الصومال والدائرة الغامضة 12-2-2012 * تمور الساحة الإفريقية بالصراعات والحروب الأهلية والإقليمية، وظهرت بؤر مشتعلة تمزق القارة وتكاد تعود بها إلى عصور الجاهلية حيث القبيلة والتنازع والفرقة في الوقت الذي تنتشر التعددية في الولاءات والانتماءات، وهو المنتشر في شرقي إفريقيا خاصة في الصومال، والكارثة تكمن في عدم الولاء للوطن، فنصبح أمام أزمة اندماج وطني تؤدي إلى صراع دامٍ ضد الحكومة المركزية، وحمل السلاح في وجهها . إن جوهر القضية يتعلق بممارسات أنظمة الحكم الإفريقي، وما يشوبها من غياب للعدالة نتيجة للجهل والأنانية والجَوْر، وكلها عناصر فاعلة في القضايا الدينية والعشائرية والحزبية التي نشأت في الصومال حتى أصبح المتنازعون لا تجدي معهم براهين المنطق ودروس التاريخ، ونداءات العقلاء بإيثار ثقافة اللين بينهم وعدم تمزيق وطنهم، بعدما أخذتهم الأحكام المسبقة التي درجوا عليها بالتنشئة، فظلوا عاضِّين عليها مهما كانت ظالمة وخاطئة، مقتدين في ذلك ببعض كبراء العشائر وغيرهم من ذوي الرأي والمكانة في المجتمع الصومالي، ممن كانوا يُتألفون بالأموال والأعطيات التي يحصلون عليها من أصحاب العقليات العدوانية المتخمة بأحلام القرصنة والسلب، وخطف السفن في البحار كي يتمكنوا من الإنفاق على مشاريعهم الخاصة في عملية توظيف لممارسات الفعل التزييفي والتضليلي التي تطغى دائماً على السجال في الساحة السياسية، وهي محور الجدل والتساؤلات والصراعات . إن الأزمة الاقتصادية والسياسية التي يشهدها الصومال حالياً هي الأخطر نتيجة الفراغ الدستوري الذي لازم تجربة الحكم في البلاد منذ الاستقلال . وما يمكن قوله هو إن القرصنة البحرية في بحر العرب والمحيط الهندي تمثل اليوم معضلة استراتيجية، تتداخل أبعادها الأمنية والاقتصادية والسياسية على نحو وثيق، وعلى المجتمع الدولي تعزيز جهوده وتنسيقها بأقصى قدر ممكن لمواجهة هذا التحدي والتغلب عليه . وآخر تحدٍ هو خطف ناقلة النفط الإيطالية، حيث وصل عدد عمليات خطف السفن إلى ثلاثمئة وخمسين عملية نُفذت من طرف قراصنة صوماليين . فالدولة عاجزة أو مهترئة، وتدفع ثمن فشلها الدول الإقليمة بالدرجة الأولى، وكذلك مختلف دول العالم . المأساة الصومالية شديدة الوطأة على كل إنسان لأنها من صنع مواطنين فقدوا الإحساس بالمواطنة، إنها نزوة أمراء حرب يتنازعون على السلطة للتسلط على البلاد والعباد . فهذه الحرب قد حصدت أرواحاً كثيرة، ونشرت الفقر والجوع والخراب في كل مكان في البلاد . فماذا يريدون؟ وإلام يسعون؟ فهم إلى جانب ما جرّوه على وطنهم ومواطنيهم من ويلات، ودمار، وموت، فإنهم يترصدون المواد الغذائية التي يجري إرسالها إلى الجياع فينهبونها تحت تهديد السلاح، ويتركون الجوعى يصارعون الموت، بعدما نجوا من الموت خوفاً . ليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل الأعجب أنهم يبيعون ما زاد على حاجتهم من الأغذية المنهوبة، لشراء الذخيرة في الوقت الذي يموت فيه المئات بل الآلاف جوعاً . إنها مأساة حقيقية مروعة أن يموت شعبٌ قاتِلُه بعضُ المنتسبين إليه، حتى جعلوا حياة أبناء الصومال سلسلة متصلة من المخاوف، يغالبون الخوف تحت وطأة أجسادٍ هزيلة أضناها الجوع والعطش، ضاعت أعمارهم بين الفقر والخوف والجهل، صامتين ضاجين بالوجع الإنساني في فراغ كامل وشامل مكرس للعزلة والعدم تحت أستار الجوع، في ظلمة عناء المكابدة تحت وهج الشمس التي تلفح بألم المعدمين فلا ظل شجرة ولا جدول ماء، يعيشون في فراغ بحجم الكون، وليس لهم من غطاء غير سماء أمسكت ماءها . فيا لها من وصمة على جبين أمراء الحرب الصوماليين هؤلاء ويا لها من طعنة في ضمير هذا العصر! بكل ما يدعي من إنسانية كاذبة تطير فرحاً لإنقاذ حيوان أعجم، وتغض الطرف عن هؤلاء المحاصرين باختناق الفضاء وجغرافية الروح والمكان، صموا أسماعهم عن صراخهم الذي يدوي - طالباً الرحمة - بصوت الريح التي تتكسر كل لحظة، أصوات أضناها الألم والخواء واليأس وهي تسبر الماء فلا تجد إلا صوت الرصاص الذي يفجر الدم، والصمت المخزي عما يجري لهم، فأين يفرون؟! وبمن يحتمون؟! والدمار المتبادل والفناء بواسطة الحكومة التي تحتكر العنف والفتنة، وتقيم الحدود على الآخرين في طوباوية الحرائق، ادعت لنفسها التقوى وامتهنت تشريع العنف، لشعورها بأنها تملك وحدها - الحقيقة النهائية، دون السماح لأي شريحة أخرى بإبداء مجرد الرأي في آليات الخطاب الإفنائي المتبادل أمام هذا السيل الجارف من تهم الجهل والخيانة مروراً بعمليات القتل وخيانة العقيدة . ما أقسى هذه الكلمات! وما أبغضها إلى النفس والسمع، لكن مخاطر الدمار الاجتماعي لا تنحصر فقط في محيط الفرد أو جماعته، ولكن خطرها الأعظم عندما تمارس الأصوليات المتطرفة الغارقة في مستنقعات التقليدية الاتباعية بحق المصلحة العامة، وبحق المجتمع الصومالي . وأقرب مثال وخير شاهد للعيان، عمليات القبض على بعض الصوماليين من غير الملتحين، وقتلهم بدم بارد - ما انتظروا أن يجهز عليهم الجوع والمرض، فكانت رصاصتهم أسبق إلى هؤلاء المساكين من الموت جوعاً أو عطشاً- وقد تناقلت وسائل الإعلام الخبر وأردفته بتعليقات وعبارات يندى لها الجبين، ولا حول ولا قوة إلا بالله . ---------------- * نقلا عن دار الخليج الأحد ,12/02/2012 رابط دائم: