فى كتابه "أكتوبر 73.. السلاح والسياسة" يقول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل -رحمه الله- إن الرئيس الراحل محمد أنور السادات -طيب الله ثراه- بينما هو فى بيته بالجيزة ينتظر بقلق عميق مرور الساعات والدقائق، راح يضرب كفا بكف ويستمطر اللعنات والدعوات ضد آباء وأمهات كثيرين فى موسكو وفى القاهرة عندما أبلغ أن الاتحاد السوفيتى قام بإرسال مجموعة من إحدى عشرة طائرة ركاب ضخمة من طائرات شركة "إيرفلوت" إلى مطار القاهرة ومطار دمشق لإخلاء عائلات المستشارين السوفيت الذين كانوا ما زالوا يعملون فى مصر وسوريا بعد أن أبلغه الرئيس السورى "حافظ الأسد" بواسطة السفير السوفيتى فى دمشق "محيى الدينوف" بموعد الحرب – طبقا للاتفاق الذى كان بينه وبين الرئيس السادات.
كما أبلغ الرئيس السادات أيضا أن وزير الطيران أصدر أوامره إلى الطائرات المسافرة أن تقضى لياليها فى عواصم الدول الأجنبية التى يتصادف وجودها فيها. ولم يهدأ السادات ويعود إليه الإطمئنان إلا بعد أن اتصل به الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس أركان حرب القوات المسلحة وقتها، وأبلغه "بالرمز" المتفق عليه أن العدو لم ينتبه لشىء، ولم يتخذ أى رد فعل، فيلتفت الرئيس السادات إلى الأستاذ محمد حسنين هيكل الذى كان جالسا معه فى غرفة مكتبه الصغير فى بيته ويبدى استغرابه، قائلا:"الله..؟ هم جرى لهم إيه؟ لسه نايمين فى العسل باين عليهم؟ واللا راقدين لى فى الذرة!!"
إن كلتا الحادثتين كانتا كفيلتين بكشف نية الهجوم وقيام إسرائيل على الفور بتوجيه ضربة جوية لإجهاض الهجوم، ورفع درجة استعداد قواتها وإعلان التعبئة العامة والتصدى لقواتنا ومنعها من تنفيذ العملية الهجومية من أساسها.
فما الذى حدث من جانب قواتنا ومنع إسرائيل من ذلك؟
إن تفسير الإسرائيليين لعملية إخلاء الروس لعائلاتهم لم يبعد أكثر من أنه "حلقة من حلقات سوء التفاهم بين العرب وأصدقائهم الروس كما حدث فى مصر فى العام السابق عندما أنهت مصر مهمة المستشارين السوفيت"، ولعل مفهوما استراتيجيا رسخ فى ذهن القادة الإسرائيليين "بأن مصر لن تحارب لأنها تعرف حجم تفوق الجيش الإسرائيلى، ثم إن الرئيس السادات لن يصدر قرار الحرب لأنه يعرف مخاطره على رئاسته الشخصية".
أما الحادثة الثانية الخاصة بتغيير توقيتات وأماكن مبيت طائرات شركة مصر للطيران، الذى كان من السهل رصده دوليا وتفسيره والذى يساعد على كشف نية الهجوم وتوقيته، فقد تم تداركها فى الوقت المناسب، وطلب الفريق أول أحمد إسماعيل وزير الحربية من المهندس أحمد نوح وزير الطيران المدنى إلغاء تلك التعليمات.
وعلى الجبهة السورية تعرضت خطة الخداع لاختبار صعب، نتيجة حدوث معركة جوية بين الطيران الإسرائيلى والطيران السورى يوم 13 سبتمبر 1973 الأمر الذى ترتب عليه زيادة توتر الموقف على هذا الاتجاه، ولكن رد الفعل السورى وقتها اتسم بالحكمة ولم تندفع القيادة السياسية أو العسكرية للرد أو الانتقام، وقررت عدم إعطاء الفرصة لإسرائيل لتصعيد الموقف، وقد ساعد هذا التوتر على تسهيل عملية حشد القوات السورية فى الجبهة وفسرته المخابرات الإسرائيلية على أنه عمل دفاعى استعدادا لقيام سوريا بعمل انتقامى.
لم نكن نحن وحدنا الذين نخطط للقيام بالهجوم لتحرير أرضنا، بل كانت إسرائيل على الجانب الآخر تخطط لاحتلال مزيد من الأراضى العربية كما يذكر ذلك فى مذكراته "ديفيد آل عازر" رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلى وقتها التى نشرت بعد وفاته، ويقول فيها:"وضع "ديان" وزير الدفاع الإسرائيلى خطة عسكرية رسمها بنفسه عام 1973 أطلق عليها اسم "الحزام الأسود" وكانت تتضمن:
1- ضم جنوب لبنان كله إلى إسرائيل.
2- ضم أجزاء أخرى من سوريا.
3- إنشاء خط حصين يشبه خط بارليف فى غور الأردن لحماية المستعمرات.
4- تحويل سيناء إلى مركز تجارب للمفاعلات النووية.
وكان ديان يحلم بأن يحقق حزامه الأسود حول إسرائيل هدفين رئيسيين:
1- تأمين إسرائيل إلى الأبد من أى عمليات عسكرية عربية.
2- جعل زمام المبادرة فى القتال فى أيدى إسرائيل فيما لو أرادت ضم أراضعربية أخرى.
ويقول أليعازر: إن ديان كان يحلم بأن يوضع اسمه على هذا الحزام فيسمى "حزام ديان" أسوة بخط بارليف الحصين الذى أطلق عليه اسم رئيس الأركان الأسبق "حاييم بارليف". لقد شرح ديان خطته لإنشاء هذا الحزام بتوقيتاتها وأهدافها على مجلس الوزراء المصغر برئاسة "جولدا مائير" يوم الخامس من أكتوبرعام 1973، وكانت الخطة تقضى بتوجيه ضربة قوية للجنوب اللبنانى وفى التوقيت نفسهتوجيه ضربة أخرى للقوات السورية، وقبل أن تحاول مصر التدخل يوجه لها ضربة قوية لتدمير صواريخ الدفاع الجوى فى منطقة القناة وكذا ضد المطارات المصرية، وذلك خلال الفترة من 22 إلى 25 أكتوبر 1973، بعد الانتهاء من عيدى الغفران والمظلات وقبل إجراء انتخابات الكنسيت فى الثامن والعشرين من أكتوبر.
وقتها وبعد عرض ديان وفى ضوء آخر المعلومات على الجبهات الشمالية والجنوبية التى عرض فيها مدير المخابرات "إلياهو زاعيرا" تقديره للموقف وتحسبه من وجود استعدادات للقيام بعمل هجومى ضد إسرائيل.
سألت "مائير" "ديان" عن رأيه فأجاب بعد تفكير:"سأجعل ضربتى مبكرة كثيرا، ستكون صباح الثامن من أكتوبر"، ووافقت مائير على تنفيذ الخطة فى ذلك التوقيت.
إن القوات المسلحة المصرية والسورية كان عليهما أن يخوضا غمار حرب ليس لهما فيها أى قدر من التفوق العددى أو النوعى على القوات الإسرائيلية التى تفوقهما كما ونوعا، ويكفى أن نذكر على سبيل المثال وليس الحصر أن إجمالى أعداد الطائرات المقاتلة فى مصر وسوريا لم يكن يزيد على خمسمائة طائرة من طرازات قديمة أحدثها الطائرة الميج 21، ولا يتوافر لديها أكثر من طيار واحد لكل طائرة فى مواجهة القوات الجوية الإسرائيلية التى تمتلك أكثر من خمسمائة طائرة قتال من أحدث الطرازات، وفى مقدمتها الطائرة الأمريكية الصنع من طراز فانتوم التى تتفوق على طائراتنا من طراز ميج21 أربع مرات، وفى الوقت نفسه يتوافر لدى إسرائيل من اثنين إلى ثلاثة طيارين لكل طائرة، ولم يكن الحال يختلف كثيرا عن أسلحة القوات البرية من دبابات ومركبات ومدفعيات وصواريخ، ثم إن إسرائيل تتوافر لديها كل الشروط التى تضمن لها التفوق فى التسليح بدءًا من المقارنة النوعية إلى الملائمة لمسرح العمليات وللمقاتل المستخدم لها، والأهم فى كل الشروط هو ضمان الإمداد بكل المطالب من أسلحة وذخائر واستعواض الخسائر فى أثناء سير العمليات العسكرية سواء من الولايات المتحدة الأمريكية المورد الرئيسى للأسلحة لها أو باقى الدول الأوروبية، والأخطر من كل ذلك هو امتلاك إسرائيل أخطر أسلحة التدمير الشامل وهى القنابل النووية، كان ذلك كله طبقا للحسابات والمقارنات كفيلا بأن يجعل متخذ القرار يفكر أكثر من مرة، ويمتنع عن خوض تلك الحرب التى تبدوانتحارية، ولكن حروب التحرير لها حسابات أخرى وتضحيات لا تفكير فى تأخيرها فحسابتها تؤكد أن:
"ساعات الحياة بعيش عز... أجل من السنين بعيش ذلة"
كان علينا أن ندخل الحرب فى ظروف صعبة ومعقدة تحقق هدفا لا يمكن التفريط فيه وهو تحرير الأرض، وكان ذلك يقتضى هدم "نظرية الأمن الإسرائيلى" التى نسجتها إسرائيل من خيالها لتكون ستارا لتحقيق أهدافها التوسعية، بل تأكيد ما قاله نبى إسرائيل المسلح "ديفيد بن جوريون" أول رئيس لوزرائها من أن "حدود إسرائيل حيث تقف أقدام جنودها" بل إثبات ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلى "موشى ديان" قبل الحرب بأقل من شهرين "إن السلام الذى تريده إسرائيل قد تحقق عام1967، وإن السلام الرسمى مع العرب يضر بالحالة التى تحرص إسرائيل عليها، وهى تثبيت الأمر الواقع الذى فرضته تلك الحرب، وإن حدود إسرائيل تتغير تلقائيا حسب طبيعة نمو إسرائيل وتوسعها،وكان علينا أن نخوض حربا يمتلك فيها العدو التفوق العسكرى، فى الوقت الذى تحدد فيه مبادئ الحرب وقوانين القتال شروطا لا ترحم للمهاجم لكى يحرز النصر وهى ضرورة الحصول على التفوق على العدو المدافع، ولم يكن لدينا خيار عن إهدار التفوق العسكرى للعدو على الأقل فى المرحلة الافتتاحية للحرب، خاصة أنه تمادى فى العمل على اتخاذ كل طرق الردع التى تمنعنا من التفكير فى القيام بأى أعمال هجومية ضده وركز تماما على عامل "الحرمان من استخدام القوة" من جانبنا باتخاذ إجراءات وإنشاء تحصينات تكفى لإشاعة حالة اليأس لدى متخذ القرار مثل خط بارليف المنيع الذى يعد أقوى خط دفاعى فى التاريخ، فقد تفوق على سابقيه من خطوط مثل قوة التجريدة البريطانية، وخط زيجفريد الألمانى،وخط ماجينو الفرنسى، وكثرت حوله التعليقات التى توصى باستحالة التغلب عليه مثل ما قاله الخبراء الغربيون من ضرورة امتلاك مصر أسلحة نووية لاستخدامها ضد هذا الخط والتغلب عليه، وقال عنه الجنرال "حاييم بارليف" الذى سُمى الخط باسمه "لقد بنينا هذا الخط بتكنولوجيا تسبق المصريين بخمسين عاما وسوف نحافظ على هذا الفاصل".
أما الخبراء الروس الذين يمدوننا بعلمهم وأسلحتهم فقد كان لهم رأى آخر ليس أقل تعجيزا وهو "أن التغلب على هذا المانع ليس بالأمر المحال ولكن يجب أن نضع فى اعتبارنا أن عملية التغلب عليه وعبور القناة سوف تكلفنا من الخسائر ما لا يقل عن 50%، وهذا يعنى أن قوة العبور المكونة من جيشين يضُمان خمس فرق، بالإضافة إلى قوة قطاع بورسعيد الذين يبلغ تعدادهم نحو(مائة ألف جندى) سوف نخسر نصفها أى نحوخمسين ألف جندى فى علمية العبور.
كنا ندرك أن نجاح العبور يحتاج حتما إلى تشغيل معديات، وأن هذه المعديات سوف تتحول إلى كبارى،وهذا يتطلب شق فتحات فى الساتر الترابى المرتفع على الضفة الشرقية للقناة، وكل فتحة كوبرى تتطلب إزاحة 1500 متر مكعب من الرمال تستغرق عدة ساعات، وأننا سوف نسابق الزمن لتجهيز الكبارى لعبور الدبابات إلى الضفة الشرقية للقناة، وأن هذا سوف يستغرق وقتا لا يقل عن ثمانى ساعات حتى نتمكن من دفع تلك الدبابات والأسلحة الثقيلة، كل ذلك تحت ضغط العدو واستماتته فى محاولة منع عملية العبور بكل الأسلحة والوسائل المتيسرة لديه.
لم يكن لدينا شك فى قدرة المخابرات الإسرائيلية وكفاءتها وخاصة فى تعاونها مع أجهزة المخابرات الأمريكية للحصول على أدق المعلومات عما يدور فى الوطن العربى خاصة دول المواجهة مع إسرائيل، وأن إسرائيل بمجرد اكتشافها لنيتنا الهجومية سوف تبادر بتوجيه ضربة إجهاض وقائية ضد قواتنا بهدف إحباط عملية الهجوم، كما ستبادر بإعلان التعبئة العامة واستدعاء الاحتياطى الذى لا يحتاج إلى أكثر من يومين للتدخل فى أعمال القتال على الجبهات.
كل ذلك كان يحتم على صانعى القرار أن يفكروا خارج الصندوق لتقديم أفضل الحلول لتوفير أسباب النصر على العدو.
إن مبادئ الحرب لم تخط بالأقلام داخل المكاتب والقاعات، ولكنها خطت فى الصخر بدماء ضحايا بالملايين، فهى نتاج لخبرات متراكمة عبر العصور دفعت البشرية فيها أثمانا لا تقدر بمال. لذا، كان الملاذ الأوفر حظا لصانعى القرار هو تطبيق مبادئ الحرب والتشبث بها. فهى ثابتة لا تتغير مهما تغيرت الوسائل والمعدات، وكان العمل على تطبيق أهم وأخطر مبدأ فيها يحقق فرض الإرادة على العدو، ويجعل لنا اليد الطولى والسبق فى اتخاذ القرار، وإجباره على أن تكون أعماله وتصرفاته ردود أفعال لكل ما نقوم به من أفعال وهو المفاجأة التى تؤدى من ثمإلى امتلاك المبادأة، والعمل على المحافظة عليها طوال الحرب، أو لأكبر فترة ممكنة على أقل تقدير، ولما كانت المفاجأة عبارة عن مربع ذى أربعة أضلاع هى:
1- التوقيت غير المتوقع.
2- المكان غير المتوقع.
3- السلاح غير المتوقع.
4- الأسلوب غير المتوقع.
والمطلوب هو مفاجأة العدو فى كل هذه العناصر أو بعضها، أو على الأقل فى عنصر واحد منها، حتى نحرم العدو من الاستفادة من فترة إنذار تُمكنه من تعبئة قواته وتحرمه من توجيه ضربة وقائية، مع توفير أفضل الظروف لنجاح عملية العبور، وكذلك الأمر فى الجولان على الجبهة السورية وبأقل خسائر ممكنة.
وبدأ حصر المشكلات التكتيكية للتغلب عليها، بداية من انكشاف كل أنشطة قواتنا على جبهة القناة التى لا تفصلنا عن العدو إلا نحو200 متر هى عرض القناة، كما أن القوات السورية تحت الملاحظة المستمرة من جانب العدو الذى يسيطر على هضبة الجولان، ويراقب كل مناطق الحشد والمناورة للقوات، ويسهل عليه اكتشاف أى تغيير فى حجمها وتجميعها وتوقع نيتها.
إن إخفاء العناصر الأربعة للمفاجأة سواء كلها أو حتى بعض منها لم يكن بالأمر الهين ولا الميسور، ولكنه أيضا لم يكن مستحيلا وهو ما فكر فيه صانعو القرار، حين قرروا إضافة ضلع خامس إلى مربع المفاجأة وهو إخفاء النية وتضليل العدو، فلنجعل العدو يرى كل العناصر الأربعة للمفاجأة، ولكن سوف نجعله لا يصدق أن لدينا أى نية للهجوم.
وكانت خطة الخداع التى وضعها، بمنتهى المهارة والدقة، عدد محدود جدا من خيرة الضباط فى هيئة عمليات القوات المسلحة وكتبت بخط اليد، تماما مثل خطة العمليات، واشتملت على أعمال وإجراءات كثيرة ومتنوعة فى مجالات مختلفة ومحددة لرسم صور متكاملة أمام العدو لقواتنا على كلتا الجبهتين المصرية والسورية يستشف منها العدو ما يشاء من معلومات، عدا أن قواتنا لديها النية فى الهجوم وتحرير الأرض.
ودارت عجلة التخطيط وبدأت بتخطيط مشروع تدريبى مشترك لكل أفرع القوات المسلحة والتشكيلات التعبوية (الجيوش والمناطق العسكرية)، وتحت ستر هذا المشروع الذى تديره القيادة العامة للقوات المسلحة تتحول القوات تحت التدريب فى المشروع إلى العمليات الحقيقية طبقا لخطة العمليات.
وفعلا صدرت التعليمات التدريبية بتنفيذ المشروع خلال الفترة من واحد إلى سبعة أكتوبر 1973، تماما كتلك التعليمات السابقة فى المشروعات المثيلة، وقد سبق لقواتنا القيام بمثل هذا التدريب فى النصف الأول من عام 1973، واضطرت إسرائيل وقتها إلى إعلان التعبئة الجزئية ووضع قواتها فى حالة استعداد عالية، ما كلفها الملايين من الدولارات. وقد أفادت التقارير فيما بعد أن تحليل المخابرات الإسرائيلية لهذا التدريب كان يؤكد أنه مجرد مناورة عادية لتدريب القوات.
أما عملية تعبئة القوات الاحتياطية واستدعاء الضباط الاحتياط والجنود المسرَّحين فإنه يعد مشكلة فى حد ذاتها خاصة إذا كانت عملية الاستدعاء سوف تتم لعدد كبير لا يمكن إخفاؤه، وإن هؤلاء المستدعين من كل بيت ومن كل شارع وحارة، سوف تعج بهم وسائل المواصلات المختلفة، وسوف يكونون حديث العالم قبل أن يكونوا حديث مصر كلها، وتصبح معلومة تُقدم للعدو على صينية من ذهب دون عناء.لذلك، لم تبذل القيادة جهدا فى إخفائها وتركتها تبدوا كمثيلاتها من مرات الاستدعاء السنوية بغرض التدريب أو الاشتراك فى المشروعات والمناورات التدريبية. وإمعانا فى الخداع تم تسريح عدة آلاف من هذه القوات قبل الحرب بأيام قليلة بحجة انتهاء المناورة التى كانوا مستدعين للاشتراك فيها، وامتلأت بهم محطات القطارات والحافلات على مرأى ومسمع من الخارج قبل الداخل، ولكن ما لم يره ولا يسمعه أحد أن العناصر المستدعاة من قوات الاحتياط الذين تحتاج إليهم التشكيلات والواحدات ظلوا فى أماكنهم وتسلموا مهامهم القتالية وبقوا فى أعلى درجات الاستعداد.
كذلك لم يكن من الصعب إخفاء عملية نقل أحد اللواءات من مدينة الإسكندرية للانضمام إلى التجميع القتالى لقوات الجبهة، فتم ذلك بواسطة قطارات السكك الحديد بكل أفراده ومعداته، ولم تنس القيادة أن تحجز لهذا اللواء قطارا لإعادته إلى الإسكندرية بداية من يوم 7 أكتوبر بعد انتهاء المناورة التى اشترك فيها.
ولم تخالف وزارة الحربية نهجها الذى تحافظ عليه فى تسيير رحلات عمرة إلى الحرمين الشريفين سنويا، بل حرصت على فتح باب العمرة للضباط والصف فى شهر رمضان من هذا العام، وتم نشر هذا الإعلان فى الصحف، وفعلا تم تلقى الطلبات من الضباط والصف الراغبين فى ذلك، ولم ينتبه أحد أن موعد أول رحلة عمرة سيكون بعد يوم العاشر من رمضان. وتشاء إرادة الله أن تعلى من خطتنا دون عناء أو ترتيب فيطلب وزير دفاع دولة رومانيا زيارة مصر، وتحدد لزيارته يوم الثامن من أكتوبر بطريقة طبيعية كما هو متبع فى مثل هذه الحالات، وكان من المناسب إعلان هذه الزيارة فى وسائل الإعلام، وإخطار الجهات التى سوف تشترك فى الزيارة، وتقوم باستقباله ووضع لها البرنامج كاملا، وكان طبيعيا أن تقوم رومانيا بإلغائها بعد نشوب الحرب.
عمل آخر كان يستدعى التحرك مبكرا خارج الحدود المصرية ولا يحتمل التأخير، هو دفع عدد من القطع البحرية إلى منطقة مضيق باب المندب قبل يوم السادس من أكتوبر لكى تتعرض لخطوط مواصلات العدو، ولذلك تم الاتصال مبكرا بإحدى الدول الآسيوية الصديقة لقبول استقبال هذه القطع البحرية للإصلاح فى ورشتها، وبعد أن تم الموافقة تم الاتصال بكل من السودان واليمن الجنوبية للحصول على موافقتهما على قيام مدمراتنا بزيارة ميناءى بورسودان وعدن زيارة ودية، وتم وضع برنامج الرحلة والزيارات بحيث توجد المدمرات فى مضيق باب المندب صباح يوم السادس من أكتوبر لتنفيذ مهمتها. كل ذلك تم ولم يعلم قائد هذه المدمرات بمهمته إلا عندما فتح مظروف "سرى للغاية" -كان يحمله معه- وفى التوقيت المحدد كان المضيق تحت سيطرة قواتنا، ولم يكن أمام إسرائيل إلا أن تقتنع أن تمسكها بشرم الشيخ لن يوفر الحماية لقطعها البحرية، لا فى خليج العقبة ولا فى مضايق تيران.
أما أخطر وأهم عمليات خداع حدثت فهى تلك التى قامت بها قواتنا الجوية لإجراء الفتح الاستراتيجى وهو ما كان ضروريا ولازما لإعادة انتشار وتوزيع الطائرات فى أماكن تسمح لها بالطيران من أماكنها قبل تنفيذ الضربة والوصول إلى جميع الأهداف المعادية فى توقيت واحد لا لبس فيه.
وكان اكتشاف العدو لهذه العملية سوف يؤكد له بنسبة لا تقل عن 100% أنها سوف تقوم بتوجيه ضربة جوية للعدو خلال ساعات معدودة، ومن ثم ليس أمامه إلا القيام بتوجيه ضربة مسبقة لإحباط عملياتنا الهجومية.
وقد نفذت قواتنا الجوية بكل رجالها وأطقمها عملية فتح استراتيجى غاية فى الدقة والسرية ولم يكتشفها العدو لا فى إسرائيل ولا فى الاستطلاع الأمريكى الذى يغطى الكرة الأرضية على مدى الساعة، وكل ما أستطيع أن أبوح به عنها أنها كانت أقرب إلى ألاعيب شيحة -البسيطة جدا، والمعقدة جدا، والذكية جدا جدا.
أما كاتب هذه السطور.. فلا أنسى ولن أنسى، أننى فى أثناء وجودى داخل كابينة الهليوكبتر مى 8 التى تنقلنا إلى خلف خطوط العدو فى عمق سيناء، وكانت الشمس وقتها تخالف سيرنا مسرعة إلى الغروب، ونحن نحلق فوق مياه خليج السويس يوم السادس من أكتوبر، وبينما قائد الطائرة وأنا إلى جواره ندقق معا النظر فى خط السير مال على أذنى الطيار المساعد، وكان فى نفس رتبتى ملازما أول، وسألنى:متى ستنتهى هذه المناورة؟ فلم أستطع أن أرد عليه إلا بابتسامة -ربما تكون هى الإجابة عن قائد الطائرة اللواء طيار صلاح عارف الآن وكان وقتها برتبة النقيب، الذى لم ينس أننى شددت على يده قبل أن أهبط من الهليكوبتر وأنا أقول له :"ترجعوا بألف سلامة".
والحمد لله، عادوا بألف سلامة، وعدت من مهمتى بعد 180 يوما، ولم ألقه إلا بعد أكثر من 40 عاما لنقول لبعضنا بعضا "حمدا لله على السلامة".