على الرغم من مرور نصف قرن على انتصار أكتوبر المجيد، فإن ذكراه ستظل خالدة فى أذهان المصريين وحاضرة تشعل الوجدان، وستظل مصدر فخر واعتزاز لكل المصريين. فالحديث عن حرب أكتوبر لا ينتهى. تصديقا على ذلك، نستحضر هنا كلمات من خطاب الرئيس الراحل محمد أنور السادات الذى ألقاه بمجلس الشعب فى 16 أكتوبر 1973 احتفالا بالانتصار، حين قال: «سوف يجىء يوم نجلس فيه معا، لا لكى نتفاخر ونتباهى بما حققناه فى أحد عشر يوما من أهم وأخطر بل أعظم وأمجد أيام تاريخنا، ولكن لكى نتذكر وندرس ونُعلِّم أولادنا وأحفادنا جيلا بعد جيل قصة الكفاح ومرارة الهزيمة وآلامها وحلاوة النصر وآماله، نعم سوف يجىء يوم نجلس فيه لنقص ونروى ماذا فعل كل منا فى موقعه، وكيف حمل كل منا الأمانة، وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة فى فترة حالكة، ليحملوا مشاعل النور، ليضيئوا الطريق حتى نستطيع أن نعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء»، وهذا يعكس أن انتصار أكتوبر لم يكن انتصارا عسكريا فقط، بل كان أيضا انتصارا للإرادة الشعبية. وقد كان تلاحم الشعب مع قواته المسلحة من أهم أسباب انتصارنا فى حرب السادس من أكتوبر، فهذا الانتصار كان بمنزلة ملحمة سطرها الجيش والشعب، حيث قدم الشعب المصرى مثالا يحتذى به فى مساندة الشعب لجيشه، وأثبت أن النصر لا يتحقق فقط على جبهات القتال، وإنما قبل ذلك يتحقق بوحدة الشعب وصموده ووعيه فى الجبهة الداخلية. فالشعب المصرى عن بكرة أبيه كان الداعم والمحفز لجيشه على النصر فى جبهات القتال. وقد كانت رسالة الشعب لجيشه أننا معكم ووراءكم مهما تكن التضحيات ومهما يكن الثمن، ولذلك تحقق النصر العظيم بفضل شعب الجيش وجيش الشعب. نبدأ فى هذا المقال من قراءة وتحليل السياق المجتمعى الذى أنتج هذا النصر العظيم، وذلك بالتعرف إلى السياق المجتمعى فيما قبل الحرب، ونتلمس معالم التماسك الاجتماعى فى أثناء الحرب، ونلقى نظرة على الدور المهم الذى أداه الفن والثقافة قبل الحرب وفى أثنائها.
أولا- مرحلة ما قبل حرب أكتوبر (حرب الاستنزاف):
شكلت تلك المرحلة الخطوة الأساسية لنصر أكتوبر، فقد كانت الفترة بين 1967 و1973 قاسية عانى خلالها كل من الشعب والجيش مرارة الهزيمة فى 5 يونيو 1967، وكان رهان العدو عقبها على استسلام المصريين وخضوع القيادة المصرية للهزيمة. وخرجت تصريحات قادة إسرائيل تحمل نبرة الغرور والاستعلاء والاستخفاف بقدرة المصريين على الحرب والقتال مرة أخرى، وأن أمامهم مئة عام حتى يفكروا فى قتال إسرائيل. كل هذا كان كفيلا بتدمير شامل للروح المعنوية للشعب المصرى بأكمله وليس القوات المسلحة، ولكن الشعوب ذات الأبعاد الحضارية العميقة لا تستسلم بسهولة. فلم يكن لهذا الشعب العظيم أن يركع أو يستكين، بل إنه كان قادرا على أن يولد من قلب الهزيمة صمودا وشجاعة منقطعة النظير. وقد جاء الرد سريعا فى عملية رأس العش التى دارت أحداثها فى أول يوليو 1967، حيث كانت بمنزلة الشرارة الأولى لاندلاع حرب الاستنزاف التى استمرت نحو ألف يوم، فتلك الفترة كان لها دور رئيسى فى إعادة الثقة للقوات المسلحة والمقاتل المصرى. ورغم أن حرب الاستنزاف كانت بها خسائر، فإنها فعلت ما لم يفعله شىء آخر فى حياة المصريين؛ حيث أحدثت حالة تلاحم استثنائية بين جميع أطياف الشعب المصرى. وكما قال الرئيس الراحل محمد أنور السادات: «إن نكسة 5 يونيو 67 كانت استثناء فى تاريخنا وليست قاعدة، وإن التاريخ سوف يسجل لهذه الأمة أن نكستها لم تكن سقوطا، وإنما كانت كبوة عارضة، وإن حركتها لم تكن فورانا وإنما كانت ارتفاعا شاهقا. لقد أعطى شعبنا تضحيات غير محدودة وأظهر شعبنا وعيا غير محدود، وأهم من ذلك كله -أهم من الجهد والتضحيات والوعى- فإن الشعب احتفظ بإيمان غير محدود، وكان ذلك هو الخط الفاصل بين النكسة والهزيمة، ولقد كان إيمان الشعب هو القاعدة. وإذا كانت القاعدة سليمة، فإن كل شىء بخير». خلال حرب الاستنزاف، أعيد بناء القوات المسلحة من تسليح وتدريب ورفع للكفاءة وشحذ للروح المعنوية، وقد سطر خلالها الشعب والمقاتل المصرى سطورا مضيئة فى حب الوطن، فقد كان هناك التزام داخلى بالانضباط والالتزام بتحرير الأرض كأولوية لا تضاهيها أى أهداف أخرى، واصطف الجميع لمساندة قواته المسلحة ودعم المجهود الحربى بكل السبل، سواء بالجهد من خلال التطوع فى المستشفيات وعلى الجبهة أو بالمال؛ حيث تبرع المصريون بكل غال وثمين دون كلل من أجل أن تعود القوات المسلحة قادرة على مواجهة العدوان وتحرير الأرض. وبالفعل، تمت العديد من العمليات العسكرية الفدائية التى كبدت العدو خسائر فادحة، وخلالها قُدمت بطولات تُسطر فى التاريخ بحروف من نور عن فدائية المقاتل المصرى وشجاعته، وهو الذى يقدم روحه ودمه فى سبيل تحرير الأرض المسلوبة. وإذا كان الجيش قد قدم نماذج مشرفة للمقاومة والصمود، فإن الشعب قدم نماذج مشرفة للمساندة والتلاحم، ومهد هذا السياق لحرب أكتوبر.
ثانيا- المصريون وحرب أكتوبر (اللُحمة الوطنية):
لا شك فى أن ملحمة أكتوبر لا تزال تشكل أهم انتصار للشعب المصرى فى القرن العشرين، فعملية الإعداد لها والتعبئة الشعبية والقيم التى بُنيت عليها من إيثار وفداء وانتماء وإخلاص وإيمان بالوطن وثقة بالانتصار، كل ذلك شكَّل روح أكتوبر التى عاشها الشعب المصرى وجيشه الباسل. فالشعب المصرى رغم المحن والنكسات والأزمات التى عرفها على مدى آلاف السنين، فإن إرادته لا تموت، ويعود إليه شبابه وحيويته، فنجده يكسر أغلال الانكسار، ويعود مجددا ليقف فى صمود تحت راية الانتصار. فعلى مدى التاريخ، كان للشعب المصرى دور كبير وعظيم فى الوقوف بجوار جيشه وقيادته، وهذا الوقوف حقق الانتصارات الكبرى طوال السنوات الماضية، وسجل التاريخ هذه المسيرة التى بينت للعالم كله أن هناك جيشا وطنيا وشعبا عظيما حققا الانتصارات لمصر. فكلما اقتربت ساعة الصفر، كانت الجبهة الداخلية تثبت يوما بعد يوم أنها الحائط القوى الصلب الذى يستند إليه الجيش فى معركة المجد والشرف، وأصبح الشعب والجيش نسيجا واحدا. فالجميع خلال فترة الحرب كان قائدا: «الجندى، والعامل، وربة المنزل، ورجل الدين، والفنان... إلخ»، فالكل يشعر بمسئوليته تجاه الوصول إلى النصر، وأصبحت الجبهة الداخلية جزءا لا يتجزأ من ميدان المعركة. وثمة مؤشرات قوية إلى حجم التضحيات التى قدمها المجتمع المصرى فى أثناء الحرب، فلم تسجل حينذاك شكوى من ندرة التيار الكهربائى، ولا شكوى من أى نقص فى الخدمات أو فى السلع التموينية، ولم يضق المصريون بمعيشة الحرب بل تحمل الجميع ما هو دون الطاقة، وصبروا وآمنوا بإرادتهم فى النصر، واقتسم المصريون لقمة العيش. وربط المواطنون الأحزمة على بطونهم لتوفير الخبز والغذاء للمقاتلين على الجبهة، وبزغت معانى الإيثار والإخاء والتكافل الاجتماعى فيما بينهم، وتوقفت أيضا حالات العراك الشعبى فى المدن والأحياء الشعبية والقرى. وكانت حالة السلم الأهلى نموذجا لتوحد الوجدان بين الشارع وميدان المعركة، كما انتفض المصريون للتبرع بالدم، وكان أكبر تبرع حدث فى العالم بأكمله، حيث امتلأت المستشفيات ومراكز ووحدات التبرع بالدم بملايين المصريين، وما كان من وزير الصحة حينها إلا أن طالب المواطنين بالتوقف عن التبرع بالدم لأن جميع ثلاجات الدم فى جميع مراكز التبرع بالدم فى جمهورية مصر العربية امتلأت عن آخرها. كما أنه مع بداية الحرب وطوال فترة الحرب، تراجعت معدلات الجريمة فى الشارع المصرى، وكادت سجلات الشرطة تخلو من الجرائم الجنائية، وقد كشفت السجلات حينها عن أن المحاضر والبلاغات بأقسام الشرطة والنيابات خلت خلال الأيام الثلاثة الأولى من الحرب من تسجيل أى جريمة سوى الجرائم المعروفة لدى أجهزة الأمن «بالجرائم العارضة». وأشارت تقارير وزارة الداخلية حينها إلى عدم وجود بلاغات أو محاضر فى فترة الحرب وبعدها، واكتملت المدة حتى منتصف نوفمبر. كما أن الغالبية العظمى من البلطجية واللصوص خلال تلك الفترة العصيبة انضموا إلى حركات المقاومة الشعبية، طبقا لما كشفت عنه الإحصاءات والتقارير الصادرة عقب المعركة، حتى المطاريد فى جبال الصعيد أعلنوا توقفهم عن ارتكاب الجرائم والاستعداد للتطوع فى الحرب، «وهذا ما ذكره بهاء طاهر فى روايته خالتى صفية والدير». يمكن تفسير ذلك بسبب الحس الوطنى لدى المصريين، حيث تظهر فيه بشكل واضح قيم التضحية، والإيثار، والتسامح، وتغييب المصلحة الخاصة، وتجميد الخلافات الشخصية امتثالا لوحدة الهدف وعظمة الغاية خاصة فى الشدائد والأزمات، وهكذا لا يمكن لأى أمة أن تحقق نصرا صادقا دون وحدة شعبها وجيشها فى نسيج واحد. تكشف كل هذه المؤشرات عن جوهر عميق فى بناء الشخصية المصرية، والعمق الحضارى والتاريخى لها. فالشخصية المصرية عبر التاريخ تتمتع بالبطولة والحماس والقدرة على تجاوز الصعاب؛ لأنها تشكلت فى سياق تاريخى وثقافى وجغرافى أكسبها هوية ذات بعد حضارى يمتد فى الزمان بصورة تجعلها عصية على الانكسار والاستسلام، فهى شخصية جاءت من حضارة زراعية وهى حضارة تأتى بالمعجزات وقتما يظن الجميع أن الموت قد سكنها. فالفلاح يضع البذرة فتكبر وتصبح زرعا يستفيد منه الجميع. فإذا جاء من يهدد هذه البذرة وأرضه وأولاده، فإن أدواته الزراعية تصبح أدوات للقتال. فالشعب المصرى شعب صبور، لكن حين ينتفض فانتفاضته قوية، ولعل هذه الشخصية كانت أهم أسس انتصار أكتوبر. ستبقى حرب أكتوبر نموذجا حيا لقدرة المواطن المصرى وإرادته فى تحطيم المستحيل، وتحويل الانكسار إلى انتصار، وسيظل نصر أكتوبر عنوانا عظيما لإرادة المصريين التى لا تقهر مهما تكن قوة العدو وأتباعه وأنصاره، وغدره وخسته. وستظل الأرض المصرية شاهدة على بطولات أبنائها، وشاهدة أيضا على مصير كل من سولت له نفسه المساس بأمنها واستقرارها، فهذه الفترة أثبتت الولاء والانتماء والروح القتالية العالية من كل جموع الشعب. وهكذا، سيظل نصر السادس من أكتوبر ورجال القوات المسلحة المصرية مبعث اعتزاز وفخر، وستظل ذكريات وبطولات النصر تتوارثها الأجيال، جيلا بعد جيل، توضح وتظهر مدى عبقرية وشجاعة المقاتل المصرى الذى لقن الإسرائيليين درسا لن ينسوه فى فنون القتال والتخطيط والخداع الاستراتيجى شهد به العالم أجمع، تلك العبقرية والشجاعة التى أذهلت العسكرية الإسرائيلية؛ حيث قالت جولدا مائير: «سأظل أحيا بهذا الحلم المزعج لبقية حياتى، ولن أعود الإنسانة نفسها مرة أخرى التى كانت قبل الحرب». وقال الجنرال الإسرائيلى يشيعا جافيتش: «إن المصريين أثبتوا أنهم قادرون على التغلب على حاجز الخوف، والخروج إلى الحرب والقتال بكفاءة، وقد أثبتوا أيضا أنهم قادرون على اقتحام مانع قناة السويس. ولأسفنا الشديد، فقد انتزعوا القناة من أيدينا بقوة السلاح». أما آمنون كابيليوك، صاحب كتاب «إسرائيل انتهاء الخرافة»، فقال: إن حرب أكتوبر من وجهة نظر الإسرائيلى العادى يمكن أن تحمل أكثر من اسم مثل «انهيار الأساطير»، أو «نهاية الأوهام»، أو «موت الأبقار المقدسة». وقال موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى: «إن حرب أكتوبر كانت بمنزلة زلزال تعرضت له إسرائيل، ولم تملك القوة الكافية لإعادة المصريين للخلف مرة أخرى». فليس هناك من شك فى أن حرب أكتوبر المجيدة ستظل نقطة مضيئة بارزة فى تاريخ مصر، وستظل ثقتنا بأن هذا الشعب بأبنائه فى القوات المسلحة الذين عبروا هزيمة 67 وحققوا نصر أكتوبر 73 قادرون دوما على العبور بالدولة المصرية وتحقيق النصر فى كل مرة، وستظل قدراتنا بلا حدود على أن نبهر العالم وقتما يتوقع الجميع أننا انكسرنا أو تمكنوا منا.
ثالثا- حرب أكتوبر وحضور القوى الناعمة:
لم يكن الجيش المصرى العظيم هو البطل الوحيد فى حرب أكتوبر المجيدة، ولكن الشعب بكل أفراده ومؤسساته أدوا أيضا دورا محوريا لم يقل أهمية عن الدور الذى قام به الجنود على الجبهة؛ حيث وقف الشعب من خلال قوته الناعمة خلف جيشه العظيم لمحاربة الشائعات والحرب النفسية التى كانت تبثها وسائل الإعلام الإسرائيلية، بأن الحرب محسومة لمصلحته، معتمدين فى ذلك على حالة اليأس والإحباط التى شعر بها الكثير من أبناء الشعب المصرى بعد نكسة 1967. وقد كانت هذه الحرب النفسية أشد خطرا من الحرب التى تُدار على الجبهة بالأسلحة، فهى حرب لم تكن تُدار بالسلاح المادى، ولكنها أسلحة معنوية تحاول السيطرة على عقول المصريين، وبث روح الخوف والهزيمة بداخلهم. ولكن الشعب المصرى أدرك أن كل هذه شائعات، وأدرك أن الحرب النفسية هذه جزء من خطة العدو من أجل كسب المعركة حتى يتخلى الشعب المصرى عن جيشه. استخدم الشعب وسائل كثيرة لمواجهة حرب الشائعات ورفع الروح المعنوية، جاء على رأسها الفنون (من دراما تلفزيونية، وأغان وطنية، وأيضا الدين الذى كان حاضرا بقوة... إلخ). فالحديث عن الفن هو حديث التاريخ والسياسة والوطن، فالفن هو بوتقة الإبداع، ومرآة الشعوب بأفكارها وثقافتها وقيمها الحاكمة وأيضا تاريخها. فالفنون تعد الأهم تأثيرا فى تشكيل الوعى الجمعى للمجتمع، كما أنها تُسهم فى نشر الوعى وتشكيل الهوية الوطنية للأطفال والشباب، ما يسهم فى تحقيق التلاحم الشعبى حول فكرة الوطن. فلا يمكن أن ننسى دور الفن فى نصر أكتوبر، فقد كان أحد أسلحة الدولة فى رفع الروح المعنوية للمواطنين وحشد الجهود والاصطفاف خلف الجيش والقيادة السياسية آنذاك. فالفن له دور مؤثر فى شحذ الهمم، كما ظل رفيقا للشعب والدولة من النكسة إلى النصر، وهو من القوى الناعمة التى يجب توظيفها واستخدامها بشكل سليم. فمما لا شك فيه أن الدراما الوطنية لها دورها المحورى فى حياتنا اليومية. فمن خلالها، يستقى المتلقى تاريخ مصر السياسى، فهى تقدم قراءة للتاريخ، وتقوم بدور مميز فى تعريف وتثقيف الأجيال بمن هم أبطالنا والقدوة لأبنائنا، كما أنها تسهم فى استعادة العديد من القيم التى تعظم قيمة الهوية الوطنية المصرية من خلال تحفيز نزعة الولاء والانتماء فى حب الوطن، وخلق روح الوطنية داخل بيوتنا، تلك القيم التى رسختها مسلسلات، على سبيل المثال: (رأفت الهجان، ودموع فى عيون وقحة، والاختيار فى الآونة الأخيرة)، هذه القيم التى تقوم بدور مركزى فى مواجهة الإرهاب والتطرف ثقافيا وفكريا. فالفنون وسيلة مهمة لتشكيل وجدان المجتمع، وهى أحد مؤشرات التعبير عن قوة الدولة فى الحفاظ على هويتها الوطنية. كما أنها تملك القدرة على إثارة الحماسة الوطنية؛ وخير مثال على ذلك أيضا: الأغانى الوطنية التى تؤدى دورا مهما فى تعزيز روح الهوية الوطنية، ودورا تفاعليا فى غرس المسئولية الوطنية فى نفوس الصغار والكبار، وتشارك الناس حبهم وانتماءهم إلى أوطانهم، كما أنها فرصة للتعبير عن قيم الحب والولاء والانتماء ورفع الروح الوطنية. وقد ارتبطت الأغنية الوطنية المصرية بمحطات تاريخية وأحداث سياسية مرت بها مصر، إلى أن أصبحت جزءا من ذاكرة المصريين وأداة توثيق لكثير من المراحل التى أسهمت فى تشكيل وجدان الشعب المصرى. فالأغنية الوطنية تعد مكونا أصيلا وموروثا ثقافيا حاضرا لكل الأحداث التى مرت بها مصر، فكان لها، ولا يزال، دور كبير فى تعبئة الشعور الوطنى فى جميع الأحداث السياسية، كما أدت الأغنية دورا مهما فى شحذ الهمم والعزائم وتنمية الروح الوطنية لدى مختلف الأجيال. واستطاعت أغانى النصر أن تجسد الملحمة الوطنية فى حرب أكتوبر المجيدة. وفى اللحظات الاستثنائية فى تاريخ الوطن، دائما ما يستدعى الشعب بشكل تلقائى الأغانى الوطنية الراسخة فى الوجدان. كان للدين أيضا حضور قوى فى حرب أكتوبر؛ فالتدين يعد من عناصر القوة الكامنة داخل وجدان شعبنا، فالمصريون يملكون يقينا بأن النصر لن يأتى إلا من عند الله تعالى، وأنه مهما تبلغ قوة المعتديين، فإنها لن تقف أبدا أمام إرادة الله. لذلك، كان حضور الدين فى كل خطوة من خطوات الحرب، بدءًا من اختيار موعد الحرب فى شهر رمضان المعروف بروحانياته العالية، وتحديدا فى اليوم العاشر، ذلك اليوم الذى تحل فيه ذكرى غزوة بدر تيمنًا بهذه الذكرى. وقد صمم الجنود على خوض الحرب وهم صائمون على الرغم من أن توقيت الحرب فى الثانية ظهرا فى يوم حار، وكأنهم يقولون إنهم سيفعلون أى شىء ليتقربوا إلى الله. وكان هناك عزم شديد على استحضار الله فى القلوب ليكون عونا للجنود خلال الحرب، والتُفَّ حول شعار الله أكبر الذى كان يزلزل جنود العدو ويصيبهم بالرعب قبل الانخراط فى عمليات قتالية ضدهم. فمثلا كلمة العبور كانت كما يعرف الجميع، الله أكبر، فكان يرددها الجنود على الجبهة، ويُقال إنها عندما تُقال كانت تدب الرعب فى نفوس العدو. وكان المسلم والقبطى على حد سواء يرددان كلمة الله أكبر، وهما نسيج هذا الوطن، ونزعتهما للدين واحدة. ولنا أن نتخيل المنظر المهيب فى لحظة العبور والملايين يرددون هذه الكلمة بلا انقطاع، ونحن هنا بالتأكيد لا نتحدث عن الذين خاضوا الحرب على الجبهة فقط، وإنما نتحدث أيضا عن الشعب الذى كان جالسا يتابع الأخبار، وهذا كله له دلالته على أن الدين يشكل جزءا كبيرا ومهما من حياة الشعب المصرى، الذى يُعد من أكثر الشعوب إيمانا بالله، وهو إيمان عميق الجذور منذ الفراعنة، ومنذ خلق الله مصر وشعبها.
ختامـــًا:
نقول إن انتصار مصر فى حرب أكتوبر لم يكن انتصارا عسكريا أو سياسيا فقط؛ بل كان انتصارا للإرادة فى مواجهة الانكسار؛ والقوة فى مواجهة الضعف؛ والتحدى فى مواجهة محاولات الخضوع من قبل المتربصين. فعلى الرغم من استرداد الأرض من العدو الصهيونى، فإن مصر لا يزال يتربص بها الأعداء، فنحن نخوض فى سيناء فى السنوات العشر الأخيرة حروبا غير نظامية، حروبا ممولة بتمويلات ضخمة من دول تتمنى لنا الفشل فى مشروعنا التنموى. كما أننا نعيش الآن شكلا آخر من أشكال الحروب؛ حرب بأسلحة حديثة أخطر من الدبابات والمدرعات؛ حرب إعلامية ضخمة من خلال قنوات فضائية عدة تستقطب من يؤمنون بالمال أكثر من إيمانهم بالوطن، قنوات تستهدف زعزعة الثقة بين الشعب وقيادته ومؤسساته. لذا، يجب علينا أن نواجه هذه الحرب، وهذا لن يتحقق إلا من خلال الإجماع القومى على الأهداف القومية العليا، واستحضار حالة أكتوبر من تلاحم بين الشعب والجيش وقيادته السياسية. هذه الحالة التى أظهرت أصالة المصريين وعراقتهم؛ حيث انصهر الكل فى واحد، والواحد كان يضحى من أجل الجميع، فمصر كانت فى عيون، وفى وجدان، وفى ضمائر كل أبناء الشعب. فسلاما وتحية لكل الشعب المصرى، ولكل شهداء مصر الأبرار على مدى التاريخ وفى كل معاركنا، وتحية إعزاز وتقدير لرجالات القوات المسلحة، المؤسسة العسكرية الوطنية، الذين ضحوا، ولا يزالون يضحون بأرواحهم الطاهرة ودمائهم الذكية فداء لمصر، وحفاظا على أمن أراضيها، واستقرار شعبها وسلامته.
رابط دائم: