تدلنا معادلة مكونات "صناعة الريادة المصرية"، على العناصر التى ترتكز عليها الدولة المصرية فى صناعة علامتها الوطنية الخالصة فى التعامل مع القضية الفلسطينية والتصدى لمخطط دولة الكيان المحتل لتصفيتها عبر حرب إبادة تستخدم فيها أحدث الآليات العسكرية ضد شعب أعزل، بلغت نسبة النساء والأطفال من ضحاياها حتى الآن 70%، والتى تعتمد على مكونين؛ مكون قوة الدولة الوطنية وريادتها عبر مراحل تطور القضية الفلسطينية، ومكون قدرة الدور التى تمكن الدولة من اتخاذ قرارها وفقًا لاعتبارات المصلحة الوطنية المصرية.
ويتشكل مكون "قوة الدولة الوطنية" من عناصر رئيسية؛ قيادة لديها رؤية واستراتيجية ترسم من خلالها الخطوط الواضحة لصون الأمن القومى من خلال سياسة خارجية رشيدة ومتزنة، تقوم مؤسسات وأجهزة الدولة بتنفيذها، ويدعمها شعب تنامت لديه معدلات الوعى الوطنى والقومي، بحيث لم يعد يمكن لأحد أن يتاجر عليه أو يزيف اتجاهاته بشعارات عاطفية تخفى الكثير من المخططات التى تستهدف أمنه واستقراره. يدعم ذلك الدور التاريخى والموقع الجغرافى للدولة اللذان جعلاها على اشتباك دائم مع القضية الفلسطينية مع اختلاف الاستجابات وآليات التدخل وفقًا لطبيعة تطور الصراع سلمًا وحربًا، وهذا ما عكسته فاعلية القوة الناعمة والخشنة على التعامل مع تطورات الصراع منذ 1947 وحتى الآن. أوجد جميع ما سبق دورًا مصريًا لا يمكن أن يُنازع سلمًا وحربًا، دورًا يسمح بوجود شركاء للتوصل لهدف تسوية القضية، ولكنه يظل الدور المركزى والرئيسى فى كل ما يخص القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.
أما مكون "قدرة الدور"، فيعتمد على العناصر التالية؛ الجوار الجغرافى بما جعل القضية الفلسطينية قضية مركزية فى صلب الأمن القومى المصرى وصون الأمن القومى المصري، والحفاظ على السيادة الوطنية المصرية هو حق شرعى أصيل تكفله كافة القوانين والمعاهدات الدولية، الأمر الذى جعل القاهرة دائمًا ما تتصدر المشهد، وذلك ما عكسه الإعلام المصرى بعدّه القوة الناعمة اللازمة لتشكيل توجهات واعية للرأى العام بشأن الدور المصرى عبر تاريخ القضية الفلسطينية، وجعل القوات المسلحة المصرية دائمًا على أهبة الاستعداد لاتخاذ التحرك اللازم فى التوقيت المناسب وفقًا للإحاطة بجميع المعلومات ومناقشة مختلف السيناريوهات للتعامل مع أى تطور فى الأحداث. إن القوات المسلحة المصرية، التى خاضت جميع المواجهات دفاعًا عن الأراضى المصرى وجابهت أى تهديد يمسها، غير غافلة عن القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. كل ما سبق ولّد عقيدة راسخة لدى كل المصريين بحتمية مناصرة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى والقضية الفلسطينية فى مختلف المحافل الدولية، ومن ثم توفير الدعم الكامل إنسانيًا وأخلاقيًا للشعب الفلسطينى التزامًا بالدور المصري.
لتنفيذ ذلك، اعتمدت الدولة المصرية على لقاءات، وتصريحات، وعقدت "قمة القاهرة للسلام" و "قمة الرياض" التى شكلت اللجنة الوزارية لوزراء الخارجية العرب والمسلمين الذين يمارسون ضغطًا دوليًا باتصالاتهم ومشاركاتهم الدائمة فى اجتماعات الجمعية العامة والتنسيق لمواقف ضاغطة فى أروقة مجلس الأمن. لم تعتمد القاهرة على التحركات الرسمية لوزارة الخارجية والأجهزة الأمنية والمعلوماتية المنوط بها التعامل مع القضية، وإنما فعلت من دور البرلمان والأحزاب والمجتمع المدني، كل ذلك مدعوم بجهود واعية من وسائل الإعلام المصرية والمدونين المصريين على مواقع التواصل الاجتماعى بهدف ترشيد المظاهرات الداعمة للحق الإنسانى للشعب الفلسطينى فى الحياة بعد الإدراك العام بأن هناك مخططًا واضحًا لتصفية القضية وإبادة الشعب الفلسطينى وتهجير قسرى لمن يتبقى، مع فتح التبرعات لدعم الشعب الفلسطينى من منظمات المجتمع المدنی وجميع المؤسسات والبنوك. تجلى كل ذلك فى احتفالية استاد القاهرة لمناصرة حقوق الشعب الفلسطينى تحت عنوان "تحيا مصر وفلسطين"، التى كانت ليلة بدء الهدنة الإنسانية التى لم ترغب دولة الكيان المحتل فى استمرارها، واستعرضت فيها الدولة المصرية قوافل الإغاثة التى أعدتها منظمات المجتمع المدنی المصرى، وفيها أيضًا أعلن الرئيس السيسى أن تهجير الفلسطينيين خط أحمر لم ولن نقبل أو نسمح به، وأكد كذلك أن مصر لم ولن تغلق أبدًا معبر رفح الحدودى أمام دخول المساعدات الإنسانية.
كل ما سبق عكسه خطاب الخارجية المصرية المتصاعد بدرجات محسوبة، والذى وصل إلى لهجة شديدة يمكن رصدها من خلال تحليل مضمون الخطاب، وكلمة وزير الدفاع المصرى الفريق أول محمد زكى، فى افتتاح معرض "إيديكس" فى 4 ديسمبر 2023، والتى أشار فيها إلى: "أن التعاون المشترك ضمانة حقيقية لتحقيق التنمية والاستقرار والرخاء لكافة الدول والشعوب المحبة للسلام، إلا أن الأحداث العالمية الجارية، خصوصًا ما تواجهه القضية الفلسطينية من منحنى شديد الخطورة والحساسية وتصعيد عسكرى غير محسوب لفرض واقع على الأرض هدفه تصفية القضية الفلسطينية". يستمد الخطابان السابقان فاعلية كبيرة ارتباطًا بالخطاب الرئاسى، الذى عبر منذ اللحظة الأولى عن أربع لاءات شهيرة؛ لا لتصفية القضية الفلسطينية، لا للتهجير القسرى للفلسطينيين، لا لحل القضية على حساب دول الجوار، لا لاستمرار هذه الحرب التى يمكن أن تتوسع بما يهدد الأمن والاستقرار على المستويين الإقليمى والدولي. هذه اللاءات مثلت المنطلق الفكرى للموقف الريادى المصرى، الذى فعّلت فيه مصر القوى الشاملة للدولة بعناصرها المختلفة، ومثّل الركيزة التى لم يحد عنها الرئيس فى كل لقاءاته وكلماته فى القمم والمؤتمرات المختلفة. وتمثل العناصر التالية التى وردت على لسان الرئيس فى قمة الرياض جوهر الموقف المصرى العادل والنزيه والشريف والخالى من المصالح:
أولًا: الوقف الفورى والمستدام لإطلاق النار فى القطاع بلا قيد أو شرط.
ثانيًا: وقف جميع الممارسات التى تستهدف التهجير القسرى للفلسطينيين إلى أى مكان داخل أو خارج أرضهم.
ثالثًا: اضطلاع المجتمع الدولى بمسئوليته، لضمان أمن المدنيين الأبرياء من الشعب الفلسطينى.
رابعًا: ضمان النفاذ الآمن والسريع والمستدام، للمساعدات الإنسانية، وتحمل الكيان المحتل مسئوليته الدولية، بعدّها القوة القائمة بالاحتلال.
خامسًا: التوصل إلى صيغة لتسوية الصراع، بناء على حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
سادسًا: رفض تصفية القضية على حساب دول الجوار.
سابعًا: إجراء تحقيق دولى فى كل ما تم ارتكابه من انتهاكات ضد القانون الدولى.
وأخيرًا، وبعد تجديد دولة الكيان المحتل عملياتها العسكرية، عقب انتهاء الهدنة الإنسانية التى فعّلت القاهرة جل جهدها من أجل مدّها بغرض التوصل لوقف إطلاق النار وبدء جولة جديدة من مباحثات السلام الذى يعد الهدف الاستراتيجى للدولة المصرية، صارح الرئيس العالم بأنه قد حان الوقت لإعلان دولة فلسطين، تعبيرًا عن مستوى ضاغط على دولة الكيان فى إدارة الصراع، خاصة مع تراجع الدعم العالمى لما صورته دولة الكيان بأنه استخدام مشروع لحق الدفاع عن النفس، وتفهم العالم نتيجة للجهود المصرية وجهود أطراف إقليمية مخلصة لحقيقة أهداف المحتل.
هذه هى مصر، وهذا هو موقفها الريادى الثابت فى التعامل مع القضية، مهما شكّك فى ذلك كل ذى غرض أو هوى. إن النخبة المصرية الأكاديمية والإعلامية فى حاجة لحوار منهجى حول مفهوم المصلحة الوطنية المصرية، ووضع تعريف لهذا المفهوم ينطلق من النطاق الجغرافى للوطن ومصالح مواطنيه، والتعامل مع قضايا السياسة الخارجية انطلاقًا من مفهوم الواقعية السياسية، وهى إحدى المدارس الكبرى فى العلاقات الدولية، التى تنظر للعالم كما هو، لا كما ينبغى أن يكون. فعالم اليوم تحكمه المصالح وينبغى أن تصل الرسالة بأن مصالح العالم فى الإقليم باتت مهددة بعد اتساع نطاق الصراع وامتداده لباب المندب، كما حذر الرئيس المصرى منذ اللحظة الأولى. وعلى العالم، إذا رغب فى حماية مصالحه، أن يضغط على دولة الكيان والدولة الراعية لها لوقف هذه العمليات العسكرية الإبادية التى يمارسها جيش الاحتلال فى حربه المجنونة لتحقيق مخطط مكتوب عليه أن يتحطم على صخرة الريادة المصرية.