النموذج الآسيوي في المصالحة الوطنية 29-1-2012 د. عبد الله المدني * ـ باحث وأكاديمي بحريني متخصص في الشؤون الآسيوية. إذا كانت لأوروبا تجربتها الخاصة في المصالحة الوطنية ممثلة بالتوافق الذي حدث ما بين أطراف الحرب الأهلية الدموية في إيرلندا الشمالية، وإذا كان للأفارقة نموذجهم الخاص الذي أدهش العالم، ووصف بالمعجزة، ممثلًا في ما أنجز على يد المناضل الكبير "نيلسون مانديلا" وخصمه رئيس النظام العنصري "فريدريك دوكليرك"، الذي لا يمكن وصفه إلا بالرجل الحكيم كونه فهم ما لم يفهمه أسلافه من أن الهيمنة المطلقة للأقلية البيضاء غير ممكنة إلى الأبد، وأن من مصلحتهم قبول حكم الأغلبية السوداء، فإن تسارع الأحداث مؤخراً في بورما تشير إلى أن الآسيويين في طريقهم إلى صنع نموذجهم الخاص أيضاً. فما لاقاه مانديلا على يد جلاديه البيض من تعذيب نفسي وجسدي في معتقله على مدى 30 عاماً يشبه إلى حد بعيد ما لقيته زعيمة المعارضة البورمية المناضلة الجسورة "أونج سان سو تشي" في سنوات إذلالها وحبسها الإجباري الخمس عشرة. وما فعله "دوكليرك" يقترب مما يفعله اليوم حاكم رانجون العسكري الجنرال "تين شين". صحيح أن بورما لم تعرف نظام التمييز العنصري وثقافة العنف التي سادت جنوب أفريقيا، إلا أن شعبها قاسى مرارة التسلط والديكتاتورية والقمع والإذلال على يد العسكر الذين أطاحوا الحكم المدني الديمقراطي في 1962، قبل أن يؤسسوا مع مطلع التسعينيات لنمط جديد من الديكتاتورية العسكرية الفجة بقيادة زمرة من الجنرالات القساة. والإشارة هنا طبعاً إلى ما عـرف بـ"مجلس الدولة للسلم والتنمية"، وهي السلطة التي قمعت احتجاجات الطلبة في 1998 بوحشية وقتلت ثلاثة آلاف منهم، قبل أن تلغي نتائج انتخابات 1990 التي فازت بها العصبة الوطنية للديمقراطية بقيادة "سو تشي" بأغلبية 60 بالمئة، وتعتقل الأخيرة وتحكم عليها بالإقامة الإجبارية لمدة 21 عاماً. وهكذا فلئن جسد مانديلا حلم شعبه في بلد ديمقراطي يتمتع فيه الجميع بحقوق متساوية، فإن "سو تشي" مثلت أيقونة الديمقراطية والتحرر من فاشية العسكر. ويعتقد المراقبون أن بورما التي كانت إلى ما قبل ثلاث سنوات، حالة ميؤوسة منها، ونظاماً لا أمل في استجابته لتطلعات شعبه أو رضوخه للضغوط الإقليمية والدولية بالانفتاح والإصلاح، صارت اليوم تخطو خطوات جادة نحو الديمقراطية والمصالحة الوطنية بدليل ما أقدمت عليه في يناير الحالي من خطوات مشهودة. فالحكومة الحالية الموصوفة بـ "المدنية"، والتي يسيطر عليها عسكريون سابقون بقيادة الجنرال "تين شين" الأقل تشدداً وجموداً من سلفه الجنرال "تان شوي" الموصوف بأسوأ ديكتاتور في تاريخ آسيا، وربما العالم، أفرجت في أكتوبر الماضي عن 6300 معتقل (بينهم 200 معتقل سياسي)، وأفرجت مؤخراً عن 651 سجيناً من النشطاء السياسيين، كان من بينهم زعماء انتفاضة الطلبة في1998 ، ومؤيدون لثورة الكهنة البوذيين المعروفة بـ"ثورة الزعفران" في 2007، وبعض قادة حركات الأقليات المتمردة على السلطة المركزية منذ الاستقلال في 1948 (مثل أقليات شان، وكارين، وكاتشين، ومون)، ناهيك عن رئيس الوزراء الأسبق "خون نيونت" الذي كان أقيل واعتقل في 2004 في صراع داخلي على السلطة. وقالت الحكومة في تفسير خطوتها تلك بأنها دليل على رغبتها في المصالحة الوطنية، واشتراك كافة المعتقلين في العملية السياسية. لكن خطوتها الأكثر إثارة كانت في نوفمبر 2010 حينما أفرجت عن "سو تشي"، وأعادت صفة الشرعية لحزبها، وأعلنت عن السماح لها بالعودة إلى الساحة السياسية، قبل أن يستقبلها الجنرال "تين شين" في مكتبه ويعلن أمام وسائل الإعلام أن الطريق ممهد لها للمشاركة في انتخابات فرعية في أبريل من العام الجاري. ومن خطوات الحكومة اللافتة للنظر قبولها وقف إطلاق النار مع ميليشيات الاتحاد الوطني لشعب "كارين"، وتخفيفها للقيود على وسائل الإعلام الحديث، وسماحها ببيع وتداول صور زعيمة المعارضة وشعارات حزبها. ومن جانبها أعلنت "سو تشي" أنها تثق بالرئيس "تين شين" ولا تمانع من الانضمام إلى الحكومة في حالة فوزها، بل أصدرت بياناً رسمياً يجسد نموذجاً في كيفية تعاطي المعارضة الذكي مع مبادرات الدولة من أجل خلق واقع جديد يسوده الإخاء والسلام والأمن والتوافق بين مكونات الشعب. فهذه التي قاست من الحبس الانفرادي والإذلال والقمع والحرمان من أطفالها وأحبابها، بل فقدت زوجها وهي في الحبس الإجباري دون أن يــُسمح لها بالمشاركة في جنازته، لم يمنعها كل ما لحق بها من عذابات ومظالم من التجاوب مع جلاديها خدمة لشيء أكبر وأبقى هو الوطن. فبدلًا من أن تكابر، وتتصرف بعنجهية وغطرسة وروح ثأرية، وتلوّح بورقة الجماهير والمظلومية، أو تلجأ إلى الأساليب الاستفزازية العنيفة، كما يفعل بعض المعارضين العرب في بلدان ما يسمى بـ "الربيع العربي" (رغم أنهم لم يقاسوا ربع ما قاسته)، أعلنت في بيانها "إن ما يوجهني هو مصلحة أمتي فقط، وبالتالي فأنا مستعدة للتعاون والعمل مع الحكومة وجنرالاتها من أجل حوار بناء، يهدف إلى المصالحة الوطنية وترسيخ الديمقراطية وفق جدول زمني. وأضافت قائلة: "ولهذه الغاية فأنا ملتزمة بمواصلة السير في الحوار، وأدعوا جميع المواطنين والأطراف السياسية إلى التحلي بالصبر والإيمان بأن مستقبلنا يكمن في الدفاع عن الاستقرار والسلام والديمقراطية، وفي إنهاء الصراعات العرقية التي أودت بحياة عشرات الآلاف ودفعت بمئات الآلاف إلى الهجرة إلى تايلاند المجاورة أو طلب اللجوء في أستراليا وكندا وأوروبا والولايات المتحدة". الخطوات التي أقدم عليها نظام رانجون، والردود الإيجابية عليها من المعارضة فتحت الباب أمام انتقال بورما من حال إلى حال. ولعل أفضل دليل على ذلك أن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وفرنسا سارعت إلى الإشادة بهذه التطورات ودعمها والإعراب عن سعادتها بحدوثها، فيما قالت واشنطن إنها ستعيد تبادل السفراء مع رانجون كخطوة أولى قبل رفع العقوبات الاقتصادية عنها، وستشجع صندوق النقد الدولي على تقديم المساعدات لها تنفيذاً لما أعلنته وزيرة الخارجية الأميركية في زيارتها النادرة لبورما في ديسمبر الماضي حينما قالت: "إن بلادي سترد على كل خطوة تتخذها الحكومة البورمية بخطوة ممائلة". وكان هذا أيضاً موقف نظيرها الفرنسي الذي حل في رانجون في 15 يناير الحالي في زيارة هي الأولى لوزير خارجية فرنسي لهذا البلد. ----------------- * نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأحد 29 يناير 2012. رابط دائم: