لنا أن نفاخر ونعتز بأننا أبناء حضارة هي الأعظم والأبهى والأخلد بين الحضارات .. لنا أن نفاخر بأن مصر صاحبة أول مجلس نيابي منتخب يمتلك اختصاصات نيابية في منطقة الشرق الأوسط .. وعلى الأرض المصرية كانت أول ثورة ديمقراطية ناضجة في العصر الحديث في مايو 1805، وقيام قادة تلك الثورة بتنصيب محمد علي باشا واليًا على مصر " باسم الشعب " دون انتظار لقيام السلطان العثماني بإرسال والٍ من قبله، وتمت مبايعة محمد علي حاكمًا " بشروط الشعب " التي تتضمن الفكرة القائلة بأن " الأمة هي مصدر السلطات " ..

لنا أن نفاخر بأقدم هيئة علمية إسلامية ( الأزهر الشريف ) والمؤسسة الدينية الأكبر في مصر، يعود تاريخ إنشاء الجامع الأزهر إلى عام 972، يُعتبر ثالث أقدم جامعة في العالم بعد جامعتي الزيتونة والقرويين ..

ولنا أن نفاخر بقدوم القديس ماري مرقس إلى الإسكندرية عام 61م وهو واحد من السبعين رسولًا، الذين اختارهم السيد المسيح للكرازة حيث سمع تعاليمه وهو كاتب الإنجيل المعروف باسمه، واحتلت الكاتدرائية المرقسية بالإسكندرية مع قديسها ومؤسسها " مارمرقس "مكانة عظيمة في التاريخ الإنساني ..

ولنا أن نفاخر أن بداية العلاقة بالسينما في مصر كانت  في نفس الوقت الذي بدأت في العالم، فالمعروف أن أول عرض سينمائي تجاري في العالم كان في ديسمبر 1895 .. وكان افتتاح أول (سينما توغرافي ) لـ" لوميير " بالإسكندرية في منتصف يناير 1897 م. .

ولنا أن نفاخر أن عام 1905 كان أول موسم لفرقة الشيخ سلامة حجازي، وفيما بعد تزايدت الدعوة لإنشاء مسرح وطني وسط مطالبات بخروج قوات الاحتلال الإنجليزي عن مصر بعد الحرب العالمية الأولى، وبالفعل يتأسس " المسرح الوطني " عام 1921 في مبنى " تياترو " الخديوي بحديقة الأزبكية حيث بدأ في عرض أربع مسرحيات يومية ..

ولنا أن نفاخر أن لدينا جريدة ومؤسسة صحفية كبيرة لها من الإسهامات الفكرية والإعلامية والسياسية والبحثية والمهنية بقدر وروعة أداء مؤسسة الأهرام العتيدة .. ونفاخر ونحتفي ونحتفل بصدور العدد 50000 للجريدة، وقد شرفت الاحتفالية بمشاركة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي بتحريره مقالة بالمناسبة أعرب سيادته خلالها عن تقديره واعتزازه بمهنة الصحافة، ومؤسسة الأهرام العريقة، التي صمدت في قلب الأحداث ما يقرب من ١٤٨ عامًا منذ تأسيسها في ۲۷ديسمبر ١٨٧٥ حتى الآن ..

ولعل من أبرز من أرخ للأهرام وقام بواسطتها بالوقوف على أبرز المحطات التاريخية  لمصر الحديثة إثنين من المؤرخين، الدكتور إبراهيم عبده أستاذ ومنشئ معهد الصحافة في جامعة القاهرة وقد ترك لنا كتابًا مهمًا اسمه " جامعة الأهرام في 75 سنة " وفيه يحكي تاريخ إنشائه حتى عيد ميلاده الماسي الـ 75 عامًا .

والثاني هو الدكتور يونان لبيب رزق الذي قدم في التسعينيات من القرن الماضي سلسلة كتبه " الأهرام ديوان الحياة المعاصرة " ــ وبالمناسبة يعود اختيار ذلك المسمى للدكتور طه حسين عميد الأدب العربي، وحفلت تلك السلسلة من الكتب بسرديات تاريخية تناول فيها " يونان " بالعرض البديع حكايات وأخبار ورؤى تلك الجريدة ومحرريها بداية من النشأة والتطور ودور الأهرام في تسجيل التاريخ كشاهد عليه .. وكيف تحول جورنال الأهرام من صحيفة يصدرها الكتاب الشوام القادمون من سوريا إلى جورنال مصر للمصريين ..

وبمناسبة الاحتفال بذكرى ميلاد الدكتور " يونان " منذ أيام (ولد الدكتور في27 أكتوبر عام1933 في حي شعبي في القاهرة هو حي الأزبكية نفس الحي الذي يقع فيه الأهرام الآن ) نحاول الاقتراب من بعض سطور دراسات " يونان " التي قدم فيها رؤيته لمصر منذ القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، لكل ما يجرى على أرض الكنانة من وقائع وأحداث وعلاقة مصر بالوطن العربي والعالم، لم يترك شاردة ولا واردة إلا وضمنها مقاله الأسبوعي، حتى صفحات الحوادث والإعلانات لم تفلت من قلمه، وقدمها بصورة شيقة جعلت القارئ يعدها وجبة تاريخية دسمة يقرؤها وينهل منها نهاية كل أسبوع، صدرت هذه المقالات في سلسلة من الكتب تحت عنوان " الأهرام ديوان الحياة المعاصرة " ..

ومعلوم أن " يونان " أحد أشهر مؤرخي مصر المعاصرين، ومن الأدوار الوطنية المهمة التي اضطلع بها الدور الذي لعبه أثناء شغله عضوية هيئة الدفاع المصري في قضية طابا عام 1988، حيثُ لعب دورًا حاسمًا في إعادتها لمصر من خلال الوثائق التاريخية والصور التى قدمها للجنة التحكيم، والتى حسمت بشكل قاطع ملكية مصر لهذه المنطقة في سيناء، ومن أدواره الوطنية أيضًا عضوية الوفد المصري في مؤتمر مدريد عام 1990، وعضوية الوفد المصري في المفاوضات مع السودان حول قضية حلايب خلال عامي 1992 و1993 ..

ويؤكد " يونان " أن هوية الآباء الأوائل للصحيفة سليم وبشارة تقلا اللذين جاءا إلي مصر من الشام لم تؤثر علي طبيعة الأهرام إلا السنوات القصيرة الأولى .. وبعد أن انتقلت إلي القاهرة كانت قد تمصرت تمامًا .. والمعني أن أصحاب الجريدة تيقنوا أن بقاءها مرهون بقبول المصريين لها فانحازت إلي قضاياهم..

ويرى مؤرخنا أن العيب في الجهل المتفشي بتاريخ هذا الوطن ليس سببه من يقرأ وإنما من يكتب .. من أصحاب الأقلام التقليدية التي ينفر منها القارئ العادي ..

وقد ظل " يونان " يؤكد أن الأهرام هو جريدة الجرائد المصرية , كتب يقول : في أحد تقاريره السنوية تباهي اللورد كرومر المعتمد البريطاني في القاهرة .. بأنه كانت تصدر في مصر في أواخر القرن التاسع عشر أي بعد عقدين من الاحتلال البريطاني 169 جريدة ومجلة ودلل بذلك علي ما تمتعت به البلاد من الحرية وقال إن ذلك ثمرة من ثمرات سياساته بإسقاط القيود علي الصحافة .. وهنا يقول الأستاذ يونان وقد لهث الباحثون في الجري وراء أسماء هذا العدد الضخم من الإصدارات الدورية وكان أقصى من توصلوا إليه يزيد قليلًا علي أصابع اليدين، الأمر الذي أصبح يشكل لغزًا في تاريخ الصحافة المصرية ..

لقد كان " يونان " بحق المؤرخ العلمي المحلل الرائد في مدرسة الكتابة التاريخية الدقيقة، باستخدام فحوى الوثائق ودلالاتها استخدامًا علميًا واسعًا ..

وقد راعى في سردياته الهامة الإيمان بأن التاريخ رقائق حضارية متراكمة بعضها فوق بعض ولا يمكن وضع فواصل بينها، وظل يرفض تلك التصنيفات الدينية للوقائع وللسرد التاريخي .