تقتصر معرفة شريحة كبيرة من المصريين، كغيرهم، بالهجمات والحروب فى الفضاء الإلكترونى، على مجرد التعرض لسرقة حسابات شخصية بمواقع التواصل الاجتماعى، أو السطو على بيانات بطاقات ائتمان، وتعرض مواقع مؤسسات عامة لـ"تهكير" على شبكة الإنترنت، دون إدراك حجم التهديدات الكبيرة، التى تقف خلفها دول وكيانات معادية، وتداعياتها، التى قد تتسبب فى انهيار شركات، ومؤسسات، بل إسقاط دول، عبر الحملات التحريضية و"حروب السايبر".
الحروب السيبرانية هى إجراءات نظامية معقدة، تتضمن تنفيذ هجمات إلكترونية لتدمير القدرات المعادية، والبِنَى التحتية الإلكترونية المرتبطة بها، مع تعزيزها الحماية الإلكترونية السيبرانية الوطنية فى المقابل، ومع ذلك، تتنوع المخططات المعادية، من خلال استغلال حالة الزخم على شبكة الإنترنت، وتقدم وسائل تكنولوجيا الاتصالات، والقدرة على تحويل الهواتف المحمولة، بغض النظر عن نوعها أو سعرها، إلى جاسوس متحرك فى يد صاحبه، والسيطرة على قراراته، حتى وإن كانت مصيرية!
فى الفضاء الكبير على الإنترنت، يتم استغلال الثغرات الموجودة فى برامج التصفح والتطبيقات الإلكترونية، تنشط الفيروسات التى تهاجم شرائح من المستخدمين للشبكة، أفرادًا، ومؤسسات، عبر تقنيات نقل وإنتاج وتخزين صناعة المعلومات، فى ظل استخداماتها الحيوية، يوميا؛ لكن الأهم هو انتقال الحروب التى كانت تخوضها الجيوش النظامية فى الساحات العسكرية، إلى مكاتب العمل والمنازل، عبر الأجهزة المحمولة والثابتة، على السواء.
إطلالة بسيطة على ما تشهده السنوات الأخيرة من حملات تحريضية على مواقع التواصل، توضح حجم المخاطر المُحدِقة بالعلاقات البينية للدول، وإمكانية تشويه المؤسسات، والقيادات الرسمية، والشخصيات السياسية؛ الوطنية، وأساليب تسطيح المكتسبات الوطنية، وتشويه القطاعات الاقتصادية، وتغذية الاحتقان الاجتماعى، بطرق بسيطة، تسهل الإيقاع بالضحايا، كالكوميكس (Comics) ومقاطع الفيديو المصنوعة بحرفية، فى زمن الذكاء الاصطناعى.
المرحلة الأعمق، تتبدّى فى توجيه المناقشات، عبر التعليقات والتعقيبات، بغرض الوقيعة المجتمعية، وهو أمر لا يقتصر على الشئون السياسية أو الاقتصادية، بل يطول حتى جماهير كرة القدم، وفى كل المحطات يتم إنشاء الموضوعات الرائجة (الترندات/ الهشتاجات) التى تجمع الكثير من الباحثين على ملء أوقات الفراغ، أو من يجذبهم الجدل؛ لذا، أصبحت الاستخبارات السيبرانية أكثر نشاطا من الاستخبارات البشرية، المعتمدة على الجواسيس التقليديين.
لا يهتم المواطن العادى، الذى ينشط على مواقع التواصل الاجتماعى، أو المنتديات وغرف الدردشة، بتشعب الأنشطة المعادية، وتضخم الإمكانات والقدرات اللوجستية، للدول - الصغيرة، قبل الكبيرة، فى زمن الحروب غير المتكافئة، ومبادرتها بتطوير أساليب الحروب الإلكترونية المحسوبة على استخبارات الإشارات، وتشمل: التجسس الإلكترونى على الهواتف المحمولة، وأجهزة الكمبيوتر المتنوعة، والرصد، والتنصت على أجهزة الاتصال السلكية واللاسلكية، وفك الشفرات، والتشويش، وتنفيذ الحملات النفسية المضادة على شبكة الإنترنت.
يوفر التقدم التقنى، والدعم الذى تقدمه الشركات العاملة فى مجال التكنولوجيا، القدرة على معالجة ملايين الاتصالات ومليارات المفردات، يوميا، وإلى جانب أنشطة التجسس، يتم توظيف الحروب الإلكترونية على نطاق أوسع، عبر توظيف وسائل التواصل الاجتماعى فى نشر روايات تحرض على الكراهية، وتثير الانقسام، وتحاول إلحاق الضرر بالدول المستهدفة، وسط مواءمات مع المحتوى المخالف، من الشركات المالكة، سواء بزعم حرية التعبير، أو خدمة لمصالحها.
هذا التقاعس العمدى، مع سطوة الجهات المعادية للمجتمعات المستقرة، يتسبب فى تعكير الصفو العام، وتهديد "السلم الاجتماعى"، وينعكس على التنمية والتقدّم، ويعرقل كل القطاعات، التى تتأثر بتعميق أزمة الثقة، التى تغذيها رسائل تحريضية، متكررة، تزعم أن قرارات الدولة - أى دولة مستهدفة- غير عادلة، وأنه يتم اتخاذها بعشوائية؛ ما يفاقم الخلافات بين أفراد المجتمع ومؤسساته.
يمكننا إدراك ذلك من واقع الصراعات والمعارك والحروب بين المتصفحين على مواقع التواصل الاجتماعى "واتس آب، فيس بوك، تويتر، انستجرام، سناب شات"، وغيرها، باستخدام الخوارزميات (كحسابات البوتات الضارة) أو من خلال عناصر يتم تدريبها وتأهيلها قبل تكليفها بالمهام النوعية، وفق قدراتها، بلغات عدة، وأسماء مزورة؛ للتلاعب بالرأى العام، فى الاتجاه الذى يخدم أهداف القائمين على هذه الحملات.
ولإضفاء التمويه على الحملات التحريضية الموجهة، يتم توظيف أساليب إنسانية، ذات عناوين برّاقة، لا يختلف عليها أحد، كتحقيق المطالب السياسية والاجتماعية، استعادة الحقوق، رد المظالم، مواجهة الفساد، تحقيق العدل، وتتزامن الحملات التحريضية مع تحركات عملية، تقوم بها الدول والكيانات المعادية للتأثير على حالة الاستقرار المجتمعي؛ حتى يتمدد الخوف، ويتدهور الأمن، وتتسع رقعة الانفلات، وتُنتهك الحرمات، وينهار كيان المجتمع ككل، كما حدث فى دول عدة بالجوار الإقليمي.
النتائج المترتبة على حملات التحريض، يمكن التعبير عنها بمثال بسيط، تخيل أنك كمسئول عن أسرتك (أب كنت أو أم).. تفعل كل ما فى وسعك (حقيقة وليس ادعاء) وسط ظروف صعبة (اقتصاديا واجتماعيا)؛ ثم يقول لك الأبناء: "أنت السبب فيما يحدث.. أنت فاشل.. شوف فلان وفلان فلانة!!!" رغم أن المشار إليهم؛ حياتهم حرام فى حرام، بداية من استحلالهم للمال العام، ومتاجرتهم فى كل ما هو غير مشروع.. يأكلون أموال الربا، ويحلّون بأموال اليتامى!
يحولون جهودك إلى مساوئ، تماما، كالحملة التى تتعرض لها مصر، رغم نجاحها خلال الـ"١٠" سنوات الماضية - بعد الإطاحة الشعبية بتنظيم الإخوان الهدام، ومجموعات ممولة من الخارج، بالصوت والصورة، وتيارات أخرى موالية لمصالحها، فقط لا غير- فى استصلاح أكثر من ٣ ملايين فدان أراضى زراعية؛ وإنشاء أكثر من ٤٠ مدينة سكنية متكاملة (من أسوان الجديدة، إلى العلمين الجديدة)؛ ومدن صناعية للحفاظ على ثروات مصر، وعدم تصديرها كمواد خام، تعزيزا لقيمتها المضافة.
حتى البنية التحتية التى تليق بحاضر شعبنا، ومن بينها، الشبكة القومية للطرق، التى أنهت معاناة المصريين مع الازدحام المرورى، والتكدس فى الشوارع بالساعات، لم تسلم من حملات التشويه والتسطيح، وترديد جملة مفخخة "هو إحنا هناكل طرق وكبارى" رغم أن السيولة المرورية المترتبة على ما تم، تعزز الاقتصاد الشخصى والعام، بعدما كان المواطن يضيِّع نحو 60% من يومه، على الطرق.
لا تدرك الجموع الشعبية أن المؤامرة، مكتملة الأركان؛ التى تتعرض لها، هدفها الأساسى إضعاف المناعة الداخلية، ومن ثم التفريط الوطنى، عبر تخلى مصر عن سيادتها، وقرارها المترجم لمصالحها القومية، وتسمح بما هو مطلوب منها إقليميا، كالتغاضى عن الترتيبات الجيوسياسية، وداخليا؛ من خلال التمكين لتنظيمات إرهابية، وتيارات مشبوهة، حتى تدير البلاد بنظام الرئاسات الثلاث، وتصبح مصر من جملة "الأتباع" داخل منظومة قوى المصالح الدولية، التى لا تعترف بقوانين أو تشريعات أو حقوق (غزة نموذجا).
الآن، وأنت غارق فى حرب الشائعات (ومتفاعل مع: منقول، وشاهد قبل الحذف، ومروج للكوميكس، الساخر من إنجازات بلدك، ومكتسباتك الوطنية) أنت أصبحت ضحية للتغييب، عبر الصفحات المزيفة على مواقع التواصل، التى صارت ملعبنا لجمع المعلومات، وتوجيهك، وغيرك، فى الدول المستهدفة، لتنفيذ المطلوب بأقل تكلفة، مقارنة بما كان يتم إنفاقه على الحروب التقليدية فى الماضي، أصبحت ضمن من تعرضوا لـ"التغييب" الممنهج، حتى لا تستوعب ما تقوم به مؤسسات الدولة المصرية، بحكم مسئولياتها الشاملة عن المجتمع.
من يتآمرون عليك، وعلى بلدك، يلعبون على غرائزك وأمنياتك فى دولة طعامها "الْمَنَّ وَالسَّلْوَى"، فيما أنت فى معادلتهم المشبوهة أداة وظيفية، يحولونك إلى مجرد إنسان منزوع الانتماء، إلا لشهواتك؛ حتى يسهل عليهم السطو على بلدك كما فعلوا من قبل: الصومال ١٩٩٣، أفغانستان ٢٠٠١، العراق ٢٠٠٣، ليبيا واليمن وأجزاء من سوريا بعد ٢٠١١.
تذكر تفكيكهم لـ"الاتحاد المغاربى"، وتآمرهم المتواصل على مجلس التعاون الخليجى، ومشروعه الجارى حاليا لتقسيم السودان وابتلاعه، لاحقًا، ومخططهم لشطب القضية الفلسطينية؛ استغلالا للصراع الداخلى بين الفصائل، منذ الانقسام الذى حدث عام ٢٠٠٧، تذكر خطتهم الشيطانية لدمج الميليشيات الإرهابية فى القوات النظامية؛ فى بلدان عربية عدة؛ لتجسير العلاقة بين الإرهاب ومؤسسات ضبط الأمن، بأسلوب "الأمر الواقع".
وأنت غارق فى أسعار السلع، وهو اهتمام لا ينكره عليك أو علينا أحد، تذكر فئة التجار الذين أعماهم الجشع، ومحاولات فئة أخرى كارهة لك ولمؤسساتك، توظيف الملف فى زيادة الاحتقان، لا تنس أن ما يحدث جزء من مؤامرة كبرى؛ عبر محاولات تعطيش السوق من الدولار، رغم أنه مجرد ورقة خضراء بلا قيمة أو غطاء ذهبي.
لا يغيب عنكم محاولات التأثير المشبوهة على عائدات قناة السويس، من خلال الممارسات التى تتم فى منطقة باب المندب، علما بأن ٦٠% من واردات النفط الذى تستخدمه إسرائيل لتسيير حياتها اليومية، تأتى من أذربيجان تركمانستان؛ عبر خطوط أنابيب ما يسقط مزاعم تعقب البضائع الإسرائيلية فى البحر الأحمر.
تتعرض تحويلات المصريين للتآمر من خلال أجهزة استخبارات معادية؛ رغم أن كل الجاليات الشريفة فى العالم لا تحوِّل مداخيلها المالية إلى سلاح ضد أوطانها؛ بل لدعم بلادها، وأسرها.. يتخيل السائح- على غير الحقيقة- أن منطقة الشرق الأوسط هى قطاع غزة؛ ومن ثم تتأثر حركة السياحة كرافد مهم للعملات الأجنبية، فهل يدرك المواطن الناقم على أقرب ما له (مؤسساته) أنه يجب أن يكون داعما لها؛ وليس عامل ضغط عليها.. تماما؛ كالأبناء الذين يجب عليهم مؤازرة المسئول عن الأسرة (أب كان أو أم)؛ لأنه لا بديل له فى الحياة القاسية، التى لا تسير على الأهواء، ولا تفرش السجادة الحمراء لأحد؟!
يبدو المواطن العادى، خاصة أصحاب النيات الطيبة، الحلقة الأكثر ضعفا فى ساحة المعركة، من خلال الاستخدام الشرير للتطور التقنى فى مجال الاتصالات، عبر اتساع دائرة أنشطة أجهزة الاستخبارات المعادية، وجماعات الإرهاب، والعصابات المنظمة التى تعمل على نشر أفكار مضلل على مدى الساعة، بحجة الدفاع عن قضايا عادلة لجذب أكبر شريحة ممكنة من المستخدمين لشبكة الإنترنت، التى تبدأ فى الغالب برسائل إلكترونية مفخخة لاصطياد الضحايا، من خلال اختراق أجهزة الكمبيوتر (والهواتف) الخاصة، وشن الهجمات السيبرانية المكثفة، مستفيدة من اتساع دائرة استخدام التكنولوجيا، متعددة الأشكال والأدوات والأساليب، وسقوط الحواجز التى كانت تُحصِّن المجتمعات!
رابط دائم: