محاكمة «القرن» فى مواجهة «قرن» من الظلم والعدوان 15-1-2024 ا. عبد المـحسن سـلامة * رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام بعد غياب طويل، امتد إلى أكثر من قرن من الزمان، تدخل إسرائيل «قفص الاتهام» فى محاكمة القرن أمام محكمة العدل الدولية فى لاهاى بتهم ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، والتفرقة العنصرية فى غزة، بعد أن دخلت الحرب شهرها الرابع دون أن تحقق أيا من أهدافها المعلنة من قِبل إسرائيل سوى القتل الجماعى للفلسطينيين فى غزة، وتدمير المبانى والمنشآت، وجعل الحياة مهمة مستحيلة فى القطاع. لم تكن مجازر غزة هى الوحيدة فى التاريخ الإسرائيلي، لكن تاريخ إسرائيل طويل وممتد فى هذه المجازر، ويرجع إلى ما قبل إنشاء دولة إسرائيل، وأمتد إلى بعد إنشائها وقيامها وتوقيعها على اتفاقية منع الإبادة الجماعية. قبل إنشاء دولة إسرائيل، لجأت العصابات الصهيونية إلى ارتكاب المذابح بحق الفلسطينيين تحت حماية الانتداب البريطانى كوسيلة لتهجير السكان الفلسطينيين، وإحلال اليهود الوافدين من الدول الأخرى محلهم، فى حين كانت دولة الاحتلال البريطانى تغمض عينيها، وتكتفى باللجان، والتحقيقات الورقية، والاستماع إلى شهادات الشهود من دون أن يكون هناك إجراء حقيقى من قِبل دولة الاحتلال لوقف هذه الأعمال الوحشية من جهة العصابات الصهيونية، بهدف طرد السكان الفلسطينيين من منازلهم وأراضيهم، وإقامة كيانات سكانية تغلب عليها الكثافة اليهودية الوافدة من كل بقاع الدنيا، فى محاولة لتغيير التركيبة السكانية التى لم يكن اليهود يمثلون فيها سوى 5٪ من إجمالى عدد سكان فلسطين قبل تنفيذ المخططات الصهيونية، واستقبال ملايين اليهود من الخارج، لإحداث التوازن فى التركيبة السكانية بفلسطين التى مهدت لقيام دولة إسرائيل فى 1948. كان من المفترض بعد قيام دولة إسرائيل، والاعتراف الأممى فى 1948، أن يتغير سلوكها وعقيدتها العسكرية إلى صيغة للتعايش المشترك مع الجار الفلسطينى ودول المنطقة، إلا أن عقيدة التوسع والعدوان، وارتكاب المجازر الواحدة تلو الأخرى، تنامت بمرور الوقت، وازدادت مثلما حدث فى مجزرة قرية «الدوايمة» فى ٢٩ أكتوبر ١٩٤٨ حينما دكت القوات الإسرائيلية المنازل على رءوس السكان، ورمى السكان بالرصاص الحى من قِبل القوات الإسرائيلية النازية، خاصة أن هذه المذبحة جاءت بعد مذابح «دير ياسين» الشهيرة. العديد من المذابح، التى يصعب حصرها، ارتكبتها القوات الإسرائيلية على مدى قرن من الزمان، ومنها مذابح: كفر قاسم، وخان يونس، وتل الزعتر، وصبرا وشاتيلا، والمسجد الأقصى، والحرم الإبراهيمى، ومخيم جنين، وصولا إلى المذبحة الأشهر الحالية فى قطاع غزة. حتى الآن مر ما يقرب من ١٠٠ يوم على اندلاع الحرب، ووصلت فيها أرقام القتلى إلى ما يقرب من ٢٤ ألف قتيل، وما يقرب من ٦٠ ألف مصاب، أكثر من نصف هؤلاء القتلى والمصابين من النساء والأطفال، ما جعل غزة تتحول إلى مقبرة جماعية للأطفال والنساء والعجائز. فشلت إسرائيل خلال الـ١٠٠ يوم فى تحقيق أهدافها المعلنة، خاصة ما يتعلق بإنهاء المقاومة، وتحرير الأسرى والمختطفين. ومع فشلها التام، ازداد الجيش الإسرائيلى النظامى شراسة فى القتل والتدمير والحصار، حتى تحولت غزة إلى أنقاض ومقابر جماعية، ولم يعد بها مكان آمن بعد أن قصفت القوات الإسرائيلية المستشفيات، والمدارس، والأحياء السكنية، والمبانى المخصصة للإيواء والإغاثة من جهة المنظمات الأممية، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). ألقت حكومة جنوب إفريقيا «القفاز» فى وجه حكومة إسرائيل، لتسقط عن وجهها القبيح، ووجه الراعى الأمريكى لها، زيف الحضارة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة والمساواة، بعد ارتكابها أبشع المجازر فى تاريخ الإنسانية الحديث، التى ربما تفوقت على «الهولوكست النازى» لليهود، ليكون «الهولوكست الإسرائيلى» للفلسطينيين أكثر بشاعة وجرما من كل المجازر الإسرائيلية والعالمية السابقة. ما يميز دولة جنوب إفريقيا فى دعواها أنها دولة متجردة، ولم ترفع الدعوى بشكل عاطفى، وإنما رفعت الدعوى، لأنها (جنوب إفريقيا) اكتوت بنيران العنصرية، وتم احتلالها احتلالا استيطانيا دائما كما تحاول إسرائيل فرض ذلك الأمر على الأراضى الفلسطينية المحتلة بعد الرابع من يونيو 1967، وحينما فشل الاحتلال الاستيطانى فى جنوب إفريقيا، اضطرت بريطانيا تلك الدولة الاستعمارية الكبرى إلى الاعتراف باستقلالها شكليا، لكنها أقامت فيها نظام فصل عنصرى بغيض، حتى سقط هذا النظام فى 1994 على يد الزعيم الخالد نيلسون مانديلا، الذى كان أول رئيس لدولة جنوب إفريقيا من السكان الأصليين، لينتهى نظام الفصل العنصرى البغيض هناك إلى الأبد. لكل هذا، فقد أصابت الدعوى التى رفعتها دولة جنوب إفريقيا إسرائيل والمدافعين عنها فى مقتل، وكشفت زيف ادعاءات الولايات المتحدة والغرب، حماة إسرائيل، والمدافعين عنها، بما ينادون به من أوهام الحرية والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة والمساواة. وثقت حكومة جنوب إفريقيا اتهاماتها لإسرائيل بالصوت والصورة، سواء من خلال تصريحات المسئولين الإسرائيليين بدءا برئيس دولة إسرائيل، ورئيس الوزراء، والوزراء، ووزير الجيش الإسرائيلى، بالإضافة إلى توثيق أعمال الإبادة والقتل والتدمير والخراب الواسع غير المحدود الذى لحق بالسكان والمبانى والمنشآت على أيدى قوات الجيش الإسرائيلى الذين مارسوا أبشع أنواع القتل والتدمير للبشر، والمساجد والكنائس، والمستشفيات والمدارس، ومحطات الكهرباء والمياه، ومخازن الأغذية، والبنية التحتية، من طرق ومحطات صرف صحى، بحيث لم يعد قطاع غزة قابلا للحياة. دفعت إسرائيل أكثر من 85٪ من سكان شمال غزة إلى تهجيرهم إلى جنوب غزة، لكنها استهدفتهم فى أثناء تنقلاتهم، وأبادت عائلات بأكملها، ولم يعد هناك مكان آمن لحماية السكان المدنيين، وامتد الأمر إلى حصار السكان، برا وبحرا وجوا، ولم تقم إسرائيل بواجباتها كدولة احتلال فى حماية السكان، فى جريمة يندى لها جبين الإنسانية. فى كل الأحوال، نجحت «محاكمة القرن» فى كشف جرائم إسرائيل طوال قرن من الزمان قبل وبعد إنشاء دولة إسرائيل، فى إطار عقيدة عسكرية شاذة ومتطرفة دينيا، تخلط ما بين الدين والأعمال العسكرية، وتستخدم الخطاب الدينى فى التحريض على أعمال القتل والتدمير، وترسخ مفاهيم التفرقة العنصرية بين السكان الفلسطينيين والسكان اليهود حتى داخل دولة إسرائيل، واعتبار السكان العرب «سكان درجة ثانية»، وإلا كانوا هدفا للقتل أو الترحيل، أو ممارسة كل أشكال التنكيل والتمييز ضدهم. المؤكد أن هذه المحاكمة التاريخية سوف تكون «محاكمة فارقة» فى تاريخ إسرائيل، بعد أن كشفت الوجه الحقيقى لدولة إسرائيل، وعقيدة جيشها العدوانية القائمة على إبادة العرب، وتحويل حياتهم إلى جحيم لا يطاق فى إطار خطط التهجير التى تبنتها العصابات الصهيونية قبل إنشاء دولة إسرائيل، ثم تحولت إلى عقيدة دائمة للعسكرية الإسرائيلية فى الجيش النظامى الإسرائيلى، والتى تقوم على التوسع والعدوان والإبادة والتهجير والحصار والتجويع، ما يجعل الحياة مهمة مستحيلة كما يحدث الآن فى غزة. ربما تنجح المحكمة فى اتخاذ ما يلزم من التدابير، خاصة فيما يتعلق بالوقف الفورى للعمليات العسكرية فى غزة، وكذلك الأمر بإدانة ما يحدث من عمليات إبادة هناك، وربما لا يحدث ذلك أيضا بسبب الضغوط الأمريكية والغرب على المحكمة، والأعضاء المنتسبين إلى تلك الدول، لكن المؤكد أن هذه المحاكمة سوف تكون ضمن العوامل المساعدة للضغوط التى تمارسها مصر، ومعها المجموعة العربية، من أجل الوقف الشامل للحرب على غزة، وبدء مسار سياسى حقيقى يضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، عاصمتها القدس الشرقية. هكذا كان الموقف المصرى صلبا وقويا، ما أسهم فى تغيير معادلة الحرب الإسرائيلية، ونجح فى إيقاف مخططات تهجير الفلسطينيين خارج غزة، ورفض تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما أعلنه الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ أول لحظة لاندلاع الحرب فى مواجهة الإدارة الأمريكية، والحكومات الغربية، وأسهم فى تغيير كبير بسياسات تلك الدول، وهو ما ظهر واضحا خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكية، أنتونى بلينكن، الأخيرة للمنطقة، ولقائه الرئيس عبدالفتاح السيسى، الخميس الماضى، معلنا التوافق مع مصر على الرفض التام لمبدأ أو محاولة تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، والتمسك بمسار حل الدولتين كأساس لتحقيق الاستقرار فى المنطقة. أتمنى أن تعيد «محاكمة القرن» الرشد المفقود إلى القادة الإسرائيليين، والاستماع إلى صوت العقل، ووقف إطلاق النار، لتنعم المنطقة بالسلام العادل والشامل، قبل أن تتطور الأمور إلى الأسوأ، وتمتد إلى المناطق المجاورة والعالم كله. رابط دائم: