شهد العام الماضى تصاعدا وتعقدا لحالة التنافس الدولى العابر للأقاليم بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة وبين الصين وروسيا من جهة أخرى؛ حيث يترقب المتابعون حول العالم التغيرات المتسارعة فى مجريات الأحداث وتوقعاتها خلال عام 2024؛ فى ضوء هذا التفاقم المستمر للأزمات والتحديات الاقتصادية والسياسية على مدى العام الماضى.
نشر موقع "ستراتفور" الاستخبارى الأمريكى فى 18 ديسمبر 2023، تقريرا حمل عنوان "التوقعات السنوية لعام 2024: نظرة عامة عالمية"، وهو التقرير السنوى له الذى يتضمن توقعات التداعيات الرئيسية للاتجاهات الجيوسياسية الديناميكية والمؤثرة حول العالم خلال عام 2024؛ وأهم التحولات والقضايا الرئيسية المتوقعة التى يمكن استعراض أبرزها فى الآتى:
الانتخابات الرئاسية الأمريكية:
يرصد التقرير[1] أنه على الرغم من أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية لن تجرى قبل نوفمبر 2024، وأن الرئيس الجديد سيبدأ ولايته فى يناير 2025، فإن هناك استعدادا عالميا مبكرا لنتائج هذه الانتخابات المتنافسة بين الرئيس الحالى "جو بايدن" من الحزب الديمقراطى، والرئيس السابق دونالد ترامب من الحزب الجمهورى؛ حيث من المتوقع نتائج متقاربة.
ويتوقع أنه خلال العام الجديد، سوف تسعى إدارة "بايدن" إلى تعزيز دعم الناخبين من خلال عدد من السياسات مثل زيادة تأمين الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، وتوسيع بناء الجدار على طول الحدود مع المكسيك، ودعم الاستثمار فى النفط والغاز. فيما يستعد المجتمع العالمى لتبعات احتمال فوز "ترامب"، الذى يثير مخاوف بشأن عودة الحروب التجارية على الصعيد الدولى، ويعظم الشكوك حول علاقة واشنطن بحلف "الناتو"، وقد يؤدى ذلك إلى اضطرابات فى العلاقات عبر الأطلسى.
كما سيواجه البيت الأبيض صعوبة فى دفع التمويل لأوكرانيا من خلال الكونجرس، ما سيدفع إدارة "بايدن" إلى البحث عن طرق أخرى لدعم كييف. أما فى حال فوز ترامب، فقد يؤدى ذلك إلى تغييرات فى السياسة الخارجية الأمريكية بما فى ذلك تقليص الدعم لأوكرانيا ضد روسيا واحتمالية الانسحاب من اتفاقية باريس.
إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة:
توقع التقرير أن تستمر إسرائيل فى العمليات العسكرية ضد حركة "حماس"، وأن تعمل على إعادة احتلال قطاع غزة، مع السعى للبحث عن شريك مدنى قادر على حكم قطاع غزة. كما يتوقع أن تُطالب السلطة الفلسطينية باستئناف مفاوضات حل الدولتين، ولكن من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تمتلك التفويض اللازم لتنفيذ ذلك. فبدلا من ذلك، من المرجح أن تستمر إسرائيل فى احتلال قطاع غزة بشكل عسكرى، ما قد يؤدى إلى توقف معظم الهجمات الصاروخية الفلسطينية ضد إسرائيل.
مع ذلك، فإن عمليات إسرائيل فى غزة لن تحظى بشعبية دبلوماسية، وقد تؤدى إلى تجميد التطبيع السعودى الإسرائيلى وزيادة الانتقادات الأمريكية للحكومة الإسرائيلية. ومن المتوقع ألا تحظى السيطرة الإسرائيلية على قطاع غزة بشعبية فى إسرائيل نفسها، خاصةً مع تصاعد التمرُّد وعدم وجود حل واضح لمشكلة حكم القطاع.
نتيجة لذلك، ستواجه حكومة "بنيامين نتنياهو" صعوبات فى الحفاظ على تماسكها، مع احتمالات متزايدة لانهيار الحكومة. وفى هذا السياق، ستستمر عناصر المقاومة "حماس" فى غزة فى شن هجماتها على القوات الإسرائيلية، وسيستمر العنف فى الضفة الغربية، مع احتمال تصاعد الأوضاع مع نقل "حماس" لعملياتها إلى هناك، بالإضافة إلى لبنان وسوريا على حدودهما مع إسرائيل.
على الرغم من أن "حزب الله" وإيران سيُقيِّدان "حماس" لتجنُّب الهجمات التى قد تؤدى إلى حرب إقليمية كبرى، فإن الأحداث هناك قد تُجبر إسرائيل على التفكير فى توسيع العمليات العسكرية السرية والعلنية فى لبنان وسوريا لاستعادة الردع.
التباطؤ الاقتصادى بالصين والتأثيرات فى الاقتصادات الناشئة:
طبقا للتقرير، يتوقع تباطؤ اقتصاد الصين خلال عام 2024، ولكن ليس إلى درجة التسبب فى أزمة مالية، ما يعنى أن التأثير فى الاقتصادات الناشئة سيكون تحت السيطرة. وفى مواجهة التوقعات الاقتصادية ستستمر الصين فى السعى إلى إعادة التوازن إلى الاقتصاد الكلى.
وعلى الرغم من التأثير المحتمل للتباطؤ الاقتصادى فى الصين على الدول ذات الدخل المنخفض، فإن هناك توقعات بأن الصين ستتمكن من المحافظة على نمو اقتصادى يتراوح بين 4-5% فى العام الجديد. ومن المتوقع أن تستخدم السلطات الصينية مجموعة من الأدوات المالية والتنظيمية للتصدى لعدم الاستقرار المالى وتجنبه. فى حال تعرض النمو الاقتصادى لخطر الانخفاض إلى أقل من 4%، فإن بكين ستقدم دعما سياسيا أكبر للاقتصاد، ومن المرجح أن تعتمد على توسع فى السياسة النقدية والمالية، مع التركيز على دعم الاستهلاك بدلاً من الاستثمار.
يتوقع أن يكون تأثير النمو بالصين فى الاقتصادات الناشئة والنامية محدودا. ومن المحتمل أن تشهد اقتصادات أمريكا اللاتينية ودول إفريقيا جنوب الصحراء وشرق وجنوب شرق آسيا تباطؤا هامشيا فى النشاط الاقتصادى نظرا لتركيزها على الصين. ومع ذلك، فى حال مواجهة الولايات المتحدة ركودا عميقا (وهو أمر غير مرجح فى عام 2024)، فإن التأثير الاقتصادى فى أمريكا اللاتينية ودول إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا سيكون أكبر بكثير.
الحرب الروسية الأوكرانية:
توقع التقرير انخفاض الدعم المادى والمالى الغربى لجهود الحرب فى أوكرانيا بسبب القيود الاقتصادية والسياسية، مرجحا جمودا واضحا على خط الجبهة طيلة عام 2024، إلا أنه استبعد التوصل إلى وقف إطلاق النار بين موسكو وكييف أو إجراء مفاوضات جوهرية، مع استبعاد تحقيق كلا الجانبين لمكاسب كبيرة فى ساحة المعركة بسبب القيود الخاصة بالموارد والقوى البشرية؛ ما سيمنع كلا الطرفين من حشد قوات كافية لتحقيق اختراق كبير، وسط تزايد حالة "التخندق" على طول خط المواجهة.
رجح التقرير أن تواصل موسكو محاولات تطويق المعاقل الأوكرانية على طول خط المواجهة لتجسيد وإظهار فشل إدارة الرئيس "جو بايدن" لأوكرانيا والإضرار بحظوظه فى إعادة انتخابه لولاية رئاسية جديدة عام 2024. فيما ستحاول أوكرانيا تحقيق مكاسب تكتيكية لإقناع الغرب بأن لديها ما يكفى من الدعم بهدف مواصلة إمدادها بالأسلحة بما يمكنها من استئناف السيطرة على الأرض، خاصةً مع غياب دلائل قدرة الغرب على تقديم ضمانات أمنية كافية لردع العدوان الروسى فى المستقبل.
انتخابات تايوان وتوترات أمريكية صينية:
رجح التقرير أن تؤدى احتمالية فوز"وليام لاى" المرشح عن الحزب الديمقراطى التقدمى ونائب رئيسة تايوان فى الانتخابات الرئاسية التى تجرى فى البلاد فى 13 يناير القادم إلى ردود فعل صينية، قد تتضمن قيام بكين بإطلاق مناورات عسكرية بالذخيرة الحية بالقرب من تايوان عقب الانتخابات أو بعد تنصيبه رئيسا فى مايو، ويمكن للصين أن تعلق جزئيا اتفاقية إطار التعاون الاقتصادى عبر المضيق، ما سيزيد الرسوم الجمركية على البضائع التايوانية مثل البتروكيماويات والمنسوجات ولكن ليس على الرقائق أو غيرها من الأجهزة الإلكترونية المتطورة، التى تحتاج إليها الصين لتنميتها الصناعية.
هذه التهديدات قد تؤدى إلى تآكل الإرادة السياسية فى الولايات المتحدة وأوروبا للحد من المنافسة الاقتصادية مع الصين، وزيادة احتمال فرض قيود إضافية على التجارة والاستثمار. كما قد تؤدى انتخابات تايوان فى يناير إلى زيادة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، وتسرع من تنويع سلاسل التوريد الإقليمية والإنفاق الدفاعى.
بشكل عام، فإنه يتوقع أن تعتزم الصين اتخاذ أشكال أخرى من التصعيد والإكراه العسكرى طوال عام 2024، مثل التوغل فى المجال الجوى الممتد لتايوان والتدريبات البحرية شرق تايوان، ما يثير المخاوف من حدوث حرب وتعطيل الشحن وزيادة الإنفاق العسكرى فى آسيا.
مع ذلك، فإن الغزو الصينى لتايوان عام 2024 غير مرجح، جزئيا بسبب عدم استكمال جهود التحديث العسكرى فى الصين واعتمادها على الواردات العالمية من التقنيات الحيوية. ومخاوف الشركات بشأن الحرب التى قد تسهم فى تنويع سلاسل التوريد من الصين وتايوان إلى دول أخرى فى جنوب شرق آسيا والهند.
جمود سياسى فى أوروبا:
وفقا للتقرير، يتوقع أن تشهد أكبر دول أوروبا اضطرابات سياسية خلال عام 2024، حيث يتوقع مواجهة الحكومة الائتلافية المنقسمة فى ألمانيا صعوبات متزايدة فى تنفيذ التشريعات نتيجة لتصاعد الانقسامات الداخلية. كما ستشهد الائتلافات زيادة فى التوترات بشأن الإنفاق بعد حكم المحكمة الدستورية الذى يعوق إعادة تخصيص 60 مليار يورو من أموال مكافحة الأوبئة، ما سيؤدى إلى مزيد من التحديات القانونية والسياسية. ومن المحتمل أن يفوز اليمين المتطرف فى انتخابات الولايات فى ألمانيا، ما سيزيد من التحديات التى تواجهها أحزاب الائتلاف الحاكم.
فى فرنسا، سيستمر البرلمان المنقسم فى تعقيد الجهود الحكومية لتمرير التشريعات، ما يعنى تحجيم الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية أو تجميدها تماما، كما قد تؤدى خطط الحكومة لإصلاحات عمالية إلى مزيد من التظاهرات والإضرابات. وسوف تزيد المفاوضات الصعبة حول إصلاحات قانون الهجرة من خطر انهيار الحكومة.
وعلى صعيد إيطاليا، يُتوقع أن تؤدى الظروف الاقتصادية المتدهورة والحسابات الانتخابية إلى إضعاف تماسك الحكومة عام 2024، حتى إن ظل إجراء انتخابات جديدة أمرا غير مرجح.
الانتخابات الجنوب إفريقية واحتمالات الاضطراب:
رجح التقرير أن تؤدى حالة عدم اليقين السياسى قبل الانتخابات العامة إلى تفاقم مخاطر الاضطرابات والحد من احتمالات الإصلاح فى جنوب إفريقيا، وقد يؤدى تراجع شعبية حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى إلى خسارته لأغلبيته البرلمانية، الأمر الذى من شأنه أن يؤخر تنفيذ الإصلاحات التى تشتد الحاجة إليها.
من المتوقع أن يحصل الحزب الحاكم على أغلبية برلمانية ضيقة، ما يعزز فرص إعادة انتخاب الرئيس "سيريل رامافوزا"، وإذا فقد الحزب الحاكم أغلبيته البرلمانية وظل بأكبر عدد من المقاعد، فقد يحاول الحكم بمفرده، ولكن قد يضطر إلى التفاوض على اتفاقيات ائتلافية لضمان إعادة انتخاب "رامافوزا" وتمرير أجندته. ومع ذلك، قد تفرض هذه التنازلات السياسية عرقلة لأجندة الرئيس الإصلاحية.
فى سيناريو أقل احتمالا، إذا خسر حزب "المؤتمر الوطنى الإفريقى" أغلبية المقاعد فى هزيمة غير متوقعة، فإن حزب المعارضة (على الأرجح "التحالف الديمقراطى") قد يحاول تشكيل حكومة أقلية، ما قد يؤدى إلى فترة من الفوضى السياسية، تزيد من مخاوف حدوث عنف واضطرابات سياسية فى جنوب إفريقيا. وهذه الحالة من عدم اليقين السياسى قبل الانتخابات قد تزيد من مخاطر عدم الاستقرار فى البلاد.
الانتخابات الهندية والتوترات الطائفية:
وفقا لتقرير"ستراتفور"، فإنه من المرجح أن يفوز حزب "بهاراتياجاناتا" الذى يتزعمه رئيس الوزراء "ناريندرا مودى" فى الانتخابات العامة؛ حيث لا تزال شعبية الحزب مرتفعة. وقبل الانتخابات، يتوقع أن يشهد الخطاب الانتخابى تصاعدا فى قضايا الدين والعرق والطائفة؛ حيث يؤدى الخطاب القومى الهندوسى لحزب "بهاراتيا" إلى تفاقم الانقسامات الدينية، وزيادة فى معدلات حوادث العنف عبر الولايات الهندية.
إجمالا، يبدو أن العالم على أعتاب عام الأسئلة المُركبة وتشابك الأزمات الدولية التى تتمازج بين الأزمات السياسة والاقتصادية والعسكرية، يتصاعد فيها دور الأقاليم فى التفاعلات الدولية، وتصبح الأزمات الإقليمية عابرة للحدود الجغرافية بتأثيراتها الممتدة والمختلفة فى باقى دول العالم.
[1]"2024 Annual Forecast: A Global Overview", Stratfor Global Intelligence, December 18, 2023.