أدوار جديدة لدولتي الجوار 12-1-2012 جميل مطر * جربت بريطانيا وفرنسا في نهاية الحرب العالمية الأولى، تقسيم العالم العربي بينهما، كحق لهما باعتبارهما من ورثة الإمبراطورية العثمانية وأفلحتا . ظهرت دول لم تكن موجودة إلا ككيانات جغرافية أو إدارية، خضع بعضها لاستعمار أوروبي استمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية حين نشأت جامعة الدول العربية . عندئذ استقرت شرعية هذه الكيانات السياسية الجديدة دولاً مستقلة أو شبه مستقلة وأعضاء في منظمة إقليمية واعترفت بها الأمم المتحدة . هكذا يمكننا القول إن تقسيم العرب الذي جرى في أعقاب أو بسبب عمليات عسكرية وصراعات إمبراطورية عنيفة، كان الخطوة الأولى على الطريق لقيام نظام إقليمي عربي، وكان من شروط قيامه القضاء على ما تبقى من هيمنة عثمانية وقبول تركيا الالتزام بأن تصبح دولة تابعة للغرب سياسة واقتصادياً ومنظومة قيم، وفي الوقت نفسه قبولها أن لا تلعب دور دولة الجوار للإقليم العربي الناشئ إلا وفق ما تكلف به من مهام، وهو ما حدث مرات قليلة وبخاصة خلال مرحلة إقامة الأحلاف العسكرية كالحلف المركزي وحلف بغداد، وتدخلها بالتهديد بالزحف العسكري في عام 1957 لوقف تمدد نفوذ مصر محمولاً على الموجة الأولى من موجات المد القومي العربي . أما إيران، كدولة جوار ثانية، فقد سبقت تركيا في الخضوع لنفوذ الغرب وبخاصة بريطانيا ثم الولايات المتحدة ولعبت مع باكستان لفترة غير قصيرة دور الأجنحة الشرقية في نظام الأحلاف العسكرية الغربية التي نشأت نظرياً بحجة الإحاطة من الجنوب بالاتحاد السوفييتي، وفي الواقع كان هدفها الإحاطة بالنظام العربي، وبخاصة في مراحل المد القومي . من ناحية أخرى جرى تكليف إيران بالتدخل في تفاعلات النظام العربي، أي في شبكة علاقات أقطاره بعضها بعضاً، للمساعدة في إقامة هلال إسلامي يضم إلى جانب إيران دول الخليج ويمتد غرباً لضم تونس والمغرب مروراً بالأردن . مرة أخرى، وبعد إخفاق تجربة الأحلاف، احتاج الغرب إلى تركيا وإيران معاً، ليتكاملا في أداء دور إقليمي محدد يخدم أهداف الغرب ويحمي مصالحه . لم يحدث، حسب ما نذكر وما صدر من دراسات، أن استخدم الغرب المتدخل دائماً، وإيران وتركيا المتدخلتان حسب الطلب، أي بين الحين والآخر، أن استعمل الغرب توصيفاً أو تقسيماً مذهبياً للأدوار التي كانت تكلف بها كل من تركيا وإيران . كان المفهوم في معظم الحالات أن الدولتين ملتزمتان دعم التيار المحافظ في العالم العربي في مواجهة التيارات التقدمية والقومية المناهضة للنفوذ الغربي . ولم يحدث في أي مرة، حسب ما نذكر، أن سمح الغرب لإيران أو تركيا بممارسة نفوذ تفضيلي في مناطق عربية مجاورة لأي منهما، فلم يكن لإيران دور إضافي في الخليج والعراق باعتبارها دولة جارة، ولم يكن لتركيا ميزة إضافية لقربها من بلاد الشام أو الرافدين . ولم يحدث أن كلف الغرب إيران بمهام في الخليج أو العراق استناداً إلى أنها شيعية المذهب ولم يكلف تركيا بمهام في العراق وبلاد المشرق عموماً استناداً إلى أنها سنية المذهب . بمعنى آخر هيمن الغرب على علاقات الجوار في الشرق الأوسط حتى أمكن اعتبار الجوار وعلاقاته بالعرب جزءاً من سياسات الغرب ونفوذه ولم يكن عنصراً مستقلاً، أو مدفوعاً بأغراض مذهبية أو بيئية أو ثقافية، أو حتى تاريخية رغم ثقل التاريخ في بنية الإقليم الثقافية الحضارية . لا يفوتنا أن نذكر أنه في النصف الأول من حياة النظام العربي، أي حتى عقد الثمانينات من القرن الماضي لم يكن للدين نفوذ كبير في دوائر صنع السياستين التركية والإيرانية . نشهد هذه الأيام محاولات تقوم بها الدولتان الجارتان، إيران وتركيا، لإجراء تقسيم جديد للعالم العربي . لقد استخدم أحد الكتاب في إحدى الصحف الأجنبية، وأظن أنها كانت صحيفة “وول ستريت”، تعبيراً في وصف هذه التجربة استوقفني . يقول إن الثابت بالنسبة إليه هو أن إيران وتركيا تجريان حالياً محاولات لرسم خريطة جديدة للعالم العربي، بناء على تصورات غير متفق عليها بالضرورة بين البلدين . تسعيان بالسباق والمنافسة واستغلال التطورات الداخلية في دول المنطقة وفي مقدمة هذه التطورات الربيع العربي . أتصور شخصياً أنه يوجد في مؤسسات الدولتين مسؤولون يتصورون عالماً عربياً جديداً أو وضعاً إقليمياً مختلفاً في المستقبل القريب، لن يحتاج إلى تحقيقه استخدام درجة عالية من العنف كما حدث عند رسم التقسيم الأول للإقليم خلال الحرب العالمية الأولى، أو عندما خرج إلى الوجود النظام العربي في خضم عنف شديد وحرب عالمية ثانية . أتصور أن المسؤولين المهتمين بمستقبل الشرق الأوسط في كل من طهران وأنقرة حريصون على أن تنتهي عملية رسم الخريطة الجديدة وتنفيذها على أرض الواقع بأقل درجة من العنف الإقليمي وإن أمكن من دون أي درجة من العنف بين اللاعبين الأساسيين وهما إيران وتركيا، حتى تستحق الخريطة الجديدة صفة التقسيم الناعم . بات واضحاً، للخارج وللدولتين الجارتين وربما لبعض أهل النظام العربي، أن عواصم غربية تدرس، وبحرص شديد، وضع حدود لنفوذ كل من إيران وتركيا في الإقليم العربي، بحيث لا يتداخلان، والأهم ألا يتشابكا . يقول محمد أيوب الأستاذ في جامعة ميتشيغان بالولايات المتحدة إنه يكاد يرى المستقبل المنحاز لإيران وتركيا خارجاً من تحت رماد ثورات الربيع العربي . كثير من المعلقين يعتقدون أن العالم العربي الرسمي يمر في أضعف حالاته، على عكس العالم العربي غير الرسمي بشبابه وفئاته ونقاباته ونسائه، الذي يكتسب قوة كل يوم . التهديد يتصاعد في وجوه كل أنظمة الحكم العربية التي رفضت أو ترفض استلام إنذارات شعوبها المتتالية، وهناك حكومات عربية لم تستقر أحوالها أو مهدد استقرارها، وأغلبها، في هذه الحالة، غير قادر على أن يتخذ سياسات خارجية ودفاعية جريئة وقوية . يحدث هذا، في وقت يعاني فيه النظام العربي عواقب سقوط هيكل التوجيه والقيادة فيه، وغياب عنصر الهيبة المتبادلة بين دول النظام . نقرأ هذه الأيام لصحافيين ومحللين يكتبون عن مناطق الاعتدال الاسلامي في النظام العربي، ويقررون أنها تقع في شمال إفريقيا، وأنها قد تجد في تركيا راعياً مناسباً وفي إمارة قطر ممولاً كريماً، بينما نقرأ لآخرين تصورات تعبر عن أن ما يحدث في العراق الآن لا يخرج عن كونه انقلاباً دبره نوري المالكي ليزداد بفضله التصاقاً بالنفوذ الإيراني، في مواجهة احتمالات ما بعد سقوط النظام في سوريا . أعرف كثيرين في المشرق يشككون في مقولة اعتدال الإخوان المسلمين الصاعد في سوريا ويرفضون تشبيههم بأقرانهم في مصر وتونس . أغلب الظن في كل الأحوال أن يكون الأتراك قد درسوا وبعمق كاف طبيعة الجماعة الإسلامية السورية ووضعوا السياسات التي تضمن لهم حقهم في التدخل، الناعم إن أمكن، إذا تولت الحكم في دمشق وعمان تيارات إسلامية متطرفة . يراهن بعض المعلقين في الغرب على أن هلالاً سنياً معتدلاً في العالم العربي يتشكل ممتداً من شمال إفريقيا ماراً بمصر وعابراً سيناء إلى غزة وربما الضفة الغربية والأردن في مرحلة لاحقة ومنتهياً بسوريا . يراهنون أيضاً على أن استقرار هذه التيارات في الحكم وحماية هذا الهلال وضمان اعتداله سوف يقع أساساً على عاتق تركيا، سواء في وجود حكومة أردوغان أو بعدها . بعتقدون أن قادة الهلال العربي لن يترددوا في طلب الدعم التركي، ولن تجد الولايات المتحدة أفضل من تركيا قائداً لهذه التيارات على الأقل في مرحلة النشأة . وأظن أن إيران لن تشعر بالقلق إن وجدت تركيا مرتاحة إلى هذا الاحتمال، لا لشيء إلا لأنها تعتقد أن انشغال تركيا بهذا الهلال وبتهدئة الأمور في كردستان كفيلان بإبعادها عن منطقة الخليج والعراق، خاصة أن كل ما تسعى إليه تركيا الآن في العراق هو مد أنبوب نفط كردستاني إلى شواطئ البحر المتوسط مروراً بأراضيها، وتوفيق العلاقة مع حكومة أربيل وزيادة اعتمادها على أنقرة . نقف الآن على طريق تحولات كبرى في النظام العربي، في وقت تكاد السياسات الخارجية والعلاقات البينية للدول العربية تكون في حالة شلل، نأمل بأن يكون مؤقتاً وقابلاً للعلاج الناعم وليس بعمليات جراحية جديدة . --------------------- * نقلا عن دار الخليج، الخميس 12 يناير 2012. رابط دائم: