الخميس 26 -1 - 2012
على الرغم من تعدد الأزمات الداخلية التي تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية من أزمة اقتصادية حادة وعجز مالي يعصف بالاقتصاد الأمريكي منذ منتصف عام 2008، وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير معهودة أمريكيا، وارتفاع الدين الأمريكي إلى معدلات غير مسبوقة، وأزمات داخل الكونجرس الأمريكي حول الميزانية الأمريكية للعام المالي الجديد، وخفض ميزانية الدفاع والضرائب وقضايا الهجرة، كانت قضايا السياسة الخارجية حاضرة بقوة في المناظرات بين مرشحي الحزب الجمهوري للفوز ببطاقة الحزب لمنافسة الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" الساعي للفوز بفترة رئاسية ثانية في السادس من نوفمبر من العام الجاري.
وتنقسم توجهات السياسة الخارجية للمتنافسين الجمهوريين على الفوز ببطاقة الحزب إلى تيارين. التيار الأول: ينتهج سياسة انعزالية على الصعيد الخارجي، ويدعو إلى الحد من التزامات الولايات المتحدة خارجيا. ويضم هذا التيار المرشحين الجمهوريين "رون بول" عضو الكونجرس، وحاكم ولاية يوتا السابق، والدبلوماسي "جون هانتسمان" قبل انسحابه من السابق الانتخابي وتدعيمه للمرشح "ميت رومني".
أما التيار الآخر، فيدعو إلى سياسة أمريكية خارجية أكثر انخراطا في الشئون الدولية. وينتقد أنصار هذا التيار سياسات "باراك أوباما" الخارجية. ويضم كلا من "ميت رومني" الحاكم السابق لولاية ماساتشوسيتس، و"نيوت جينجريتش" الرئيس السابق لمجلس النواب، و"ريك سانتورم" سيناتور ولاية بنسلفانيا السابق، وإن اختلف توجهات سياساتهم الخارجية في بعض التفاصيل، إلا أنها في مجملها تدعو لدور أمريكي أكثر فاعلية على المسرح الدولي.
في السطور التالية، سنركز على توجهات السياسة الخارجية للمرشح الجمهوري "ميت رومني"، كأول التقارير التي تتناول السياسة الخارجية للمتنافسين الجمهوريين على بطاقة الحزب الجمهوري، في ظل التنافس المحتدم بينهم، بعد فوز "ريك سانتورم" بأصوات الحزب في ولاية في ولاية أيوا، بينما فاز "ميت رومني" بأصوات ولاية نيوهامبشاير، و"نيوت جينجريتش" بأصوات ولاية كارولينا الجنوبية.
عودة الحديث عن القرن الأمريكي
أعلن المرشح الجمهوري "ميت رومني" عن سياساته الخارجية في أكثر من محفل ومناظرة، وأصدرت حملته الانتخابية ورقة تحت عنوان "القرن الأمريكي: استراتيجية لتأمين مصالح أمريكا الدائمة والمثل العليا" توضح مقارباته لقضايا السياسة الخارجية والأمن القومي الأمريكي، وهي ورقة منشورة على الموقع الالكتروني لحملته الانتخابية. وتستعيد الورقة الحديث عن مفهوم "القرن الأمريكي"، والذي كان محور تنظير أقطاب التيار "المحافظ الجديد" ومشروعه البحثي المعنون بـ "مشروع القرن الأمريكي الجديد".
ففي تلك الورقة وفي خطابه بالكلية العسكرية بولاية كارولينا الجنوبية في السابع من أكتوبر الماضي، تحدث "رومني" عن أن "أوباما" قد ضحى بالقوة الأمريكية وقيادتها ودورها العالمي، وأنه لم يستغلها على أكمل وجه في قيادة النظام الدولي، وهو حديث يشابه الانتقادات التي وجهها المحافظون الجدد لسياسات الرئيس الديمقراطي "بيل كلينتون" أثناء الترويج لـ"جورج دبليو بوش" كمرشح للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية عام 2000.
وينتقد "رومني" سياسات الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" ورؤيته للعالم كما هو، وليس كما يريد منظرو "الاستثنائية الأمريكية"، قائلا إن إدارة أوباما وضعت الولايات المتحدة في موقع "الضعف الاستثنائي". ولذا، تعهد بالعمل على عودة قوة وتميز الولايات المتحدة من خلال زيادة الإنفاق العسكري وسياسات أكثر صرامة على المسرح الدولي، وأن يكون القرن الحادي والعشرون هو القرن الأمريكي، والذي يتطلب أن تكون الولايات المتحدة القوة العظمى اقتصاديا وعسكريا والأولى عالميا، وأن تقود واشنطن العالم الحر الذي بدوره يقود باقي دول العالم.
وفي هذا السياق، دعا "رومني" إلى زيادة الإنفاق العسكري الأمريكي بقيمة 30 مليون دولار، وإلى زيادة القوة الأمريكية بـ 100 ألف جندي، وزيادة قوة البحرية الأمريكية بزيادة بناء السفن الأمريكية الحربية لترتفع من تسع إلى خمس عشرة سفينة سنويا، وزيادة الإنفاق على نظام الدفاع الصاروخي؛ لتكون الولايات المتحدة القوة العسكرية الأولى عالميا. ودعا لضرورة استخدام القوة العسكرية الصلدة وتلك الناعمة لمواجهات التحديات العالمية قبل اندلاعها.
سياسة أكثر صرامة تجاه إيران
تأتي سياسة "ميت رومني" تجاه إيران متفقة مع السياسات التي أعلن عنها منافساه من حزبه على بطاقة الحزب الجمهوري. فالمرشحون الجمهوريون يصفون أوباما بأنه "رئيس ضعيف" حيال إيران؛ لذا طالبوه بتغيير النظام، واقترحوا شن هجمات عسكرية على برنامج إيران النووي. ويأتي هذا الهجوم في الوقت الذي يقول فيه مساعدو أوباما وعدد من المحللين المستقلين إن الضغط الذي فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها على إيران بدأ يؤتي ثماره، حيث إن العقوبات الجديدة أثرت بشكل كبير فى الاقتصاد الإيراني.
ولكن كانت تصريحات "رومني" أشد صرامة عند الحديث عن الأزمة النووية الإيرانية، فقال في نوفمبر الماضي إذا "أعدنا انتخاب باراك أوباما، فستحصل إيران على سلاح نووي. وإذا انتخبنا ميت رومني.. فلن تحصل إيران على سلاح نووي". وانتقد سياسات "أوباما" وبطأها في دعم الاحتجاجات الديمقراطية الإيرانية التي جرت عام 2009.
وصرح بأنه سيبدأ فتره الرئاسية بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية الصارمة على النظام الإيراني بمساعدة المجتمع الدولي، إذا استطاعت الولايات المتحدة أو بمفردها إذا لزم الأمر. ويضيف في هذا الصدد أنه سيدعم الدبلوماسية الأمريكية بخيار عسكري حقيقي له مصداقية، من خلال الحفاظ على وجود بحري منتظم في البحر المتوسط والخليج العربي، وزيادة المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل. ويرى أن تلك التصرفات ستبعث بإشارة لا لبس فيها لإيران، مفادها أن الولايات المتحدة، وبالتنسيق مع حلفائها، لن تسمح مطلقا لإيران بامتلاك أسلحة نووية.
رفض سياسة الانفتاح على الأعداء
يتبني "رومني" سياسة خارجية متشددة حيال باقي ملفات السياسة الخارجية، حيث إن البعض يشبه فترته الرئاسية- في حال نجاحه في الانتخابات ووصوله إلى المكتب البيضاوي أوائل العام القادم- بأنها ستكون بمثابة الفترة الثالثة لـ"جورج دبليو بوش" لتشددها مع منافسي الولايات المتحدة، وتأييدها اللامتناهي لإسرائيل ولسياساتها في المنطقة؛ حيث أعلن "رومني" أن تل أبيب ستكون أولي العواصم التي سيزورها، في حال نجاحه في انتخابات السادس من نوفمبر. وهذا ليس بغريب على مرشحي الانتخابات الأمريكية من الحزبين الديمقراطي والجمهوري لمغازلتهم أصوات اليهود الأمريكيين كقوة تصويتية في الانتخابات، ناهيك عن الدعم المالي والإعلامي الذي تقدمه إلى المرشح الذي تدعمه.
وعلى خلاف سياسات أوباما المنفتحة على الصين وروسيا، يعلن "رومني" عن سياسة خارجية أكثر تشددا تجاه الدولتين. فعن الصين، كتب مقالة في صحيفة واشنطن بوست في الرابع عشر من أكتوبر الماضي، يرفض فيها سياسة "أوباما" تجاه الصين، ويدعو لتبني سياسة أكثر تشددا تجاه بكين لسياساتها التجارية، وسياسات التلاعب في العملة. ويرفض سياسة "أوباما" للانفتاح على روسيا، حيث يرى أن "بوتين" يسعي لإعادة بناء الإمبراطورية الروسية. ويرى أن توقيع الولايات المتحدة مع روسيا معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية (ستارت 2) أكبر خطأ في استراتيجية أوباما الخارجية.
ويرفض "رومني" أيضا إعلان "أوباما" عن موعد لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، واعتزامه للتحاور مع حركة "طالبان". فقال في مناظرة قبل بداية الانتخابات التمهيدية في ولاية كارولينا الجنوبية إن حركة "طالبان" تقتل الجنود الأمريكيين، في حين يعلن الرئيس "أوباما" موعد سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، استنادا إلى جدول أعمال سياسي، وليس على ما يُوصي به القادة المدنيون. وكذا، انتقد سحب القوات الأمريكية من العراق، وتركها ساحة للنفوذ الإيراني.
ملاحظات ختامية
وفي التحليل الأخير، هناك ست ملاحظات ختامية تجدر الإشارة إليها، تتمثل في:
أولا: إن تصريحات المرشح الجمهوري "ميت رومني" الأكثر حظا بالفوز بترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية ضد الرئيس الحالي "باراك أوباما" لا تختلف عن الخط العام للسياسة الخارجية للحزب الجمهوري، والانتقادات التي يوجهها الحزب لنظيره الديمقراطي بقصوره في التعامل مع قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي الأمريكي.
ثانيا: إن التشدد في توجهات السياسة الخارجية للمرشح الجمهوري "ميت رومني" وكذا رؤيته لقضايا الأمن القومي وتحقيق المصلحة القومية الأمريكية وتبنيها للخط العام لسياسات إدارة "جورج دبليو بوش" خلال سنواتها الثماني في البيت الأبيض، يرجع لضم فريقه لقضايا السياسة الخارجية والأمن القومي شخصيات عملت في إدارة "بوش" الابن ذات توجهات محافظة لعبت دورا في الحرب على العراق، من أمثال "مايكل هايدن"، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ووزير الأمن الداخلي السابق "مايكل شيرتوف"، والباحث السياسي وأحد أقطاب المحافظين الجدد "روبرت كاجان".
ثالثا: إن أغلب التصريحات التي يدلي بها مرشحو الحزبين للانتخابات في وسائل الإعلام والمناظرات تكون من أجل الاستهلاك المحلي، ولجذب أكبر نسبة من المؤيدين والأصوات في الانتخابات. ولكن هذا لا يعني عدم أهميتها لكونها كاشفة عن التوجهات العامة للإدارة التي ستصنع قرارات وخطط السياسة الخارجية الأمريكية لأربع سنوات قادمة، لكون الاختلافات بين المصرح به وما ينفذ على أرض الواقع قليلة، نتيجة للتطورات والتغيرات في موازين القوي داخل الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع التي تحكم فيها الإدارة الأمريكية، سواء كانت ديمقراطية، أو جمهورية.
رابعا: من السهل على الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" تفنيد تصريحات واستراتيجية ومقاربات "ميت رومني" للسياسة الخارجية وقضايا الأمن القومي، في حال تسميته كمرشح للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقرر لها في السادس من نوفمبر، لنجاح "أوباما" في إنجاز ما سماه في حواره مع "فريد زكريا" لبرنامجه على قناة "سي إن إن" الإخبارية "نقلة محورية" من سياسات جورج بوش، بما في ذلك إنهاء حرب العراق، وتشديد الضغط على تنظيم القاعدة، واغتيال زعيم التنظيم "أسامة بن لادن" في مايو الماضي، وإعادة بناء التحالفات الدولية، وتحديد أهداف السياسة الخارجية الأمريكية بوضوح أكبر، وسهولة الفوز على "رومني" بوصفه أنه امتداد لفترة حكم بوش الابن الثماني، وأنه رئيس الحرب، مما ينفر الأمريكيين من التصويت له، كما كان الحال مع منافسه الجمهوري "جون ماكين".
خامسا: على الرغم من استغلال المرشحين الجمهوريين قضايا السياسة الخارجية كوسيلة لمهاجمة الرئيس أوباما، فإنها لن تكون المحدد الرئيسي لمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية، لكون القضايا الاقتصادية هي القضية التي تشغل تفكير الناخب الأمريكي، وهو ما تظهره نتائج استطلاعات الرأي بتقدم القضايا الاقتصادية، وعلى رأسها قضية البطالة، والتوظيف، والعجز المالي، والرعاية الصحية، والإنفاق الحكومي، لتأتي في مراحل متأخرة قضايا السياسة الخارجية.
سادسا: إن فاعلية وتأثير قضايا السياسة الخارجية الأمريكية في توجهات الناخبين الأمريكيين مرتبطة بتطورات كبرى تدفع أن تكون السياسة الخارجية هي المحدد لمن سيصوت الناخب الأمريكي. فكما أظهرت أزمة الرهائن في إيران عام 1980، وكما أكدت تبعات حرب العراق عام 2003، فإن السياسة الخارجية يمكن أن تؤثر فى رأي الناخبين.