اليوم يتسلم مجلس النواب الموازنة العامة للجهاز الإدارى للدولة وجميع الهيئات الاقتصادية فيما تمت تسميته لأول مرة بموازنة الحكومة العامة التى تبلغ إيراداتها 5٫3 تريليون جنيه فى حين تبلغ المصروفات 6٫4 تريليون جنيه.
هذه الموازنة جاءت بعد عام اقتصادى شديد الصعوبة والتعقيد عالميا وإقليميا مما انعكس بالسلب على الاقتصاد المصري، وهو ما ذكرنى بما طرحه الخبير الاقتصادى العالمى د. محمد العريان فى رسالته إلى المؤتمر الاقتصادى الذى عقد فى العام قبل الماضى حينما أشار فى تلك الرسالة إلى «المنزل والحى» والعلاقة فيما بينهما حيث لا يمكن فصل المنزل عن الحى الذى يقع فيه، وهو ما يحدث دائما فى الواقع الاقتصادى حيث تتأثر اقتصادات دول العالم بما يحدث من تأثيرات سلبية عالمية بدأت بهبوط جائحة كورونا على العالم، ثم تبعها اندلاع الحرب الروسية ــ الأوكرانية التى أجهدت الاقتصاد العالمي، وأخيرا جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة، وما تبعها من مشكلات وأزمات إقليمية واقتصادية حادة.
رغم كل تلك الصعاب نجح الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الخروج بالدولة من تلك الأزمات العاصفة، وكانت البداية فى توقيع أضخم صفقة للاستثمار الأجنبى المباشر فى رأس الحكمة، وما تلاها من توقيع اتفاقية صندوق النقد الدولي، وبعدها توقيع اتفاقية التعاون الإستراتيجى بين مصر والاتحاد الأوروبى، ثم كان قرار تحرير سعر الصرف، والاتفاق مع البنك الدولى.
كل هذا ساهم فى تدبير مدخلات إضافية بالعملة الصعبة للاقتصاد المصرى تصل إلى ما يقرب من 65 مليار دولار إذا تمت إضافة الحصيلة المتوقعة من الطروحات الحكومية خلال المرحلة المقبلة.
هذه الخطوات ساهمت فى تخفيف الضغط على الموازنة العامة الجديدة، وأعادت الثقة والاطمئنان إلى الاقتصاد المصرى وتمت ترجمة ذلك فى بدء عودة تحويلات المصريين التى تبلغ 32 مليار دولار إلى مساراتها الطبيعية، إضافة إلى المستهدفات من قطاع السياحة (15 مليار دولار)، وقطاع التصدير (40 مليار دولار)، وهو ما يؤدى إلى وجود احتياطات كافية لسد الفجوة بين الإيرادات والمصروفات من العملات الصعبة خاصة الدولار، بما يساعد البنك المركزى على حسن إدارة المشهد فى ظل وجود احتياطات كافية وقوية من النقد الأجنبى.
الموازنة العامة الجديدة ركزت على كيفية تحقيق استدامة الإصلاحات الاقتصادية، وتحقيق معدل نمو يصل إلى 4٫2٪ من الناتج المحلى الإجمالي، وتحقيق فائض أولى قدره 3.5٪، وخفض العجز الكلى على المدى المتوسط إلى 6 ٪ من إجمالى الناتج المحلى الإجمالي، مع زيادة نمو الإيرادات بالموازنة لتصل إلى 36٪، وبما يؤدى فى النهاية إلى عودة الحيوية إلى الاقتصاد الوطنى وانعكاس كل ذلك على حياة المواطن فى إطار إستراتيجية بناء الإنسان المصرى.
أبرز التحديات التى واجهت الموازنة العامة ــ فى تصورى ــ هى كيفية التعامل مع كل تلك المشكلات والظروف السابقة على إعداد الموازنة، وتأثيراتها الممتدة خاصة ما يتعلق بارتفاع نسبة التضخم، والاضطرار إلى رفع أسعار الفائدة لمواجهة هذا التضخم المرتفع بما يعنى ارتفاع تكلفة التمويل وانعكاس ذلك على ارتفاع تكلفة الحصول على السلع والخدمات فى ظل ارتفاع أسعارها عالميا، بالإضافة إلى تأثير تحرير سعر الصرف، خاصة تلك السلع الإستراتيجية التى يتم استيرادها مثل السلع الغذائية التى ارتفعت اسعارها بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف النقل والتأمين عليها، وأيضا ما يتعلق بأسعار المواد البترولية من بنزين وسولار وبوتجاز وغيرها من المشتقات البترولية المختلفة.
حول التحديات والظروف التى واجهت إعداد الموازنة وأهم ما ركزت عليه تلك الموازنة تحدثت إلى د.محمد معيط وزير المالية الذى يتحمل بثبات ورسوخ أعباء ضخمة وثقيلة، ويوازن بهدوء وحكمة بين الإيرادات والمصروفات والذى أكد أن الموازنة العامة الجديدة جاءت عقب فترة مضطربة وعصيبة اقتصاديا نتيجة الأوضاع الاقتصادية العالمية الصعبة والمعقدة، والتى انعكست بالضرورة على الاقتصاد المصرى.
رغم كل ذلك فقد نجحت الدولة المصرية فى استعادة ثقة المؤسسات الدولية الاقتصادية بعد سلسلة من النجاحات تمثلت فى توقيع صفقة رأس الحكمة، وأيضا توقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية مع الاتحاد الأوروبى ، وكذلك نجاح الاتفاق مع صندوق النقد والبنك الدولى مما ساهم فى تهيئة البنية الاقتصادية لقرار البنك المركزى بتحرير سعر الصرف، وانعكس كل ذلك على قيام مؤسسات التصنيف الائتمانى الدولية بتعديل نظرتها المستقبلية من سلبية إلى مستقرة ثم مؤخرا إلى إيجابية، وهو ما يؤكد سلامة المسار الاقتصادى المصرى وسرعة تعافيه وتعديل مؤشراته إلى الاتجاه الصحيح.
وأضاف د.محمد معيط قائلا: الموازنة العامة الجديدة جاءت وسط كل هذه التحديات، وانعكس ذلك على ارتفاع نسب التضخم مما استلزم رفع سعر الفائدة لمواجهة هذه الأعباء التضخمية، لكن المشكلة أن رفع سعر الفائدة يؤدى بالضرورة إلى ارتفاع تكلفة التمويل بما يؤدى فى النهاية إلى زيادة الأعباء على الموازنة فى ظل وجود موجة غير مسبوقة من الارتفاعات القياسية فى أسعار السلع الغذائية بسبب ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين، وكذلك المواد البترولية بسبب الحرب الروسية ــ الأوكرانية مما يضاعف هذه الأعباء.
على سبيل المثال فإن ارتفاع أسعار السلع الغذائية وكذلك أسعار البترول ومشتقاته عالميا، بالإضافة إلى تحرير سعر الصرف، ضاعف العبء على الموازنة العامة وأدى إلى زيادة دعم رغيف الخبز إلى 120 مليار جنيه، حيث يتكلف الرغيف الواحد 125 قرشا، ويباع بـ 5 قروش فقط، فى حين تتحمل الموازنة العامة باقى الأعباء، ونفس الحال فى المواد البترولية التى ارتفعت تكلفة الدعم فيها إلى 154 مليار جنيه رغم التحريك الأخير لأسعار البنزين والسولار والبوتجاز.
سألت: وماذا عن الأعباء الأخرى الناتجة عن ارتفاع التضخم والتعامل معه من خلال حزم اجتماعية مختلفة؟
أجاب د. محمد معيط: الرئيس عبدالفتاح السيسى يحرص دائما على المواطن البسيط، وضرورة تلبية احتياجاته الأساسية، وتأمين هذه الاحتياجات من خلال توفير حزم اجتماعية متنوعة، حيث يصل الدعم فى مجمله إلى 636 مليار جنيه، موزعة بين دعم الخبز، والمواد البترولية، والسلع التموينية (40 مليار جنيه) ، وتكافل وكرامة (40 مليار جنيه)، وصناديق المعاشات (215 مليار جنيه) وغيرها من أوجه الدعم المختلفة.
كذلك التركيز على توفير كل متطلبات تشجيع قطاعات الصناعة، و الزراعة، ونظم المعلومات والتكنولوجيا، والطاقة بكل أنواعها التقليدية والجديدة والمتجددة والنووية، وكذلك تشجيع الاستثمار المحلى والأجنبى وإزالة ما يعترضه من عقبات ومشكلات.
سألت : ولكن ماذا يعنى تحقيق فائض أولى رغم وجود عجز كلى؟
أجاب وزير المالية: تحقيق فائض أولى يعنى أن الإيرادات الفعلية أكثر من المصروفات الفعلية، وهو ما بدأ يتحقق خلال الست سنوات الماضية لأول مرة وبالتحديد منذ عام 2018 وفى الموازنة الجديدة من المتوقع زيادة الفائض الأولى من 295 مليار جنيه إلى 591 مليار جنيه لكن العجز الكلى يأتى نتيجة ارتفاع تكلفة التمويل وارتفاع سعر الفائدة، والتضخم، ومن هنا يأتى العجز الكلى.
وأضاف د. محمد معيط: فيما يخص نسبة الدين إلى إجمالى الناتج المحلى فإنه أقل من 90٪، ونعمل بكل جدية على تخفيض هذه النسبة خلال الأعوام المقبلة، وللعلم فإن أقل نسبة للدين إلى الناتج المحلى كانت 78٪ بعد حرب الخليج، فى حين كانت أعلى نسبة 158٪ فى بداية الثمانينيات، وقد كان متوقعا تخفيض نسبة الدين إلى الناتج المحلى إلى حوالى 80٪ لولا أزمات كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، وأحداث غزة الأخيرة، وكلها عوامل أدت إلى تأخير تحقيق هذا الهدف، وهو المستهدف فى الموازنات المقبلة.
قلت : ماهو المقصود بتعبير موازنة «الحكومة العامة» ولماذا تغيير التسمية ؟!
أجاب وزير المالية: التعديل جاء لتصحيح مفهوم خاطئ ظل عقودا طويلة يتضمن تقديم موازنة عامة للدولة إلى جوار 59 موازنة أخرى للهيئات الاقتصادية، ومن هنا تم تعديل قانون الموازنة ليشمل موازنة الدولة إلى جوار موازنات الهيئات الاقتصادية لتكون جميعها تحت مسمى واحد هو موازنة الحكومة العامة والتى بلغ إجمالى إيراداتها لأول مرة 5٫3 تريليون جنيه لتكون هى الأضخم فى تاريخ الموازنات العامة مشيرا إلى أن موازنة الحكومة العامة تستهدف إنصاف الاقتصاد المصرى فليس معقولا تقديم موازنة إيراداتها 2٫63 تريليون جنيه فى حين أن الإيرادات الكلية 5٫3 تريليون جنيه وهو ما يساهم فى تحسين مؤشرات المالية العامة وتقديم الاقتصاد المصرى بما يليق به.
انتهت إجابات د. محمد معيط وزير المالية، ويتبقى دخول هذه الموازنة إلى حيز التنفيذ لترجمة آمال وطموحات المواطنين فى الحياة الكريمة اللائقة فى مختلف المجالات، وعلى كافة الأصعدة.