لعل خير استهلال للكتابة في ذكرى رحيل الجنرال الكاتب والمفكر المبدع وأهم وزير ثقافة في تاريخ الحكومات المصرية " ثروت عكاشة " (27 فبراير 2012 ) التذكيربشهادة الكاتب والناقد الفني البارز رجاء النقاش ، فقد كتب " هو الذي صنع التربة الثقافية الجديدة ، وأتى لها بالطمي والبذور الصالحة ، ورعاها بالجهد الدائب، والحزم العظيم، إيمانا منه ويقيناً بأن أي تغيير لا قيمة له، إذا لم يكن للوطن عقل مثقف وذوق جميل، وعلى هذا فإن المشروع الثقافي الذي قدمه ثروت عكاشة هو نفسه المشروع الذي ينبغي أن يكون مشروع الحاضر والمستقبل، والمبادئ التي قام على أساسها هي القادرة على الخروج بالثقافة العربية من أزماتها الراهنة، والانطلاق بها إلى آفاق واسعة التأثير..).
"مهمتك تمهيد المناخ الثقافي لإعادة صياغة الوجدان الوطني والقومي والأخلاقي.. وبناء الإنسان أصعب جدا من بناء المصانع. "، كلمات حاسمة، حازمة، وجهها الرئيس جمال عبدالناصر، إلى الدكتور ثروت عكاشة، في لقاء مهم امتد ساعات طويلة، حينما وقع اختيار الزعيم عليه، لكي يتولى أول وزارة للثقافة في مصر، والأخير كان مترددا، قبل أن يقتنع ويحقق نجاحات متتالية في ملف قوة مصر الناعمة.
كان د.عكاشة يمثل المثقف المفكر الرائد النموذج في تلك المرحلة ، لقد اقترب بوعي رائع من الثقافة العالمية الرفيعة في مرحلة عمرية مبكرة ، و بتفهم مخلص لأهمية الجودة والتميز والقابلية للنمو المتفاعل والطردي في ميادين العمل الثقافي مع السعي الوطني لتحقيق أهداف الدولة ودورها تجاه المواطن والمناخ الثقافي العام..
و من المؤكد أن شكل وإطار العلاقة المعلومة بينه وبين الرئيس جمال عبدالناصر، قد ساهما بشكل واضح في حل مشكلات كثيرة كانت تواجه منظومة العمل الثقافي ، بل و تحقيق إنجازات كانت بمثابة أحلام صعبة التحقيق في ظل ظروف تلك المرحلة اقتصاديًا وسياسيًا .. وهل ننسى ــ على سبيل المثال ــ دوره الرائع في إنقاذ آثار النوبة من الغرق بعد تحويل مجرى نهر النيل ؟..
لقد دفع " عكاشة " بكل عناصر القوى الناعمة المصرية للإبداع الحر المتميز ... نهضة مسرحية و إنتاج سينمائي و موسيقي وفنون تشكيلية بفعاليات وإنشاء منظومة غير مسبوقة ، ولم يتكرر حدوثها مع وزراء ثقافة غيره وحتى تاريخه..
وفي كل موقع كانت أمارات التميز والوطنية بارزة تشهد له بالكفاءة .. كقائد لسلاح الفرسان و أحد الضباط الأحرار ، و كملحق عسكري لمصر في باريس ، ثم كسفير لمصر في روما . .. وهو أيضًا مبدع وباحث مستنير ( إنجازات عكاشة الإبداعية كموسوعة"العين تسمع و الأذن ترى" و موسوعة “عصر النهضة “، و كمترجم لكتاب “فن الهوى”..وغيرها من الأعمال المرجعية).
عندما سمع من الراديو خبر تعيينه وزيرًا للثقافة والإرشاد القومي ، كان يفكر جديًا في الاعتذار عن رفضه المنصب، الذي لم يُستشر في أمر إسناده إليه ، وبعد أن قدم لعبدالناصر مبررات رفضه، وعندها ذكّره ناصر بأنه لم يكن يغادر القاهرة في مهمة سياسية خاصة، إلا وعاد بحديث مقتضب عن المهمة، تاركا التفاصيل للتقرير المكتوب، بينما كان عكاشة يطنب في الحديث عن النهضة الفنية في الخارج، وعما شاهده من عروض مسرحية وموسيقية وأوبرالية ومعارض فن تشكيلي وأحدث الإنشاءات الثقافية ...ودائما كان عكاشة يعرب عن أحلامه في أن يكون للثورة إسهاماتها في تحقيق طفرة ثقافية وفنية مماثلة .. قال له عبدالناصر: لا أخفي عليك أن كل حديث كان يدور حول تنمية الثقافة والفنون كان يجعل صورتك تتراءى في خيالي، وأذكر حديثنا قبل الثورة عن انحصار المتعة الثقافية، وبخاصة الفنون الراقية، في رقعة ضيقة، لا تنفسح إلا للأثرياء، وكيف ينبغي أن تصبح الثقافة في متناول الجماهير العريضة، وأن تخرج من أسوار القاهرة والإسكندرية، لتبلغ القرى والنجوع، فمن بين أبناء هذه القرى الغائرة في أعماق الريف بالدلتا والصعيد يمكن أن يبزغ عدد من الفنانين الذين يعكسون في إبداعهم أصالتهم الحضارية.
بشهادة المفكر، د . فؤاد زكريا، قال: " إن الثقافة في عهد الثورة كانت في الواقع تشكل جزيرة منعزلة إلى حد ما عن بقية جوانب النظام، وكان ذلك يرجع أساسا إلى وجود شخصية قوية هي شخصية د . ثروت عكاشة، فهذا الرجل كان من ناحية واحدا من أبرز الضباط الذين قاموا بدور أساسي في ثورة يوليو، وكان من ناحية أخرى عاشقا حقيقيا للثقافة، فتمكن بفضل قوته ونفوذه من أن يلقي ظلا من الحماية والرعاية على المثقفين، ويضمن لهم قدرا لا بأس به من الحرية، ويحميهم من كثير من الشائعات والوشايات التي كان من الممكن أن تلحق بهم ضررا كبيرا لولا وجوده..." ..
لقد ذكر نجيب محفوظ في أحد الحوارات التي أجريت معه: "من أصعب المواقف التي صادفتني في حياتي أزمة رواية " ثرثرة فوق النيل "، فلقد بلغني أنها اعتبرت لدى السلطات وقتها تجاوزا يجب تأديبي عليه، لولا الدكتور ثروت عكاشة الذي كان وزيرًا للثقافة أيامها، ودافع عني عند عبدالناصر، لكانوا قد عاقبوني فعلاً.. "
كان د . عكاشة يردد دومًا أن الثقافة الإنسانية ليست ملكا لفئة دون أخرى، وأن المثقفين ليسوا إلا أمناء عليها وحملة لها، وهم مكلفون إيصالها إلى مواطنيهم، لأن الثقافة لا تعيش إذا قطعت عن جذورها، وبقيت سجينة بضع صفحات، وعودة الثقافة إلى الجماهير هي وسيلة إلى تنميتها وازدهارها.
حين تولى ثروت عكاشة وزارة الثقافة فى عهد الرئيس عبدالناصر أنشأ كثيرا من الهيئات التى تعمل على إثراء الحياة الثقافية والفنية إلى يومنا هذا، مثل المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب (المجلس الأعلى للثقافة)، والهيئة العامة للكتاب، ودار الكتب والوثائق القومية وغيرها، وحقق نجاحًا كما أنشأ أكاديمية الفنون عام 1959 بمعاهدها الفنية المتخصصة المختلفة، وأسس فرق دار الأوبرا المختلفة، مثل أوركسترا القاهرة السيمفونى وفرق الموسيقى العربية، والسيرك القومى، ومسرح العرائس، وأنشأ قاعة سيد درويش بالأكاديمية لعمل الحفلات بها، ووجه اهتمامه للآثار المصرية، حيث وضع الأساس لمجموعة متاحف هى من أعظم المتاحف المصرية للآن، كما بدأ تقديم عروض الصوت والضوء، كما كان له دور وطنى بارز من خلال إقناع المؤسسات الدولية بالعمل على إنقاذ معبدى فيلة وأبوسمبل والآثار المصرية فى النوبة.
لقد نال ثروت عكاشة العديد من الجوائز المحلية والعالمية ومنها وسام الفنون والآداب الفرنسى عام 1965م، ووسام اللجيون دونير «ووسام جوقة الشرف» الفرنسى بدرجة كوماندور عام 1968، وعلى الميدالية الفضية لليونسكو تتويجًا لإنقاذ معبدى أبوسمبل وآثار النوبة، والميدالية الذهبية لليونسكو لجهوده من أجل إنقاذ معابد فيلة وآثار النوبة عام 1970م، وجائزة الدولة التقديرية فى الفنون من المجلس الأعلى للثقافة فى 1987، وجائزة مبارك فى الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام 2002. ولثروت عكاشة العديد من الكتب والموسوعات الفنية تقترب من 45 كتابًا مترجمًا، من أشهرها ترجمة للشاعر جبران خليل جبران، وأعمال الرومانى أوفيد، كما يعتبر كتابه " مذكراتى فى السياسة والثقافة " وأيضًا مجموعة كتب " العين تسمع والأذن ترى " بأجزائها المختلفة، والتى تعبر عن الفنون فى عصورها المختلفة، بمثابة موسوعة فنية متكاملة فى الفن والحياة وإعصار من الشرق والقيم الجمالية فى العمارة الإسلامية.