مقعدًا هولنديًا في البرلمان الأوروبي. وحتى الآن، لم يُمثّل فيلدرز هناك بأي عضو في البرلمان.
وفي إيطاليا، يتوقع الاستطلاع الذي أجرته يورونيوز في نهاية أبريل الماضي فوز حزب «أخوة إيطاليا» اليميني الذي تتزعمه رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني، بأكبر عدد من الأصوات، يليه الحزب الديمقراطي وحركة خمس نجوم الشعبوية. ولا مفاجأة في ذلك بعد أن حصد تحالف الأحزاب اليمينية على أكثر من 44 % من أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية الإيطالية سبتمبر 2023. وتتزعم إيطاليا الآن ما أصبح يُعرفُ بـ نادي اليمين الأوروبي وانضم إليه حديثا كل من السويد والمجر وبولندا وأسبانيا بعد فوز أحزاب اليمين المحافظ والمتطرف في انتخاباتها التشريعية.
وهكذا في ضوء هذا الانعطاف الواضح نحو اليمين في الحياة السياسية الأوروبية يتجه البرلمان الأوروبي بدوره إلى استقبال المزيد من النواب اليمينيين مما سيؤثر على التوازن التقليدي للأحزاب العشرة داخل البرلمان ويغير بالتأكيد تركيبة المجموعات السياسية السبعة التي لا مناص من استيعابها للكتل اليمينية الأكثر تطرفا. كما أنه يفتح الباب إلى تشكيل مجموعات وكتل جديدة يغلب عليها اللون اليميني، وسيكون لها نفوذ داخل لجان البرلمان العشرين بما يخدم ميولها السياسية الرافضة للمهاجرين بل والرافضة لمؤسسة الاتحاد نفسها. هذا النفوذ سيتجلى بشكل واضح خلال الشهور المقبلة في قرارات وقوانين تخدم أفكارهم وأيديولوجياتهم اليمينية بعد أن يتخذ هؤلاء الأعضاء مواقعهم داخل اللجان وفي كافة مفاصل صناعة القرار بالبرلمان ويقترحون ويصيغون ويرفعون المقترحات التشريعية للمفوضية إلى الجلسات العامة وصولا إلى التصويت عليها ومنها سوف تتشكل أهم سياسات ورؤية الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الخمس المقبلة.