كان الرئيس محمود عباس (أبو مازن) مضطرا إلى تجميع كل الفصائل الفلسطينية في القاهرة، وضمان الالتقاء بها في الاجتماع الأخير الذي انعقد في العشرين من هذا الشهر، فالوضع الفلسطيني غدا متجها إلى مرحلة حاسمة إن تم استئناف مفاوضات عملية السلام المتوقفة، وإن لم يتم فمسألة مواصلة الضغط وبكل السبل والوسائل لانتزاع اعتراف بفلسطين كعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة، باتت ضرورية ولازمة وأمرا جديا، فالظروف الآن ملائمة جدا، وهناك تحولات مشجعة فعلا، إن بالنسبة لهذه المنطقة في ضوء تحولاتها الواعدة الأخيرة، وإن بالنسبة لمعظم دول العالم الفاعلة والمؤثرة.
لقد كان ضروريا أن يغتنم أبو مازن ارتخاء القبضة السورية على فصائل دمشق وفصائل إيران، وأهمها بالطبع حركة حماس، وأيضا حركة الجهاد الإسلامي، ويبادر إلى عقد هذا الاجتماع بسرعة وقبل أن تستجد أمور غير متوقعة، وينهي مسيرة المصالحة التي استغرقت فترة طويلة وأكثر من اللزوم، وغدا الحديث عنها كحكاية «إبريق الزيت»، ويلم شمل كل الشتات هذا التنظيمي لينتزع كل الحجج من أيدي الذين لا يرون أن هناك إمكانية لإنعاش عملية السلام واستئناف المفاوضات ما دام أن الوحدة الفلسطينية غير متوفرة، وما دام أن هناك حركة فتح وحركة حماس، وأن هناك دولة غزة ودولة الضفة الغربية.
قبل أن تحدث كل هذه المستجدات في المنطقة وتنتقل من ليبيا وتونس ومصر، وأيضا من اليمن، إلى سوريا وتؤثر على إيران، وتنهي كذبة «الممانعة والمقاومة»، وتجعل طهران أكثر انشغالا بالمواجهة مع تركيا وأكثر انهماكا بأوضاع العراق التي انهارت دفعة واحدة بعد الانسحاب العسكري الأميركي، فإن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) كان يعرف أن الحوار مع حماس مجرد مضيعة للوقت، وأن المصالحة الفلسطينية التي كثر الحديث عنها غير ممكنة طالما أن حركة المقاومة الإسلامية مضطرة لمراعاة علاقاتها السياسية والمالية بطهران، وطالما أنه عليها أن تصدق على الرغم من أنفها أن هناك فسطاط «ممانعة ومقاومة» بالفعل، وأنها لا تستطيع إلا أن تبقى تستظل بظله ما دام أن التحالف الإيراني - السوري الذي يشمل حزب الله أيضا، وله تأثيره الفاعل في العراق، يتجسد في واقع جغرافي سياسي لا يمكن لهذه الحركة الفلسطينية أن تتجاوزه بسهولة.
أما بعد كل هذه التطورات، وبعد أن أصبح خالد مشعل مضطرا لإيجاد موقع قيادي بديل قبل أن تفاجئه متغيرات الأوضاع السورية التي لم يعد هناك شك في أنها مقبلة لا محالة، حتى وإن هي تأخرت لبعض الوقت، فقد كان لا بد من هذا الاجتماع الأخير الذي كان مقررا منذ فترة سابقة، وهنا فإن مما لا بد من الإشارة إليه، بل وتأكيده، هو أن كل هذا الفوز الذي حققته الحركات الإسلامية في مصر وفي تونس، وربما أيضا في ليبيا، قد شجع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس التي غدت عضوا في التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وغدا رئيس مكتبها السياسي عضوا في مكتب إرشاد هذا التنظيم، على أن يتحرك بسرعة وأن يدفع في اتجاه انعقاد اجتماع القاهرة الأخير وإنجاحه، طالما أن لديه قناعة بأن تنظيمه بفعل مستجدات المنطقة هو التنظيم الأقوى الذي سيحتل حتما الموقع الذي بقيت حركة فتح تحتله في منظمة التحرير منذ عام 1968 وحتى الآن، وطالما أن التفاحة الفلسطينية التي تشبه تفاحة «نيوتن» الشهيرة سوف تسقط في «حجره» في نهاية الأمر.
الآن وبعد أن أصبح النظام السوري مربكا على هذا النحو، وبينما غدت انشغالات إيران تتركز على مسألة قدراتها النووية، وعلى ماذا سيكون عليه الوضع في العراق بعد انسحاب القوات الأميركية، وأيضا على صراعها مع تركيا على من هو الرقم الرئيسي في المعادلة الإقليمية، فإنه بالإمكان القول، ولكن بحذر شديد ومن دون أي جزم ولا حسم، إن هذه المرة ربما تختلف عن المرات السابقة، وإن حماس لاعتقادها - في ضوء المد الإسلامي المتلاحق في هذه المنطقة بعد ثورات الربيع العربي - بأن التفاحة الفلسطينية ستسقط في حجرها في النتيجة، وأنها بعدما أصيبت حركة فتح بكل هذا الترهل وبكل هذه الشيخوخة سترث الوضع الفلسطيني كله، فإنها لن تلجأ إلى تعطيل ما جرى، وذلك على أساس أن الحل مع الإسرائيليين سيكون حلها، وأن الدولة المنشودة ستكون دولتها، لهذا فإن المفاوضات لن تصبح بعد الآن ممنوعة ومحرمة، وإن صلح «الحديبية» سيكون المثل المحتذى في المرحلة المقبلة.
في كل الأحوال، وبغض النظر عن كل هذه الاحتمالات والتوقعات التي قد تصيب وقد تخطئ، فإنه بالإمكان اعتبار أن اجتماع القاهرة الأخير، يشبه وإلى حد بعيد المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في الجزائر في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1988، الذي لم تحضره حركة حماس، لأنها في حقيقة الأمر لم تكن موجودة فعليا بعد، والذي ضم المنظمات الفدائية جميعها ومن دون استثناء، حتى بما في ذلك حركة فتح – المجلس الثوري - بقيادة صبري البنا (أبو نضال) التي كانت قد غادرت العراق إلى سوريا، ثم غادرت سوريا إلى ليبيا، وأصبحت ملحقة بالمخابرات الليبية بقيادة عبد الله السنوسي، هذا ما غيره.
كان الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، رحمه الله، قد بدأ التعاطي مع عملية السلام بصورة جدية، إن من خلال قنوات مفاوضات مع ما يسمى اليسار الإسرائيلي، أو من خلال تكثيف الاتصالات مع الأوروبيين ومع الأميركيين، وكان عليه وقد أصبح مصمما على الذهاب بالشوط حتى آخره، أن يلملم الشتات الفلسطيني حوله، وأن يعقد ذلك المجلس الوطني الفلسطيني الذي كان مطلوبا منه الاعتراف بقراري مجلس الأمن الدولي 242 و338، ولذلك ولتمرير هذا الاعتراف فقد بادر أبو عمار الذي كان متميزا ومبدعا في ألاعيبه ومناوراته السياسية، إلى ربط هذا الاعتراف بإعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967، التي صاغ ميثاق استقلالها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، رحمه الله، بلغة جميلة وراقية، اختلط فيها الحاضر بالماضي، والأسطورة التاريخية بالواقع المنشود.
كان على أبو عمار وقد حسم أمره وقرر اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة فعلا، أن يرضي الأنظمة العربية كلها، وأن يضمن مشاركة كل امتداداتها في الساحة الفلسطينية، ولعل ما تجب الإشارة إليه أن نجم المعارضة في تلك المرحلة كان الدكتور جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الرجل العنيد والمتمسك بقناعاته ومواقفه حتى الموت، ولكنه في الوقت ذاته يختلف عن باقي المعارضين وباقي الرافضين في أنه متمسك باستقلالية قراره والقرار الفلسطيني، وفي أنه يرفض تأجير بندقيته لأي نظام حتى بما في ذلك النظام السوري والنظام العراقي، ولهذا فقد كان من السهل على (أبو عمار) وعلى (أبو إياد) إقناعه بموقفهما في تلك الليلة الطويلة، التي بدأت مع غروب الشمس وانتهت مع شروقها، بالتركيز على مخاطبة وطنيته التي هي وطنية صادقة، وهذا معروف لكل الذين تعاطوا معه وعرفوه عن قرب.
في كل الأحوال إنه من الممكن اعتبار اجتماع القاهرة الأخير، الذي سيتكرر في فبراير (شباط) المقبل، خطوة جدية في اتجاه الوحدة الفلسطينية التي بقي غيابها يشكل عبئا على محمود عباس (أبو مازن) وحركته في كل المجالات الدولية، لكن مع كل هذا التفاؤل فإنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن الجوانب السياسية الرئيسية المتعلقة بعملية السلام لم يتم التطرق إليها في هذا الاجتماع الأخير، وأن دولة غزة ستبقى إلى جانب دولة الضفة الغربية إلى أن تشكل الحكومة الوحدوية وتجري الانتخابات التوحيدية، التي من المفترض أن تجري وبسرعة.. وهنا فإن الخوف كل الخوف من المستجدات غير المحسوب حسابها، وأول هذه المستجدات أن يستعيد نظام بشار الأسد زمام المبادرة، وأن تتمكن إيران من تكريس نفسها رقما رئيسيا في المعادلة الإقليمية.
------------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الخميس 29/12/2011.
رابط دائم: