خلال حضورى الندوة التثقيفية الـ 38 التى أقامتها الشئون المعنوية بالقوات المسلحة مساء الأربعاء الماضى احتفالا بالذكرى الـ 50 لنصر أكتوبر المجيد، وقبل بدء الفعاليات جلست فى مقعدى بعد أن خرج صوت المذيع مطالبا الحضور بالجلوس فى المقاعد نظرا لقرب بدء الفعاليات.
أثناء جلوسى قبل بدء الفعاليات استرجعت شريطا طويلا من الذكريات الرائعة والمؤلمة معا، التى تشمل الكثير من الانتصارات وأيضا الانكسارات طوال تاريخنا المصرى والعربى الطويل والممتد.
شعرت بالفخر والعزة لتاريخ مصر العسكرى الناصع البياض المملوء بالعزة والفخر على مدار التاريخ، واسترجعت الدور المصرى العظيم فى دحر الأعداء على مر الزمان، وكسر شوكتهم، ورد الاعتبار للعالمين العربى والإسلامى.
حدث ذلك فى المعارك ضد الصليبيين الغزاة، حينما أسس صلاح الدين دولة قوية فى مصر امتدت إلى الحجاز والشام، ونجح فى هزيمة الصليبيين فى «حطين» وكسر شوكتهم، وإخراجهم من بيت المقدس، وتحرير معظم الأراضى التى احتلها الصليبيون فى عام 1187 ميلادية.
تذكرت أيضا الدور المصرى العظيم فى هزيمة المغول وكسر شوكتهم حينما استطاعت السلطنة المصرية بقيادة سيف الدين قطز إلحاق هزيمة قاسية بجيش المغول بعد انتكاسات مريرة ألحقها المغول بدول العالم العربى، وسقوط الخلافة العباسية، حتى نجحت السلطنة المصرية فى معركة عين جالوت فى 25 رمضان الموافق 3 سبتمبر 1260 ميلادية فى إلحاق هزيمة كبرى بجيش المغول وإبادة معظمه، لتعيد مصر رسم خريطة موازين القوى العظمى المتصارعة فى ذلك الزمان.
بين المعركتين تطل معركة المنصورة الشهيرة عام 1250 ميلادية التى نجح فيها الشعب المصرى فى إلحاق هزيمة قاسية بالقوات الصليبية بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع ووقوع الملك الفرنسى أسيرا فى قبضة أهالى المنصورة ليكون ذلك بداية دحر القوات الصليبية التى اكتملت حلقاتها بمعركة حطين الشهيرة.
تذكرت أيضا محمد على مؤسس مصر الحديثة ودوره البارز فى إقامة دولة مصرية عصرية حديثة ممتدة خلال فترة حكمه الممتد مابين عامى 1805 إلى 1848م والتى أصبح فيها واليا على مصر والسودان، والشام والحجاز، حتى جزر كريت ونجح فى العديد من الفتوحات التى أقام بها دولة قوية تنافس الخلافة العثمانية وتهددها فى آن واحد.
بعد فترة حكم محمد على وانتصاراته وفتوحاته، تعرضت مصر لمؤامرة كبرى لإضعافها والنيل منها حتى لا تتكرر ظاهرة محمد على جديدة، وقد تحالف فى تلك المؤامرة كل الفرقاء لكسر الإرادة المصرية وإضعافها.
بعدها دخلت مصر، ومعها العالم العربى فى نفق طويل ومظلم من الهزائم والانكسارات بدأت بقدوم قوات الاحتلال الأجنبى وتقسيم العالم العربى بين قوى الاحتلال فيما أطلق عليه تقسيم النفوذ بين القوتين العظميين حينذاك (إنجلترا، وفرنسا) فاستولت إنجلترا على منطقة الخليج العربى واليمن، ومصر، والصومال، والسودان والأردن، وفلسطين، فى حين استولت فرنسا على الجزائر وتونس، والشام، وجيبوتى إلى جوار ذلك احتلت إيطاليا ليبيا، واحتلت إسبانيا المملكة المغربية.
هكذا حينما ضعفت مصر ضربت الهزائم باقى أرجاء العالم العربى، وانكسرت الراية العربية حتى جاء زلزال 1948 ليستكمل حلقات الاحتلال والحصار وتوزيع الغنائم، وإعطاء من لا يملك لمن لا يستحق المتمثل فى وعد بلفور المشئوم الذى منح اليهود الحق فى إقامة وطن قومى لهم فى فلسطين عام 1917، وقامت الأمم المتحدة الخاضعة للنفوذ الغربى بالتصويت على قرار التقسيم فى 29 نوفمبر عام 1947، وانتهى الأمر بإعلان دولة إسرائيل بعد هزيمة الجيوش العربية عام 1948.
كانت هزيمة 1948 هى الشرارة التى أطلقت روح الثورات العربية التى بدأت فى مصر عام 1952 وأنهت عصر الاحتلال الأجنبى للعالم العربى، إلا أن الدول الاستعمارية لم تيأس وحاولت إعادة صيغة الاحتلال العسكرى مرة أخرى فى 1956 من خلال العدوان الثلاثى الشهير الذى انكسر تحت إرادة المصريين، لكن المؤامرات ظلت مستمرة حتى وقعت هزيمة 1967 التى كانت بمثابة زلزال عاصف ضرب العالم العربى فى مقتل بعد أن عاد الاحتلال الأجنبى البغيض مرة أخرى إلى الأراضى العربية، والأخطر أنه كان محاولة لبث روح اليأس والإحباط فى العالم العربى، وتأكيد موت الجسد العربى من جديد وعدم قدرته على العودة إلى الحياة مرة أخرى.
مثلما حدث فى المنصورة، وحطين، وعين جالوت، وبعدها مثلما فعل محمد على حينما أقام إمبراطوريته الشهيرة والممتدة من أعماق إفريقيا حتى كريت، عاد المارد المصرى يستجمع قواه مرة أخرى رغم مرارة الهزيمة وقسوة الأوجاع.
لم يستسلم الجيش المصرى لروح اليأس والإحباط والظلام الدامس الذى حول النهار إلى ظلام.
انتفضت مصر وانتفض معها كل العرب من المحيط إلى الخليج كما فعلت فى كل فترات الانتصار والازدهار.
اجتمع العرب على قلب رجل واحد حول مقولة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر: «إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة».
كان مؤتمر القمة العربية الذى عقد فى 29 أغسطس 1967 بالعاصمة السودانية «الخرطوم» هو البداية حيث قرر المؤتمر التضامن العربى الكامل مع دول المواجهة وتقديم الدعم الاقتصادى لمصر والأردن وتأكيد وحدة المواقف العربية، ووافق المؤتمر على ضرورة توحيد جميع الجهود للقضاء على آثار العدوان الإسرائيلى على أساس أن الأراضى المحتلة هى أراض عربية، وأن عبء استعادة هذه الأراضى يقع على عاتق جميع الدول العربية.
تحركت الدولة المصرية لإعادة بناء القوات المسلحة، وبدأت على الفور حرب استنزاف طويلة، تكبد فيها العدو الإسرائيلى خسائر هائلة كما حدث فى «رأس العش» وتدمير إيلات وغيرهما.
استكمل الزعيم الراحل أنور السادات بطل الحرب والسلام مسيرة إعادة بناء القوات المسلحة المصرية حتى أصبح الجيش المصرى ومعه الجيش السورى جاهزين للمعركة الفاصلة فى 6 أكتوبر 1973.
فى حرب أكتوبر منذ 50 عاما أعاد الجيش المصرى زمن انتصارات محمد على وقبله انتصارات حطين، وعين جالوت والمنصورة ليؤكد أن الدولة المصرية لا تموت وأنها قادرة على العودة من جديد لتحرير الأرض والعرض وإعادة رفع الراية العربية، وتحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر، لتعود الروح من جديد إلى الجسد العربى من المحيط إلى الخليج فى لحظة تاريخية متجددة فى التاريخ القديم والحديث.
بعد ٥٠ عاما يخرج الثعلب العجوز هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، وهو اليهودى الأمريكى المخلص لدولة إسرائيل، ويدلى بحديث إلى صحيفة معاريف الإسرائيلية فى الشهر الماضى ليؤكد فيه عبقرية الجيش المصرى، وأنه نجح فى إلحاق «هزيمة مذلة» بالجانب الإسرائيلى مما جعل قادة إسرائيل يصرخون بأعلى صوتهم مطالبين أمريكا بالتدخل لإنقاذ إسرائيل.
يبرر كيسنجر التدخل الأمريكى السافر بأنه كان محاولة لعدم انتصار الأسلحة السوفيتية، مشيرا إلى قيامه بإقناع الرئيس الأمريكى نيكسون بتجهيز قافلة جوية مدنية لمد إسرائيل بالمعدات العسكرية اللازمة لوقف تقدم الجيش المصرى.
يعترف كيسنجر فى حديثه إلى صحيفة معاريف الإسرائيلية بفشل الجسر الجوى المدنى ليتحول الأمر إلى جسر جوى عسكرى كامل والذى نجح فى نقل جميع المعدات العسكرية اللازمة التى تحتاجها إسرائيل لإنقاذ نفسها.
رغم كل ذلك استنجدت إسرائيل بأمريكا وطلبت وقف إطلاق النار حتى لا يتحقق المزيد من المكاسب للقوات المصرية على الأرض.
تلك هى بعض أسرار العبقرية المصرية التى أكدها حقائق التاريخ الممتد قديما وحديثا، والتى أكد عليها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته للأمتين المصرية والعربية فى الذكرى الـ٥٠ حينما قال «إن الشعب المصرى لايقبل الهزيمة» مشيرا إلى أن هذا النصر الفريد يستوجب الوقوف أمامه لعقود وعقود لنتعلم ونتدبر من جيل أكتوبر العظيم الذى أثبت أن لمصر رجالا فى كل عصر يعرفون قدرها العظيم وأنعهم قادرون دائما بإذن الله على صون الوطن ورفعته.