فشل اليورو...آثار عكسية للوحدة الأوروبية 16-1-2012 مارتن فيلدشتاين * أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد يجب علينا الاعتراف الآن بأن تجربة استخدام "اليورو" كعملة موحدة قد فشلت. وهذا ما حدث بعد تدشين "اليورو" باثني عشر عاماً تقريباً (بدأ استخدامه عام 1999)، لم يكن من قبيل الصدفة، كما لم يكن نتيجة سوء تدبير بيروقراطي، وإنما كان نتيجة محتمة لفرض عملة واحدة على مجموعة غير متجانسة من الدول. والتداعيات العكسية التي ترتبت على استخدام "اليورو" تمثلت في أزمات الديون السيادية التي حدثت في عدة دول أوروبية، والحالة الهشة التي باتت عليها البنوك الأوروبية الكبرى، ومعدلات البطالة المرتفعة عبر دول منطقة "اليورو"، والعجوزات التجارية التي تعاني منها معظم دول تلك المنطقة في الوقت الراهن. كان الدافع الأساسي الذي قاد للاتحاد المالي الأوروبي سياسياً وليس اقتصادياً كما قد يعتقد كثيرون. مع ذلك يجب علينا الاعتراف بأن الهدف السياسي الخاص بخلق أوروبا متجانسة قد فشل، حيث نرى في إطار الأزمة الحالية التي تضرب منطقة "اليورو"، أن دولتين على وجه التجديد هما ألمانيا وفرنسا تقومان بفرض إجراءات تقشفية قاسية على إيطاليا واليونان مقابل الاستمرار في تقديم يد العون والمساعدة لهاتين الدولتين للخروج من براثن أزمة الديون الطاحنة التي هددت اقتصاديهما بالإفلاس. لم يكن هذا المظهر الوحيد لعدم التجانس، بل إننا نجد أن برلين وباريس اللتين اتحدتا ضد روما وأثينا، اختلفتا مع بعضهما اختلافاً شديداً حول دور البنك المركزي الأوروبي، وحول الكيفية التي سيتقاسمان بها العبء الاقتصادي الذي سيتحملانه نظير مساعدة الدولتين المذكورتين على الخروج من الأزمة. وينبغي الإشارة هنا إلى أنه قبل تدشين "اليورو" كعملة موحدة بوقت طويل، حذر الكثير من الاقتصاديين من الآثار العكسية التي ستصيب اقتصادات الدول الأوروبية نتيجة لذلك. السبب الرئيسي في هذا التنبؤ المبكر بالفشل هو أن تطبيق عملة موحدة يتطلب أن تتبع جميع الدول التي تتبنى هذه العملة، سياسة مالية موحدة وتعتمد سعر فائدة موحدة على الإقراض، على أن يسمح بقدر من الاختلاف بين تلك المعدلات وفقاً لدرجة المخاطرة المرتبطة بكل قرض أو مجموعة قروض على حدة. كل هذه العوامل كانت تعني أن تبني "اليورو" سيؤدي لتباينات أوسع نطاقاً في الناتج المحلي الإجمالي للدول المختلفة، ولتباينات في مستوى تشغيل العمالة، ولعدم توازن تجاري مستمر بين أوروبا وباقي دول العالم. وفي واقع الأمر أن جميع تلك الآثار السلبية، قد حدثت بالفعل خلال السنوات الأخيرة على النحو الذي عرفناه جميعاً. فبحلول ربيع العام المنصرم، كانت نسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي في عدد من الدول الأوروبية، مرتفعة لدرجة جعلت من إعلان عدم القدرة على سداد الديون في ميعاد استحقاقها، أوبعبارة أخرى إعلان الإفلاس، احتمالًا وارداً بقوة. ومما فاقم من حدة الأزمة أن تلك الدول وجدت أن إجراء تخفيض كبير في حجم ديونها السيادية ليس حلاً واقعياً، لأن ذلك لو حدث فسيلحق ضرراً جسيماً ليس فقط بالبنوك الأوروبية، وإنما بالبنوك والمؤسسات المالية الاقتصادية في الولايات المتحدة أيضاً مع ما يترتب على ذلك من تأثيرات فادحة على الاقتصاد العالمي برمته. وقد اقترح القادة الأوروبيون ثلاث استراتيجيات منفصلة للتعامل مع هذا الوضع الخطير يمكن إجمالها كما يلي: الاستراتيجية الأولى، من اقتراح ميركل وساركوزي، ووافق بموجبها المسؤولون في منطقة "اليورو" على زيادة نسب رؤوس أموال البنوك التجارية، وحجم مؤسسة الاستقرار المالي الأوروبي، التي يرمز إليها بالحروف (EFSF)، وهي شبكة الأمان المالي التي أنشأتها أوروبا العام الماضي لمواجهة الأزمة الطاحنة، التي تعاني منها، والتي تم زيادة رأس مالها من 400 مليار يورو إلى ما يزيد عن تريليون يورو. ولكن الخطة الرامية لزيادة رأسمال البنوك لم تنجح، حيث لا ترغب البنوك في تخفيض حيازات حاملي الأسهم الحاليين، عن طريق السعي للحصول على رأس مال عام أو خاص، وقامت بدلاً من ذلك برفع نسب رأس المال من خلال تقليص إقراضها، وخصوصاً للمقترضين من الدول الأخرى، وهو ما أدى إلى مزيد من التباطؤ في الأنشطة الاقتصادية الأوروبية، وفاقم من حجم الأزمة بدلاً من المساهمة في حلها. أما الاستراتيجية الثانية التي تدعو إليها فرنسا على وجه الخصوص، فتحث البنك المركزي الأوروبي على شراء سندات إيطاليا وإسبانيا وغيرهما من الدول التي تعاني من ديون مرتفعة لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة. ويُشار إلى أن البنك المركزي كان يقوم بذلك بالفعل، ولكن ليس إلى الحد الذي يحول بين وصول أسعار فوائد القروض المقدمة للدولتين إلى مستويات غير قابلة للاستدامة. والضغط على البنك المركزي الأوروبي، كي يقوم بشراء المزيد من تلك السندات ينطوي على إخلال بشروط "عدم استخدام حزم إنقاذ" المتضمنة في معاهدة ماستريخت (الاتفاقية المؤسسة للاتحاد الأوروبي). الاستراتيجية الثالثة، التي تفضلها شخصيات سياسية مثل المستشارة الألمانية تهدف لاستغلال الأزمة الحالية في تطوير وتعزيز الاتحاد السياسي. وتدعو تلك الشخصيات الدول التي تحقق ميزانيتها فائضاً لأن تحول أموالًا سنوياً للدول، التي تعاني من عجز في ميزانياتها وفي ميزانها التجاري. مقابل تلك التحويلات يكون للمفوضية الأوروبية سلطة مراجعة ميزانيات الدول الأعضاء، وإلزام الدول التي تعاني من العجز باتباع سياسات أكثر انضباطاً تؤدي في المحصلة النهائية لتخفيض العجوزات المالية، وتعزز نموها وقدرتها التنافسية في الأسواق العالمية. وفي الحقيقة أن مثل تلك التحويلات قد تمت بالفعل في حالتي اليونان وإيطاليا. ففي حالة اليونان التي كانت الأكثر دراماتيكية من بين الحالتين، حيث أصبحت بحلول أكتوبر الماضي غير قادرة على الاقتراض من أسواق رأس المال العالمية، ولم يكن أمامها من طريق سوى الاعتماد على الائتمان المقدم لها من قبل البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، حتى تتمكن من دفع أجور الموظفين الحكوميين والمحافظة على برامج الرفاه الاجتماعي، الذي كان يمكن للتخلي عنها في ظروف الأزمة الاقتصادية الحالية أن يؤدي لنتائج وخيمة. وقد تم تطبيق الشروط المتعلقة بالتحويل للدول، التي تعاني من العجز والمبينة في الفقرة السابقة بحذافيرها تقريباً، حيث استدعت كل من ميركل وساركوزي رئيس الوزراء اليوناني "جورج بابانداريو" لبروكسل وأخبراه بضرورة التخلي عن الخطة، التي كان قد أعلن عنها في وقت سابق بخصوص الدعوة لإجراء استفتاء عام على إجراءات التقشف التي فرضت على اليونان من قبل الأعضاء الآخرين في منطقة "اليورو"، وأن يقوم بدلًا من ذلك بإخبار البرلمان اليوناني بضرورة الموافقة على الاستراتيجية القاسية، التي اقترحاها لتخفيض العجز في الميزانية، التي تعاني منها بلاده، وإلا باتت عرضه للطرد من منطقة "اليورو". وعلى الرغم من أن "بابانداريو" قد فعل ذلك إلا أن الاضطرابات الشعبية التي حدثت بعد ذلك في اليونان، تبين إلى أي حد ترفض الشعوب أن يتم فرض استراتيجيات عليها، وأن تتلقى أوامر من قبل دول خارجية كي تغير سلوكها. وهو ما تبين أيضاً في حالة إيطاليا حيث ضغطت عليها ألمانيا وفرنسا أيضاً لتبني سياسات جديدة خاصة بالموازنة، وهو ما أدى لاستقالة بيرلسكوني، وتعيين حكومة تكنوقراط لمعالجة مشكلات إيطاليا المالية. نستنتج من كل ما تقدم أن "اليورو" كان سبباً في توترات وصراعات داخل أوروبا، ما كانت لتحدث لو لم يكن قد تم اعتماده كعملة موحدة. وهو ما يقودنا للقول إن السعي لإقامة اتحاد مالي دائم، لن يؤدي سوى لمفاقمة تلك التوترات والصراعات بدرجة كبيرة. ----------------- * نقلا عن الاتحاد الإماراتية الإثنين 16/1/2012. رابط دائم: