أمس الأول كان اليوم التسعين فى الحرب على غزة، واليوم هو الـ7 من يناير الذى تدخل فيه الحرب شهرها الرابع، والتى تعد أسوأ الحروب تدميرا ودموية منذ الحرب العالمية الثانية.
لم تحقق إسرائيل أهدافها فى الحرب حتى الآن، والمؤكد أنها حتى لو نجحت فى تحقيق بعض الأهداف الجزئية، فقد فشل مخططها الأكبر الذى كان يستهدف تهجير الفلسطينيين خارج قطاع غزة، بعد كسر ذلك المخطط الشرير على عتبة موقف مصر الصلب الذى أعلنه الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ بداية الأزمة برفض تهجير الفلسطينيين إلى مصر، ورفض تصفية القضية الفلسطينية، واعتبار ذلك خطا أحمر للأمن القومى المصرى.
مؤخراً، اعترفت إسرائيل بعدم قدرتها على تهجير سكان غزة وفقا لما نشرته صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية، الأسبوع الماضى، على لسان أحد المسئولين الإسرائيليين الذى أكد فشل خطط التهجير الطوعى أو القسرى للفلسطينيين، مشيرا إلى رفض الدول هذا الطرح، وواصفا تلك الخطط بأنها «أوهام لا أساس لها من الصحة».
على الرغم من ذلك، فمازالت الآلة العسكرية الإسرائيلية، المدعومة أمريكيا، تمارس أبشع أنواع القتل والتخريب والتدمير. وبحسب وصف صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، فإن دمار غزة يشبه ما حدث فى ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
الصحيفة الأمريكية أشارت إلى أن إسرائيل أسقطت 29 ألف قنبلة على قطاع غزة، ما أدى إلى تدمير 70٪ من المنازل بالقطاع (جزئيا وكليا)، وأن التدمير امتد إلى البنية التحتية لشبكات المياه، والكهرباء، والاتصالات، والرعاية الصحية.
لم تفرق القنابل الإسرائيلية بين المساجد والكنائس، وامتد التخريب والتدمير إلى المساجد العتيقة التاريخية والكنائس البيزنطية، ولم تسلم المراكز التجارية ولا الفنادق ولا المسارح هى الأخرى من التدمير الكلى الشامل.
لفتت الصحيفة إلى أن غزة كانت قبل 3 أشهر مكانا حيويا على الرغم من الحصار الإسرائيلى «الجائر»، حيث كان الفلسطينيون يعيشون حياة هادئة وبسيطة بجوار البحر، ويجتمعون فى المقاهى والمطاعم والمناسبات، لكنها بعد الحرب أصبحت تشبه المدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تحولت المبانى إلى أنقاض، وأصبحت الشوارع فى شمال غزة مغلقة بسبب تراكم أنقاض المنازل .
أما جنوب غزة فليس أحسن حالا، بعد أن نزح إليه أكثر من مليون فلسطينى من الشمال ينامون فى الشوارع، وليست لديهم أى إمكانات للحياة، من مأوى أو تجهيزات، ويجمعون «الحطب» و«القمامة»، لاستخدامها فى طهى ما يصل إليهم من طعام.
على الجانب الآخر، فإن أعداد القتلى والمصابين تتزايد يوميا، وطبقا لبيانات وزارة الصحة فى غزة، فإن عدد القتلى حتى اليوم الــ90 بلغ 22 ألفا و438 شهيدا، فى حين بلغ عدد المصابين 57 ألفا و614 مصابا، وتتزايد هذه الأرقام يوميا بمعدل يفوق الــ100 شهيد وأكثر من 300 مصاب.
أرقام مرعبة، حيث لم تعد هناك أسرة فى القطاع إلا وكان لها شهيد أو مصاب من داخل الأسرة أو من أقارب الدرجة الأولى أو من بين أفراد العائلة، بل إن البشاعة والدموية وصلت إلى اغتيال وإعدام أسر وعائلات بكاملها، ولم ينج منها أحد.
فشل إسرائيل فى تحقيق أهدافها حتى الآن، سواء فى القضاء على المقاومة أو تحرير الأسرى الإسرائيليين، جعلها تفقد عقلها، وتزيد من حجم أعمال الإبادة والتدمير التى ترتكبها داخل القطاع، حيث تقوم بتحطيم كل أسس الحياة الطبيعية، وتدمير المدارس والمكتبات والمستشفيات والمخابز والمرافق والمصانع، مستهدفة جعل قطاع غزة غير صالح للسكن من أجل إجبار سكانه على التخلى عن وطنهم، والبحث عن مكان يصلح للإقامة «طوعا» أو «كرها».
وفقا لتقارير وبيانات الأمم المتحدة، فإن أكثر من 85٪ من سكان القطاع، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، قد تم إجبارهم على ترك منازلهم، ولجأوا إلى المدارس والمستشفيات والمبانى التى تستخدمها الأمم المتحدة مقارا لها، وأقاموا الخيام فى بعض مناطق الجنوب، وهم يعانون المجاعة وانعدام الخدمات، ويضطرون إلى الاصطفاف ساعات طويلة، للحصول على الخبز أو المياه أو حتى لكى يستطيعوا استخدام دورات المياه، لقضاء حاجاتهم الطبيعية.
مأساة إنسانية كبرى يعيشها قطاع غزة لم يشهد لها القطاع مثيلا من قبل، فعلى الرغم من تعدد الحروب والاقتحامات فى القطاع، فإن هذه الحرب تعتبر هى «الأسوأ» على الإطلاق التى يمر بها قطاع غزة، بينما تشير تكاليف إعادة الإعمار إلى أرقام يصعب تقديرها حاليا نتيجة حالة الدمار الشامل التى حلت بالقطاع، ووفقا لتقديرات صندوق النقد الدولى، فإن حرب 2014 المحدودة للغاية على القطاع تراوحت أضرارها بين 3 :6 مليارات دولار، وهو ما يعنى أن الأضرار الحالية تفوق تلك الأضرار بعشرات المرات .
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد فشلت إسرائيل فى تحقيق أهدافها من الحرب حتى الآن، خاصة ما يتعلق بالقضاء على المقاومة أو إطلاق سراح الأسرى والمحتجزين، وهو ما يؤكد فشل الحلول العسكرية الهمجية التى تلجأ إليها إسرائيل فى كل مرة دون أن تعى أن الأزمة سوف تظل قائمة ولن تنتهى إلا بالتوصل إلى سلام عادل وشامل مع الفلسطينيين، يضمن لهم الحق فى إقامة دولتهم المستقلة طبقا لقرارات الشرعية الدولية على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
مع بدء الشهر الرابع للحرب جرت مياه كثيرة فى أنهار السياسة الدولية، وراجعت الكثير من الدول الحليفة للعدوان الإسرائيلى على غزة مواقفها، وتزايدت المطالبات الدولية بتحقيق السلام العادل والشامل فى المنطقة، وضرورة الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة.
بقراءة متعمقة لأحداث الحرب على غزة منذ وقوعها نجد أن صلابة الموقف المصرى ووضوحه منذ البداية كان له تأثير قوى ومباشر فى تغيير مفاهيم العديد من الدول الغربية والأوروبية التى كانت مساندة للعدوان الإسرائيلى، وانضمامهم الآن إلى المطالبة بوقف الحرب على غزة، ورفض تهجير الفلسطينيين، وضرورة التسوية العادلة والشاملة للقضية الفلسطينية وفقا لقرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية.
فى هذا الإطار، فقد شهدت القاهرة لقاءات مكثفة بين الرئيس عبدالفتاح السيسى وعدد من أعضاء الكونجرس الأمريكى من الحزبين الديمقراطى والجمهورى خلال يومى الأربعاء والخميس الماضيين، وفى أثناء تلك اللقاءات، أكد الرئيس مواقف مصر الثابتة بضرورة وقف إطلاق النار فورا، وتبادل الأسرى والمحتجزين، وإنفاذ المساعدات الإنسانية، وإغاثة المدنيين الذين اضطروا للنزوح، والرفض القاطع لتهجير الفلسطينيين مع بدء مسار جاد للتسوية العادلة والشاملة للقضية الفلسطينية بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
مواقف واضحة وقوية أعلنها الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ بدء الأزمة فى مؤتمر القاهرة للسلام، وكذلك فى اللقاءات التى جمعته بالزعماء والقادة والمسئولين الذين توافدوا على القاهرة خلال الفترة الماضية بعد اندلاع الحرب، وانتهاء بلقائه وفدى الكونجرس الأمريكى الأربعاء والخميس الماضيين.
أتمنى أن يراجع الرئيس الأمريكى جو بايدن وإدارته حصاد العدوان الإسرائيلى بعد مرور أكثر من 90 يوما حتى الآن على وقوعه، وفشل هذا العدوان فى تحقيق كل أهدافه حتى الآن، وضرورة العودة إلى تحكيم العقل، وإعلاء قيم السلام والعدالة، والإقرار بحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، قبل أن تتطور الأوضاع فى المنطقة كلها عاجلا أم آجلا إلى «الأسوأ»، وتتحول إلى برميل بارود ناسف يهدد السلم والأمن الدوليين، ويخرج عن نطاق السيطرة والتحكم.