تغيرت معادلة الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، ولم تعد مجريات الأحداث كما كانت، عقب عملية مفاجئة تمكنت خلالها الكتائب الفلسطينية من إلحاق هزيمة - ولو مؤقتة-  بصفوف وقوى الاحتلال، وهو ما أعاد إلى الأذهان حراك 2014 على مستوى الهجمات والتسليح، وربما استمرار وتواصل الضربات بين الجانبين - غير متكافئة - وبالتزامن معها فإن اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة ينذر بتغيرات إقليمية جوهرية، قد تتغير معها عدة عوامل جيوسياسية.

 فى المقابل أيضا تبرز مجموعة من التداعيات والانعكاسات  ليس فقط على مستوى أطراف النزاع الأصيلة، إنما على المجتمعين الدولى والإقليمى بمؤسساتهما ومنظماتهما السياسية والدبلوماسية أيضا.

ديناميكيات الموقف المصرى:

تبدو ديناميكيات الموقف المصرى، التى لم تتوقف منذ تاريخية الأزمة وحضور الصراع بالمنطقة، وفى خضم المعطيات المتوفرة فى الآونة الأخيرة، عبر عدة دلالات وشواهد جاءت متواترة وعلى مدى أنظمة الحكم المتعاقبة، ومنذ 2014 تحديدا وقد اعتمد الدور المصرى ضمن أبرز الفاعلين فى القضية التاريخية.

- تملك القاهرة اقتناعا راسخا بأحقية الفلسطينيين فى أراضيهم التاريخية، من ثم يشكل مطلب حل الدولتين وإقامة دولة فلسطين المستقلة على حدود ما قبل 1967، أبرز التوصيات المصرية بجميع المحافل الدولية والإقليمية، فطالما تمكنت من تدويل القضية وتصديرها.

- بدأت القاهرة بوضع التصورات تجاه الأزمة الفلسطينية، وربما التى تأثرت بالداخل الفلسطينى، وقبيل الطرف الخارجى، ومن ثم تم التعامل مع الأسباب الجذرية؛ حيث دأبت مصر على استضافة الفصائل الفلسطينية، رغبة فى توفيق الأوضاع والانفتاح ومن ثم البدء فى إزالة الخلافات وتقريب وجهات النظر، أقرب هذه الاجتماعات بمدينة العلمين الجديدة يوليو الماضى، شاركت فيه معظم الفصائل الفلسطينية وأبرزها حركتا فتح وحماس.

- عكست بيانات الخارجية المصرية التى تواترت منذ اندلاع الأزمة، دبلوماسية مصرية واضحة لا سيما فى المطالبة بضرورة ضبط النفس وتغليب صوت العقل، وهو ما لا ينفك عن آليات القاهرة المتعارف عليها فى انتهاج مسارات التفاهم تجاه الصراعات.  

- تكثفت لقاءات الرئيس السيسى مع معظم القادة والزعماء على المستويين الإقليمى والدولى، رغبة فى التوصل إلى تسوية شاملة ووفق المرجعيات الدولية، وعكست هذه اللقاءات رؤية مصرية حاسمة ورافضة للسياسات الإسرائيلية وممارساتها الوحشية، ودون أدنى مماطلة، لا سيما ما برز فى تصريحات الرئيس إلى القيادات الأمريكية.

- فتح المعابر بشكل دورى، وحاليا يجرى فتح معبر رفح من أجل إيصال المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، وعلى نحو يضمن حفظ بقاء أهالى غزة بأراضيهم دون تهجير، تحديدا سكان الشمال من غزة.

تطورات درماتيكية:

تضطلع مصر بأدوارها هذه فى ضوء غياب المفاهيم المتعلقة بتوازنات المواجهة أو الردع بين الجانبين إسرائيل وحركات المقاومة المسلحة، وفى المقدمة حماس، لا سيما مع توالى التداعيات الكارثية على القطاع، واعتزام الكيان قيامه باجتياح برى وشيك، وعقب اجتماعات مع مجلس الحرب الإسرائيلى بقيادة نتنياهو، خصوصا أن إسرائيل أعلنت انتهاج نظرية أو ما يعرف ببروتوكول هانبيال، ومفهومه نظريا حماية الجندى الإسرائيلى من الأسر، لكن بموجب تطبيقه عمليا يتم التخلص منه فى حالة الأسر، من ثم لا يوجد ما تساوم عليه سلطات الاحتلال، ولهذا فإن توالى هذه التداعيات يتطلب هذه الديناميكا المصرية وحراكها الفاعل، وفى ضوء احتمالية إضعاف الحركة وشل حركتها، وهنا العودة للحلقة المفرغة نفسها، حتى إن جاءت أبرز المكاسب فى إعادة القضية إلى دائرة الضوء، لكنها أيضا أعيدت عبر آليات لم تجد إعادتها على النحو المرجو أو حتى الفعال. على أى حال فإن تحريك القضية بعد سنوات من الجمود كان يقتضى مثل هذه المقاربة.

تداعيات التصعيد العسكرى:

مع الأخذ فى الحسبان المعطيات التقليدية التى أثيرت، على خلفية الفشل الاستخباراتى الذى وُصمت به إسرائيل فى الآونة الأخيرة، أو حتى إزالة حاجز الهيبة لكيان الاحتلال، فإن ما يجب وضعه فى الحسبان والبناء عليه لاحقا، هو أن أى إخفاق أو تراجع لسلطات الاحتلال، قد يرمم ويعالج مع الوقت، ذلك أن إسرائيل لديها وحدها من القوى العسكرية والنووية ما يصنفها، وعلى نحو يضمن ترسيخها بالشرق، ويكفى القدرات والتقنيات التسليحية وأنظمة الدفاع المتطورة، أضف إلى ذلك الدعم الغربى والأمريكى تحديدا، فمنذ بدء الهجمة، وما زالت الولايات المتحدة تواصل دعمها  من خلال حاملة الطائرات يو. إس. إس. جيرالد أر فورد وآلاف الجنود الأمريكيين، بالإضافة إلى حاملة ثانية مقرر لها الانتظار لدى مياه المتوسط.

والقصد هنا أن استمرار التصعيد العسكرى، قد ينذر بإعادة كرة اللهب إلى المنطقة بأكملها، وفى ظل تغيرات إقليمية ودولية حادة، ومع تلويح حزب الله بسيناريو مشابه لـ 2006، أو حتى تصريحات وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان بالدخول على خط الأزمة؛ حيث أكد عقب لقاء جمعه بحسن نصرالله فى بيروت ضرورة توقف إسرائيل عن جرائم الحرب التى ترتكبها، مضيفا بامتلاك حزب الله عدة سيناريوهات تصعيدية.

وربما برزت استراتيجية المشهد هذه المرة، فى هجمة حماس التى لا تعد نوعية بالمفهوم العسكرى والأكاديمى المتعارف عليه، لكن خدَّم عليها عنصرا المفاجأة وخلفيات وطبيعة التوقيت، وإن اتسمت بعمق واتساع الأهداف مع استمرارية المواجهة مع قوات الاحتلال، واستهداف جنوده ليس فقط فى الغلاف، لكن بعدد من مناطق الاستيطان داخل الضفة أيضا، أضف إلى ذلك حجم الأنفاق بالقطاع مع المناورات التى أجرتها خلال السنوات الثلاث الماضية، وهو ما انعكس على أداء الحركة فى الهجمة الأخيرة.

فى المقابل تمثلت الاستراتيجية نفسها هنا فى استمرارية الحراك الدراماتيكى السريع بين الجانبين، وردود إسرائيل التى ما زالت وعقب أكثر من نحو أسبوع على عملية الأقصى تواصل حربها على قطاع غزة، وشن الغارات، وكما أشرنا سابقا فإن الأمر راق لسلطات الاحتلال، وربما كانت تنتظره منذ أمد تسهيلا لتمرير أبرز عقائدها الاستراتيجية والتاريخية، والمتعلقة بتصفية وإبادة القطاع، بدليل كارثية التداعيات مع التجهيزات المتقنة، وإسراع بنيامين نتياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى بإعلان حالة الحرب دون هوادة، ومن ثم التصديق من قبل الأجهزة الإسرائيلية المعنية، وأبرزها المجلس الإسرائيلى الوزارى الأمنى، واستدعاء أكثر من 300 ألف جندى من جنودها الاحتياط من مختلف دول العالم، والأكثر فعالية حكومة الطوارئ واستيعاب المعارضة، وهو ما برز فى دعوة نتنياهو لزعيم المعارضة جانتس من أجل الانضمام إلى حكومة موسعة.

سيناريوهات التعاطى:

لا شك فى أن قمة السلام التى دعت إليها القاهرة، ومقرر انعقادها بمشاركة معظم القوى الدولية والإقليمية، لا تفهم بمعزل عن سيناريوهات التعاطى الفعال مع الصراع المعقد.وعلى الرغم من إعلان العديد من القوى الدولية والإقليمية، لتوجهاتها تجاه هذه التطورات الأخيرة، فإن الضبابية ما زالت سيدة الموقف،ومن ثم وجوب استحضار قناعة الامتثال للأمر الواقع، مع الإيقان بقدرة الأمة العربية فى مجمل دولها، على الضغط وتحريك الرأى العام العالمى، لا سيما فى ضوء المصالح المشتركة التى انطلقت فى الآونة الأخيرة، وربما الأفضل البدء فى صياغة اتفاقية للسلام يرعاها الفاعلون من الدول العربية مع القوى الدولية الأخرى، على أن تكون أبرز ثوابتها، حل الدولتين مع إقامة فلسطين كدولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، تفعيلا لقرار مجلس الأمن 242، وهو ما يتفق ودعوة مصر للقمة المرتقبة.