كرة القدم... لعبة معولمة
7-2-2012

باسكال بونيفاس
* مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية ـ باريس

ستنحصر البطولة الإنجليزية لكرة القدم خلال هذه السنة في فريقين ينتميان إلى المدينة نفسها، هما "مانشيستر سيتي" و"مانشيستر يونايتد"، اللذين سيتنافسان على الظفر بالدوري الإنجليزي بما يضمه عادة من أفضل الفرق العالمية وأغناها على الإطلاق. كما أن الفريقين المحليين لم تعد شهرتهما منحصرة داخل التراب الإنجليزي، بل أصبح المتابعون للدوري الإنجليزي والمتعطشون لمتابعة مبارياته منتشرين في جميع أنحاء العالم ضمن صفوف عشاق الرياضة، والأكثر من ذلك أن الفريقين تملكهما جهات خارج إنجلترا، إذ كما هو معروف تعود ملكية "مانشيستر سيتي" إلى سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، من دولة الإمارات فيما ترجع ملكية الفريق الآخر إلى مستثمرين من الولايات المتحدة، والأمر لا يقتصر على الفرق الإنجليزية التي صارت مفتوحة أمام الاستثمارات العالمية، بل امتدت إلى فرق أخرى أوروبية وعلى رأسها فريق باريسي اشتراه مؤخراً صندوق استثماري قطري. ومع أن لاعبي الفريق يرتدون قمصاناً تبرز برج "إيفل" باعتباره أحد المعالم الأساسية للعاصمة الفرنسية ورمزاً واضحاً لهوية الفريق الفرنسية، إلا أن إدارته الحالية تسعى جاهدة لاستقطاب اللاعب الأرجنتيني "باستور"، والاستعانة بخدمات المدرب الإيطالي، "أنشيلوتي"، على أمل إقناع النجم الإنجليزي الذي يلعب في الولايات المتحدة، "بيكام"، بالانضمام إلى الفريق وتعزيز صفوفه بخبراته الكبيرة ونجوميته اللامعة في عالم كرة القدم، والهدف بالطبع غزو الأسواق الآسيوية المعروف عنها هوسها باللاعب الإنجليزي وجذب الإعلانات الضخمة التي تقدر قيمتها بملايين الدولارات.

وفي ظل هذا التشعب والتداخل، الذي تعرفه دينامية كرة القدم في العالم وتنوع المتدخلين في صناعة اللعبة الأكثر شعبية يحق لنا التساؤل عما إذا كانت كرة القدم، قد تحولت إلى ملمح من ملامح العولمة في عالمنا المعاصر؟

والحقيقة أن المسار الذي قطعته كرة القدم منذ نشأتها الأولى في بريطانيا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك طابعها المتعولم، وانتقالها المتسارع من المحلية إلى العالمية، فقد استفادت كرة القدم، كما ذكر ذلك الكاتب والمؤرخ،"إيدواردو جالينو"، من التحولات الكونية خلال القرن التاسع عشر وصعود قوة الغرب العسكرية والتجارية وتصدير ثقافته بما فيها الثقافة الرياضية إلى خارج الحدود. وليس غريباً أن تزدهر كرة القدم في المدن الساحلية، التي كانت تصلها في البداية السفن البريطانية والأوروبية. وبعد فترة من انحصار اللعبة بين الأوروبيين في المستعمرات والمراكز التجارية والساحلية التي أنشأوها في أفريقيا وأميركا اللاتينية امتدت بعد ذلك إلى السكان المحليين، وزاد من انتشارها دخول السكك الحديدية التي ربطت المدن والقرى ومعها انتقلت كرة القدم لتغزو مناطق جديدة وتتوغل في أصقاع لم تكن لتصلها عبر الطرق البحرية.

هذا الغزو الكروي استمر مع التحولات التكنولوجية التي بدلت وجه العالم، لا سيما ظهور الراديو الذي قرب الكرة ونقل المباريات والبطولات المحلية إلى عدد أكبر من الجماهير، مساهماً بذلك في تكريس شعبية اللعبة لدى فئات عريضة من الناس.

لكن النقلة الأبرز كانت مع التلفزيون والنقل المباشر للمباريات صوتاً وصورة إلى جميع مناطق العالم لتكتمل بذلك إمبراطورية كرة القدم وليكتسح وجودها العالم بأسره.

وبعد أوروبا وأميركا اللاتينية، انتقلت لعبة الكرة القدم سريعاً إلى أفريقيا ثم إلى آسيا، وأصبحت الدول تتسابق فيما بينها لحجز مكانة لها في الخريطة العالمية لكرة القدم من خلال المشاركة في البطولات الإقليمية ذات الصيت العالمي، لا سيما بطولة كأس العالم التي ما زالت حتى الآن منحصرة في أوروبا وأميركا اللاتينية.

لكن الكرة لم تعد مجرد لعبة للتسلية وتجزية الوقت، بل أصبحت صناعة قائمة على الفرجة واستقطاب أموال الإعلانات، وهو ما حول الرياضة في أوروبا مثلاً إلى صناعة حقيقية واستثمارات هائلة تعتمد في مداخيلها على الإعلانات من جهة وبيع البث التلفزيوني من جهة ثانية. هذه الصناعة خولت للأندية الأوروبية الغنية استقطاب أفضل اللاعبين وضم الكفاءات إن في اللعب، أو التدريب، أو الإدارة. ففي الفرق الأوروبية يمكن متابعة النجوم من أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا إلى درجة يمكن الحديث معها عن "هجرة الأقدام" على غرار هجرة الأدمغة التي تفرغ البلدان النامية من خيرة أبنائها، لكن ذلك لن يستمر طويلاً في ظل التحولات العالمية المستجدة، وما يستتبع ذلك من تأثير لا مفر منه على رياضة كرة القدم.

ففي الوقت الذي يتراجع فيه الغرب استراتيجياً وتبرز فيه قوى عالمية جديدة على الصعيد الاقتصادي، لم تعد الأندية الأوروبية والأميركية هي وحدها من تستقطب اللاعبين، فإذا كانت الفرق الأفريقية ما زالت تعتمد على المحترفين في الأندية الأوروبية تبقى البطولة الأفريقية نفسها مثيرة للانتباه، وأصبحت أكثر حضوراً وتتبعاً في وسائل الإعلام الدولية، وهو ما يغري اللاعبين والفرق بإظهار أفضل ما لديها في تلك البطولة، كما أن التغير المهم الذي تشهده أميركا اللاتينية وبروز البرازيل والأرجنتين على الساحة الدولية كقوتين اقتصاديتين دفعت العديد من لاعبيها المحترفين في الخارج إلى التفكير في العودة للعب مع الفرق المحلية، لا سيما وأن هذه الأخيرة باتت أكثر غنى واحترافية، بل حتى في بعض البلدان غير المعروفة بكرة القدم صارت، بحكم واقعها الجديد، أكثر اهتماماً باللعبة، فالصين على سبيل المثال تسعى إلى تطوير اللعبة محلياً، ورغم المشاكل التي تواجهها فرقها بسبب ضعف الدوري المحلي وفضائح الفساد، فإن السلطات العليا في الصين عازمة على دخول ميدان كرة القدم من خلال استقطاب أفضل اللاعبين مثل الفرنسي "أنيلكا" والمدرب "تجانا"، إذ لا يعقل أن تكون الصين قوة عالمية وتظل غائبة عن ميادين الرياضة الأكثر شعبية في العالم، كما أن الهند التي لا تعتبر دولة رياضية وتقتصر اهتماماتها على لعبة الكريكيت قررت مؤخراً تأسيس دوري احترافي لكرة القدم سيبدأ في 25 فبراير الجاري لينتهي في 8 أبريل من العام المقبل، وهكذا أضحت جميع دول العالم واعية بدور كرة القدم في تعزيز إشعاعها عالمياً بعدما تحولت إلى لعبة معولمة تتابعها شعوب الأرض كافة.

----------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء 7/2/2012.


رابط دائم: