د.رضوان السيد
يوم الثلاثاء 25 أكتوبر 2011 غادر الشاب الإسكندراني النابه حُسام تماّم، ولما يتجاوز الأربعين، دنيانا الفانية على أثر مرضٍ عُضالٍ لم يمهله أكثر من بضعة أشهر. وكنتُ قد افتقدته وسألْتُ عنه في المرتين اللتين ذهبتُ فيهما إلى مصر بعد ثورة 25 يناير، إلى أن اتصل بي في أوائل سبتمبر الماضي، وأخبرني أنه كان شديد المرض وأنه يتابع علاجه الكيماوي بمستشفى الشيخ زايد، ويريد العودة للكتابة لصفحة "التراث" بجريدة "الحياة". وقد أرسل لي بالفعل ثلاث مقالاتٍ كان آخرها قبل أربعة أيام.
عرفتُ حُسام تماّم في أواخر التسعينيات، من خلال موقع "إسلام أون لاين". وفي حين كان الدكتور هشام جعفر رئيس التحرير في الموقع (وهو شابٌّ متميزٌ أيضاً)، كان حُسام هو المسؤول عن القسم الخاصّ بالحركات الإسلامية. وقد كان بالفعل نادر المثال في معرفته الدقيقة بالأنساب والأنسال لتلك الحركات منذ مطلع الستينيات، وإلى سقوط نظام مبارك. وقد تنافس في شخصيته وتساوق عنصران رئيسيان:الدقّة العلمية منقطعة النظير، والنزاهة الهائلة العُمق والأبعاد. لذلك كان الإسلاميون المصريون على كافة اتجاهاتهم شديدي الثقة والإعزاز به. وقد قال لي أحدهم (وهو ممن قضى في السجن أحد عشر عاماً) إنّ أول شخصٍ اتصل هو به بعد إطلاق سراحه كان حُسام تمّام، ولأنه كان واثقاً أنّ حُساماً سيُسَرُّ سروراً حقيقياً بخروجه على كراهيته المعلنة للتطرف والعنف والتشرذُم باسم الإسلام!
كنت أُتابعُ برامج واستطلاعات وتقارير حُسام تمّام في "إسلام أون لاين"، لذلك أقبلْتُ على قراءة دراسته الأولى عن الحركات الإسلامية في العالم العربي: رؤية تحليلية. ثم قرأتُ عمله على مذكرات عبد المنعم أبو الفتوح أحد زعماء "الإخوان" ومعتدليهم، وقد ترشح لرئاسة الجمهورية بعد الثورة فأزعج بذلك قيادة حزبه. ولحُسام دراسةٌ متميزةٌ عن مذكّرات الأخوات المسلمات في السجون، تستحقُّ التأمل خارج هذه العُجالة. على أنّ العمل الإحصائي والبحثي الذي تميّز به في السنتين الأخيرتين، كان مطالعاته النقدية لما سمّاه "تسلُّف الإخوان". وقصةُ التسلُّف هذه في أوساط شباب "الإخوان" أصدر عنها حُسام كتاباً وأربعة تقارير وجيزة، وشكّلت مفاجأةً لي ولكثيرين من المتابعين لـ"الإخوان" ولحركات الإسلام السياسي عامة. فالذي كنتُ عليه من الرأي في هذه المسألة، وظهر في كتابيَّ "سياسيات الإسلام المعاصر" (1997)، و"الصراع على الإسلام" (2005)، أنّ التمرد السلفيَّ الذي تبلور في الثمانينيات والتسعينيات على سلفية الدولة، إنما كان نتيجة التلاقي في الخليج منذ الستينيات، بين الإخوان المنفيين هناك، والشبان السلفيين، فصار السلفيون أو بعضهم أكثر تسيُّساً وثورية، وانتشرت التأصيلية العَقَدية في أوساط "الإخوان" بحيث أنتج هذا المزيج حركات العنف في مصر في السبعينيات، والسلفية الجهادية فيما بعد. ما فعله حُسام أنه حوَّل هذا الكلام العامَّ إلى فرضيةٍ بحثيةٍ بالأسماء والمقابلات والتصريحات والفتاوى والنشرات على الإنترنت، وليس في أوساط حركتي "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية" وحسْب؛ بل وفي أوساط "الإخوان" وتنظيماتهم بمصر وعدة بلدانٍ عربيةٍ أُخرى. وكما سبق القول، فإنني كنتُ قد لاحظْتُ ذلك خلال عملي باليمن (1988-1991)، وعمَّمتُ ذلك على المشهد العام بدون أدلةٍ واضحة، وما توصلتُ إلاّ إلى نتيجةٍ واحدةٍ تتعلقُ بالسلفيين أكثر مما تتعلق بالإخوان، أي التسيُّس والتفكير والسلوك الجهادي. أمّا حُسام تماّم فتوصل استطلاعياً وإحصائياً إلى نتائج تتعلق بتغيُّر رؤية العالَم لدى "الإخوان"، وظهور مسألة الفسطاطين والتكفير لديهم، إضافةً إلى تخلْخُل رؤية السلطة ومدنيتها، وضرورات الانفصال "الشعوري" عن الجماعة العامة، وأحياناً عن ترتيبات "الإخوان" أنفُسهم! وهكذا فإنّ البراغماتية التي كانت معروفةً عن "الإخوان" في مصر والأردن، والتي حافظ عليها شيوخهم طويلاً، تتجه للتضاؤل ليس بسبب قسْوة السلطات في التعامُل معهم فقط؛ بل ولتعملُق ثقافة الانفصال عن المجتمع والدولة في أَوساطهم للاعتقادية الحديثية المتشددة، وظهور الرؤى النشورية، والعودة إلى التشديد على التمييز بين الشريعة والقانون المدني، والإصرار على عدم تسمية النظام السياسي نظاماً مدنياً، كما الإصرار على الشعارات الرمزية مثل "الإسلام هو الحل".
وعندما قامت الثورات في تونس ومصر، وظهرت جماهيرها وشعاراتُها، ظهرتُ في مقابلتين تلفزيونيتين وذكرْتُ فيهما أنّ مجتمعاتنا، في دول الجمهوريات الخالدة بالذات، كانت خلال أكثر من أربعة عقود محكومةً بالثُنائية العبثية: استبداد -تمرد إسلامي، وأنّ عودة الجمهور إلى الشارع أنْهتْ هذه الثُنائية، أي أنّ الاستبداد سقط، وتسقُطُ بسقوطه بدائلُهُ المفتَرَضة، أي الإسلام الجهادي، كما أنّ الإسلام السياسيَّ سوف يتأثر كثيراً. وما اعترض حُسام تمام على هذه المقولة، لكنه كعادته في التدقيق، قال إنّ النماذج الفيبرية الصافية مفيدةٌ في التنظير وجلاء المشهد وعدم الضياع في التفاصيل منذ البداية، لكنها لا تفيدُ في المتابعة الواقعية. فالجهاديةُ تكاد تلفظُ أنفاسَها بحقّ، لكنّ الإسلام السياسيَّ ما ضعُفت جماهيريتُهُ بعدُ رغم تضييعه فُرصة الانضمام منذ اليوم الأول كما كان منتظَراً. ذلك أنّ احتجاجية الإسلاميين الطويلة الأمد صارت لها بُنى اجتماعية ورمزية، لن تنتهي بسهولة. ولاحظ أنّ الإسلام السياسي (الإخوان) ليس بيئةً واحدةً في العالم العربي، ولذا فهو يتفاوتُ في القدرة على التلاؤم. فمبدئياً "الإخوان" أكثر قدرةً على التلاؤم من السلفيين في أكثر البيئات. ومع ذلك؛ فللأمر استثناءاته. فتائبو ومُراجعو الجماعة الإسلامية أظهروا في النصف الثاني من التسعينيات، قُدرةً عاليةً على النقد الذاتي رغم محدودية وسائلهم، وتقدموا في بعض الجوانب على "الإخوان" رغم تجربتهم الطويلة في العمل السياسي. ثم إنّ إسلاميي تونس وسوريا والجزائر والمغرب، أكثر قدرةً على الانفتاح وقبول التعددية السياسية من "إخوان" مصر والأردن واليمن والسودان. ثم عاد حُسام بعد أن زار الأردن واليمن، فصحَّح انطباعه الأول وخص تطورات اليمن باهتمام فائق، بسبب قدرة شباب وشابات "حزب الإصلاح" على الخروج من الأُطُر الحزبية والعقائدية المقررة سابقاً. ولفت حُسام انتباهي إلى المظهر البائس الذي بدت عليه المؤسسة الدينية السنية في عصر الثورات. إذ لم يتميز غير موقف شيخ الأزهر والشيخ القرضاوي. والقرضاوي "إخواني" في الأصل، ولذا لا عجب في ثورانه، أمّا شيخ الأزهر فهو أكثر تقدماً من الأزهريين في موقفه ومبادراته. وكان يقصد بذلك أنّ المؤسسة الدينية قد تكون سقطت مع سقوط الاستبداد والتطرف. وقد أثار ذلك لديَّ تأمُّلاتٍ تبادلتُها معه عن الدين ومؤسساته في زمن الحرية ودولتها. وهذه المسألة جديدةٌ أيضاً مثل جِدّة ظهور الجمهور في الشارع. فالشارع الذي يوشك أن يغير وعي الإسلاميين سوف يغيّر بالتأكيد وعي المؤسسات الدينية بذاتها وبالآخر، الإسلامي وغير الإسلامي. إنما لا ينبغي أن نتجاهل الشرائح الاجتماعية الكبيرة والمحافظة وغير الحزبية، والتي ما تزال تركن في ثقافتها الدينية إلى المؤسسات التقليدية، وليس إلى شيوخ الأحزاب الدينية أو الدُعاة الجدد.
كان حُسام تمام شاباً لامعاً، ولا يضاهي ألمعيته غير وداعته ومُسالمته ووعيه النقدي. وقد أثر كثيراً في السنوات الأخيرة في وعينا بالظاهرة الإسلامية ومسالكها المتشعبة والمتباينة. وقد قلتُ له قبل ستة شهور: هل كنت تتوقع هذا الظهور لـ"الإخوان" ومشابهيهم؟ فأجاب: "نعم، لكنني ما كنتُ أتوقّع هذا التحدي السلفي في مصر وغيرها، رغم عملي الطويل على اختراقاتهم. إنما المشهد ما يزالُ شديد التموُّر، وللانتخابات القادمة دلالات مهمة وإنّ تكن غير قاطعة في هذا الظرف الصعب". رحم الله حسام تماّم، ووفّق تلك الكوكبة من المثقفين الشباب بمصر واليمن، والشباب والكهول والمشايخ بسوريا على إنجاز هذا النهوض المنقذ للدولة والأمة.
(*) نقلا عن صحيفة الاتحاد الإماراتية
رابط دائم: