فى افتتاح المؤتمر السنوى لسفراء فرنسا عبر العالم فى ٢٩ أغسطس 2023، لم تظهر معالم الغضب على الرئيس إيمانويل ماكرون إلا عندما تناول ملف النيجر، للرد على كل الانتقادات التى وجهت لسياساته، بما فى ذلك من داخل فرنسا، وتأكيدا لصحة الأسس التى قامت عليها وصواب الاستمرار بها.
كان قد وقع انقلاب بالنيجر فى 26 يوليو 2023؛ حيث احتجز الحرس الرئاسى فى النيجر الرئيس "محمد بازوم"، وأعلن قائد الحرس الرئاسى الجنرال "عبد الرحمن تشيانى" نفسه قائدا للمجلس العسكرى الجديد، وأغلقت قوات الحرس الرئاسى حدود البلاد، وعلقت عمل مؤسسات الدولة، وأعلنت حظر التجول، وأغلق الحرس الرئاسى كذلك مداخل الوزارات، ويُعد هذا هو خامس انقلاب عسكرى منذ حصول البلاد على استقلالها عام 1960، والأول منذ عام 2010.
كانت النيجر سحبت اعتماد السفير الفرنسى وطلبت مغادرته، وطلبت أيضا سحب قوتها العسكرية المرابطة فى النيجر، بعد أن عمدت سلطة الأمر الواقع الجديدة إلى نقض الاتفاقات الأمنية والدفاعية المبرمة مع فرنسا، جاء كلام ماكرون حازما وحاسما لجهة التشدد فى التعامل مع المجلس العسكرى، وتأكيد أن باريس لن تعترف بشرعيته، وأنها ترفض كل طلباته.
فرنسا تتمسك بالبقاء فى النيجر :
لم يتردد ماكرون فى انتقاد الدول التى تدعو إلى التهدئة وإتباع خط آخر إزاء "الانقلابيين"، بما فى ذلك الولايات المتحدة التى تدعو إلى حل سياسى ترى فيه الطريق الوحيد للتعامل مع أزمة النيجر والعودة إلى الانتظام الدستورى، ورفض استدعاء السفير الفرنسى تحت الضغط ، ومن ثم رفض الاعتراف بشرعية الانقلابيين، كذلك الاستمرار فى دعم جهود "إيكواس"[1].
ما يعنى بوضوح، أن باريس كانت جاهزة لدعم التدخل العسكرى الذى تحضر له "إيكواس"، إذا فشلت الجهود الدبلوماسية والسياسية، ولكن باريس لن تتدخل أحاديا بل على أساس "تشاركى"، أى إلى جانب القوات الإفريقية.
لذلك، حذر الرئيس الفرنسى دول المنطقة ودعاها إلى اعتماد سياسة "مسئولة"، مؤكدا أنه "إذا تخلت (إيكواس) عن الرئيس بازوم فهذا معناه أن كل رؤساء دول المنطقة قد يواجهون المصير نفسه، مشيرا إلى الضعف الذى ظهر إزاء الانقلابات السابقة"، فى إشارة إلى
3 انقلابات عسكرية حدثت فى غينيا ومالى وبوركينا فاسو، وما يزال من قام بها فى السلطة.
أعلن الاتحاد الإفريقى الثلاثاء 22 أغسطس 2023، أنه علَّق عضوية النيجر حتى عودة الحكم المدنى فى البلاد، مؤكدا أنه سيدرس انعكاسات أى تدخل عسكرى فى الدول الواقعة فى منطقة الساحل، وقال الاتحاد إن مجلس السلم والأمن "يطلب من مفوضية الاتحاد الإفريقى دراسة الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية لنشر قوة احتياط فى النيجر، وإبلاغ المجلس بالنتائج".
إن الاتحاد الإفريقى له معايير ثابتة فى التعامل مع الأحداث المختلفة، على الرغم من فساد الطبقة الحاكمة التى تسيطر على الحكم وتتحكم فى الانتخابات وتوزيع الثروات على المقربين، فلا شأن لهم بحقيقة المطالب الشعبية ولا بفساد الحكام، فأسرة "عمر بونجو" تحكم الجابون طوال 51 عاما من خلال انتخابات عامة (ديمقراطية)، فمن يقول إنها انتخابات نزيهة، رغم الفساد الذى سيطر على مفاصل الدولة وتمكن منها.
نحن لا نشجع الانقلابات إطلاقا، ولكن هل الاتحاد الإفريقى "المتفرنج" يشجع الفساد مادام يتم بشكل قانونى، هل يشجع جشع الحكام وإفقار الشعوب لمصلحتهم ولمصلحة الدول الغربية، هل يشجع إثيوبيا على خرق القوانين والأعراف الدولية فى تعاملها مع دول المصب (مصر - السودان)، فهو لم يُدِن إثيوبيا إطلاقا، وفى الوقت نفسه يمنع اللجوء لمنظمات دولية أخرى، لقد أصبحت سمعة الاتحاد الإفريقى على المحك، وأصبح مثل الرجل الآلى بلا عقل يفرق بين ظروف وملابسات كل حدث على حدة، وتتوالى تكوين تجمعات بين بعض الدول خارج إطار الاتحاد الإفريقى، ومن خلال تلك السياسات "الموجهة" فقد احترامه ومكانته الأدبية بين الشعوب الإفريقية، وتحول إلى نسخة من "منظمة الأمم المتحدة الأمريكية".
الجزائر رفضت طلبا فرنسيا لفتح أجوائها أمام أى تدخل فرنسى عسكرى، وأنها تفضل إتباع السبل الدبلوماسية لاستعادة النظام الدستورى، ومن المعروف أن لفرنسا نحو 1500 جندى يتمركزون فى النيجر من قبل الانقلاب، ولم يتضح بعد ما هى العملية العسكرية التى كانت تشير إليها الجزائر، لكن فرنسا لم تقل إنها ستتدخل عسكريا لإسقاط الانقلاب العسكرى.
وأعرب الرئيس الجزائرى "عبد المجيد تبون" عن مخاوف بلاده من أى رد فعل عسكرى، قائلا: إن التدخل العسكرى قد يشعل منطقة الساحل بأكملها، مضيفا أن الجزائر لن تستخدم القوة مع جيرانها.
كان قد تظاهر الآلاف من المواطنين فى 2 سبتمبر 2023 مجددا فى نيامى وولام (جنوب غرب)، للمطالبة برحيل القوات الفرنسية من النيجر، وهو مطلب النظام العسكرى الذى وصل إلى السلطة بعد انقلاب 26 يوليو، ونظم التحرك فى العاصمة (قرب قاعدة عسكرية تضم قوات فرنسية)، بدعوة من ائتلافات عدة من المجتمع المدنى المناهض للوجود العسكرى الفرنسى فى النيجر، وحمل أحد المتظاهرين لافتة كُتب عليها "أيها الجيش الفرنسي، ارحل من بلادنا!".
وجرت تظاهرة أخرى فى ولام أمام قاعدة عسكرية هى مقر عملية " الماهاو" لمكافحة الجهاديين التى تضم جنودا نيجريين وفرنسيين، هاتفين "أيها الجنود الفرنسيون، جئنا لنحمل لكم رسالة ونقول لكم إننا لم نعد بحاجة إليكم"، وذبح محتجون "عنزة" ألبسوها العلم الفرنسى أمام القاعدة العسكرية، كما حملوا نعوشا ملفوفة بالعلم الفرنسى.
قال مفوض الشئون السياسية والأمن فى مجموعة "إيكواس" عبد الفتاح موسى فى ختام اجتماع استمر 3 أيام فى العاصمة النيجيرية "أبوجا": "حُدِّد فى هذا الاجتماع كل عناصر التدخل المحتمل، بما فى ذلك الموارد اللازمة، وكذلك كيف ومتى سننشر القوة"، ويبدو أن تحرك "إيكواس" وتبنى الخيار العسكرى من أجل التصدى للانقلاب فى النيجر لم يكن قرارا إفريقيا بحتا، فاليد الفرنسية بدت واضحة فى دفع الخيار العسكرى إلى الواجهة.
تلويح مجموعة "إيكواس" بالتدخل العسكرى فى النيجر لم يكن الأول، فقد سبق أن تدخلت عسكريا فى كل من ساحل العاج وليبيريا عام 2003، ومالى فى 2013، وجامبيا 2017، وغينيا بيساو فى 2012 و2022، لكن الظرف الحاصلة فى النيجر مختلفة، لعدة معطيات وأسباب، وقد أخفقت المجموعة فى السابق التصدى للانقلابات فى عدة دول إفريقية، مثل غينيا، ومالى، وبوركينا فاسو.
جاءت تهديدات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) ضد النيجر بنتائج عكسية تماما، فقد وقعت الحكومات العسكرية فى ثلاث دول إفريقية التى خلعت جميع زعمائها المدعومين من الغرب فى السنوات الأخيرة اتفاقا فى 16 سبتمبر2023 ينص على مساعدة بعضها بعضا فرديا أو جماعيا فى حالة وقوع أى عدوان خارجى أو تهديد داخلى لسيادتها.
وقد سبق أن ذكرت مالى وبوركينا فاسو أن أى هجوم على النيجر سيكون بمنزلة "إعلان حرب" ضدهما أيضا، بعد أن هدد عدد من جيران النيجر من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) بإرسال قوات لإعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم، ويضم هذا التحالف الجديد لدول الساحل ثلاث دول كانت أعضاء فى اتفاق مجموعة الساحل الخمس المدعوم من باريس مع تشاد وموريتانيا.
لم يؤد انقلاب النيجر ولا التحالف الثلاثى إلى غضب الولايات المتحدة التى اتخذت موقفا متحفظا غير عدوانى من الانقلاب العسكرى، وتجنبت وصف انقلاب النيجر بالانقلاب العسكرى حتى لا يترتب على هذا التوصيف قرارات وإجراءات معينة من الكونجرس والحكومة الأمريكية.
فرنسا كدولة استعمارية لها تاريخ طويل من العنف الذى لم تنسه أبناء الشعوب الإفريقية، هذه الكراهية قد ترسبت فى نفوس الكثير من القادة العسكريين فى هذه الدول الثلاث وغيرها فى غرب إفريقيا ووسطها لأسباب كثيرة، منها علاقات فرنسا الفوقية مع الرؤساء الأفارقة، وتعاملها مع العسكريين الأفارقة وكأنهم تحت قيادة جنرالات فرنسا.
باريس ترضخ لقادة الانقلاب:
فى 7سبتمبر2023، أقرت فرنسا بأنها تجرى مباحثات مع قادة الانقلاب فى النيجر لسحب "بعض عناصرها العسكرية فى النيجر"، وقررت باريس إنهاء تعاونها العسكرى مع النيجر وسحب قواتها من البلد الإفريقى فى الأشهر المقبلة، وإعادة سفيرها.
وعلى الرغم من أن الشراكة بين جيشى فرنسا والنيجر كانت "نجحت"، ولكن فى الوقت الحالى الأمر يختلف، فلا يمكن العمل وتنفيذ عمليات عسكرية دون تعاون الدول المضيفة.
ما كانت فرنسا ترضخ لمطالب قادة الانقلاب إلا لمعرفتها التامة باستحالة استمرار الوضع كما هو، لقد أدركت باريس (متأخرة) أنها اتخذت قرارا خاطئا تجاه قادة الانقلاب، ولم يدنهم أحد من القوى الكبرى غيرها، فهى ما زالت تتصرف بعنجهية مستعمر، وتسلط إمبريالى، ولم تتعلم الدرس، وتجنى الآن حصاد الاستغلال وإفقار الشعوب الإفريقية طوال 60 عاما، وها هو وزير الدفاع الفرنسى يبلع لسانه من الهزيمة فى إفريقيا بقوله "سوف نركز الاهتمام على منطقة المحيط الهادى".
التغيرات الجيوسياسية فى إفريقيا تجاه فرنسا والغرب:
فرضت تطورات الأحداث فى دول غرب إفريقيا ووسطها على فرنسا مراجعة سياستها تجاه إفريقيا؛ حيث تواجه برفض شعبى لهذه السياسة خاصة من جانب الأجيال الجديدة، الذين أصبحوا لا يتسامحون مع طبيعة العلاقات الخاصة لباريس مع إفريقيا، ويستشهدون بما حدث فى الآونة الأخيرة بعد اتخاذ قادة الانقلاب فى النيجر بتحرير سعر بيع اليورانيوم الذى تستورده فرنسا بسعر بخس يصل إلى 80 سنتا للكيلو، فيما يباع الآن بنحو 200 دولار.
تفرض تطورات الأوضاع فى منطقة غرب إفريقيا ووسطها رفض السياسية الخارجية الفرنسية تجاه المنطقة، بسبب تصاعد الرفض للوجود الفرنسى وبسبب ازدواجية المعايير التى تتبعها السياسة الفرنسية خاصة بعد موقفها من انقلاب الجابون [3]، الذى لم تعترض عليه مثلما فعلت مع النيجر، فعلى الرغم من إدانتها للانقلاب فإنها لم تدع للتدخل لإعادة الرئيس "على بونجو" على عكس ما تفعل مع الرئيس النيجرى المحتجز "محمد بازوم".
أيضا هناك الاحتجاجات من قبل معارضى الوجود العسكرى الفرنسى إلى فشل القوات الفرنسية فى مكافحة الجماعات الإسلامية والدول الغربية الأخرى على الرغم من المساعدات العسكرية والمالية، لم تفعل ما يكفى لكبح التمرد ومكافحة الجماعات الإسلامية المرتبطة بتنظيمى القاعدة وداعش.
بالإضافة إلى أن باريس لا تفهم أن العالم يتغير وإفريقيا تتغير معه؛ حيث تعارض فرنسا الانقلابات العسكرية فى مستعمراتها السابقة دون أن تبذل مجهودا فى فهم الأسباب التى من أبرزها الفقر فى دول القارة والأزمات الاقتصادية وتبعات الأزمات العالمية، ولذلك اكتسب الانقلابيون فى مالى وبوركينا فاسو والنيجر شرعية من الدعم الشعبى الناجم عن تنامى شعور العداء لفرنسا وللغرب عموما.
نذكر أيضا، أنه فى 21 سبتمبر2023 فى الجمعية العام للأمم المتحدة، اتهم رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، "فاوستين أركانج تواديرا" ، الغرب بالتسبب بأزمة الهجرة فى القارة، وهذا التصعيد فى أزمة المهاجرين من ضمن العواقب المروعة لنهب الموارد الطبيعية للبلدان التى أفقرتها العبودية والاستعمار والإمبريالية الغربية، والإرهاب والصراعات المسلحة الداخلية".
أفول نجم الهيمنه الفرنسية فى إفريقيا:
خسرت فرنسا خلال الأعوام الثلاثة الماضية خسارة هائلة فى إفريقيا قد تكون غير قابلة للتعويض على المدى المنظور؛ إذ فقدت نقاط ارتكازها الرئيسة فى وسط القارة السمراء وغربها على الصعيد العسكرى، وفقدان النفوذ الجيوسياسى، على رغم وحدة الروابط اللغوية والثقافية مع حزام الدول الإفريقية الفرنكوفونية، وكلها مفاصل تنتج منها حاليا خسارة مصالح اقتصادية فرنسية هائلة فى دول عدة كان آخرها النيجر، مرورا بمالى وبوركينا فاسو.
هناك أسباب عدة أدت إلى ذلك، منها تعرية السياسات الفرنسية فى إفريقيا، من خلال ثورة الإنترنت والتركيبة الديمغرافية للقارة السمراء؛ إذ إن غالبية الأفارقة من الشباب، وهو القطاع المستخدم للإنترنت الذى يسهم فى التوجهات العامة للرأى العام وطبيعة الجدل فيه، وذلك من حيث الوصول إلى المعلومات والقدرة على التواصل، ومن هنا اكتشف الأفارقة حجم الاستغلال الكبير لثرواتهم الطبيعية وحرمانهم من عوائدها المشروعة، بل معاناتهم من الفقر والإذلال بسبب اتفاقات استغلال الموارد الطبيعية[4] .
وبسبب اندفاع ماكرون فى إدانة انقلاب النيجر، من دون حسابات دقيقة فى رفض سلطة الانقلاب والتحريض ضدهم والسعى نحو تدخل عسكرى تقوم به دول (إيكواس) على النيجر، على العكس من واشنطن التى اتخذت سياسيات مغايرة، ومنها عدم تصنيف انتقال السلطة فى النيجر بانقلاب أصلا، وتفضيل الحلول الدبلوماسية على العسكرية.
ولن ينفع باريس تراجعها عن كل مطالبها بعد اكتشاف عدم دقة حساباتها فى شأن التدخل العسكرى فى النيجر، كما اضطرت إلى سحب السفير الفرنسى، وأيضا القوات الفرنسية البالغ عددها 1500 عنصر من أراض النيجر.
تشهد شواهد كبرى على تراجع نفوذ فرنسا فى كثير من مناطق العالم، منها ما حدث فى صفقة الغواصات مع أستراليا لمصلحة الاتفاق مع واشنطن ولندن، أيضا الإخفاق الفرنسى فى لبنان؛ حيث فشلت باريس فى التعامل مع الأزمة اللبنانية الأخيرة، ليكون ذلك امتدادا لإخفاقها فى إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية فى المُستعمَرات الفرنسية السابقة التى أعلنت العصيان والانفصال عن باريس.
الملعب الإفريقي يستقبل لاعبين جددا:
تغير شكل النظام الدولى عقب انتهاء الحرب الباردة، قد أسهم فى اتجاه الصين لتبنى سياسات تركز على المصالح الاقتصادية مع دول القارة الإفريقية، مع التخفيف من التعاون السياسى بين الجانبين، هذا فضلا عن تزايد الاهتمام الصينى بتبنى مبادرات أمنية وعسكرية جديدة.
خلال العقود الثلاثة الأخيرة، حققت بكين تقدما كبيرا فى القارة، وبرزت كمصدر رئيسى (ومتزايد) للمساعدات والاستثمارات "غير المشروطة"؛ حيث حلت محل العديد من القوى الخارجية وخاصة الولايات المتحدة كأكبر شريك تجارى لإفريقيا منذ عام 2009.
أسهمت التطورات الدولية فى تدعيم هذا التوجه الصيني، فى ظل الفراغ الذى تركته الدول الغربية التى وجهت اهتمامها ودعمها التنموي، الذى كانت تستفيد منه الدول الإفريقية لدول شرق أوروبا، من أجل دمج الأخيرة واستيعابها فى النظام الغربى بتوجهاته الرأسمالية الليبرالية.
وفى عام 2000، أسست الصين منتدى التعاون الصينى الإفريقى (FOCAC: Forum on China–Africa Cooperation)، ليعقد كل ثلاث سنوات بين الصين والدول الإفريقية التى التزمت بسياسة صين واحدة، من أجل إجراء حوار منظم حول مجموعة من المجالات التى توسعت بشكل كبير حتى الآن, وتركز الاستثمارات الصينية فى إفريقيا على مشروعات البنية التحتية الكبيرة (مثل السدود والطاقة الكهرومائية)، ومشروعات المياه والصرف الصحى.
بعد نحو عشر سنوات من نشر باريس لجنودها فى دولة مالى، ولكن استجابة لطلب المجلس العسكرى الانتقالى الحاكم، قررت السلطات الفرنسية سحب عناصر جيشها [5]، وكان ذلك فى نفس توقيت ظهور مجموعة "فاجنر" العسكرية التى تشكلت فى منطقة الساحل والصحراء، التى تعكس طموحات روسيا الجيوسياسية فى إفريقيا، وتؤكد حاجة حكام دول المنطقة إلى إيجاد بديل للقوات الأوروبية التى فشلت فى مجال مكافحة الإرهاب.
ويمكن رؤية ذلك من خلال انتشار عناصر قوات " فاجنر" فى العديد من الدول الإفريقية، مثل جمهورية إفريقيا الوسطى ومالى من أجل ضمان الأمن ومكافحة التمرد مقابل تنازلات اقتصادية أفريقية دون أى اعتبار لرد فعل فرنسا أو الغرب.
ختاما:
لقد بدأت مشكلات فرنسا الإمبريالية فى مستعمراتها السابقة فى إفريقيا بصناعة غربية بحتة، المشكلة الأولى فرض العولمة وانتشار الشبكة العنكبوتية فى بداية الألفية الحالية، فكانت العولمة تُفرض على الدول بصفة عامة، دون قدرة للدول على السيطرة على المعروض على الشبكة، وحتى إن كان مدمرا للعادات والتقاليد الخاصة بكل دولة، على أساس أن التمسك بتلك التقاليد هو دليل تخلفها، ولا بد من اعتناق النموذج الغربى والتفاعل معه، على أساس أنه الخلاص من الفقر والدكتاتورية، ولكن نشأت مشكلات كبيرة فى دول العالم الثالث وخاصة فى دول الشرق الأوسط بسبب اعتناق ثقافات لا تتناسب مع المعطيات الخاصة بكل دولة، ولكن تباعا ظهر زيف الثقافة الغربية وعدم مناسبتها لدول العالم الثالث.
المشكلة الثانية، كانت العولمة عبارة عن طمس للهوية الثقافية للدول، وحدثت تحت مظلة نظام عالمى ذا قطب واحد، ولم يدرك أحد أنها فترة انتقالية، ولم يتوقع أحد مدى الضرر من الفوضى الخلاقة التى نادت بها "كونداليزا رايس"، وتتوالى اعترافات الغرب بخطأ التخلص من القذافى (كمثال)؛ حيث امتدت تلك "الفوضى الخلاقة" إلى قلب أوروبا، إلى المكان الذى بدأت منه الحربان العالمية الأولى والثانية، التى أدت تداعياتها إلى نزيف الاقتصاد إلى أوكرانيا وانعكست آثاره فى حجم المساعدات للدول الإفريقية، ما ساعد على تراكم سوء الأوضاع، إضافة إلى انكشاف مدى ظلم فرنسا واستغلالها لدول مستعمراتها السابقة، وتبدلت الهمهمة إلى صيحات صريحة تدين فرنسا شعبيا ورسميا.
ما يحدث فى القارة الإفريقية هو نتاج طبيعى, وأحد الملامح الواضحة لتأكيد الوجود الفعلى للنظام العالمى الجديد "متعدد الأقطاب"، فإذا كانت الإمبراطورية الأمريكية قد ورثت الإمبراطورية البريطانية، فقد ورثت كل من الصين وروسيا الإمبراطورية الفرنسية فى إفريقيا، وتلك بداية نهاية فرنسا كدولة عظمى مهيمنة ومسيطرة عالميا.
لقد تغير العالم ولن تعود الساعة إلى الوراء، وها هى الدول الإفريقية واحدة تلو الأخرى، تنفصل تماما عن السيطرة الاستعمارية الفرنسية، ويذهب مناصرو الدول الغربية إلى النسيان، وما حدث فى النيجر حدث فى الجابون. ولنا أن نلاحظ بوضوح أن الدول الإفريقية تستبدل الصين وروسيا بالدول الغربية.
وعلى الرغم من تنبه الولايات المتحدة إلى أهمية القارة الإفريقية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، ومحاولة مناهضة الانتشار الصينى فى إفريقيا بإنشاء قيادة أمريكية مستقلة[6]، فإن ذلك لم يحُلْ دون التوغل والهيمنة الصينية/ الروسية فى إفريقيا.
وإذا كان وصول "بوتين" إلى رئاسة روسيا، و"شى جين بينغ" إلى رئاسة جمهورية الصين الشعبية، مؤشرا لبداية تغير النظام العالمى "أُحادى القطبية"، فما يحدث الآن فى العالم وخاصةً فى إفريقيا يعد دلالة على قرب انتهاء الفترة الانتقالية لتشكل النظام العالمى الجديد. وإذا كانت النظم العالمية لا تتغير إلا من خلال حروب كبرى، فالمشهد الآن جاهز للمخاض، فمن يدرى ماذا سيحدث غدا فى ناجورنو كاراباخ، أو فى كوزفو، أو حتى فى الأندو-باسيفك؟!
الهوامش:
[1] إيكواس: فى مايو 1975، وقّع رؤساء 16 دولة وحكومة إفريقية "معاهدة لاجوس"، فى نيجيريا، معلنة بذلك ولادة "المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، المعروفة اختصارا بـ"إيكواس"، وقد فرضت عقوبات على كل من مالى وبوركينا فاسو اللتين شهدتا انقلابات عسكرية، مناهضة للحكومات "الموالية للغرب" ، وعلى الرغم من أن العقوبات كانت آثارها متفاوتة فى البلدين، فإن الضرر الذى تسببت فيه العقوبات طال الشعبين، لا القادة فى الحكم، وهو أسلوب اعتمدته الدول الغربية، فى محاولة لإضعاف الحكومات غير الموالية لها، كما هى الحال فى سوريا، وإيران، وروسيا، والصين.
[2] مجموعة الساحل الخماسية ( SAHELG-5): تم إنشاء القوّة المشتركة للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل فى عام 2017 كى تتصدى للجماعات المتطرفة المسلحة والعنيفة، وتواجه الحالة الأمنية المتدهورة فى المنطقة، وقد أطلق رؤساء دول المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل (وهى: بوركينا فاسو، وتشاد، ومالى، وموريتانيا، والنيجر) هذه المبادرة لتعزيز سلامة شعوبها وأمنهم، وضمان بيئة مؤاتية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية فى المنطقة عن طريق حشد جهودها الوطنية ومضاعفتها لمكافحة التهديدات الأمنية المشتركة.
[3] أعلن ضباط كبار فى جيش الجابون إلغاء نتائج الانتخابات، وإغلاق حدود البلاد، وحل مؤسسات الدولة. فى بيان متلفز صباح الأربعاء 30 أغسطس، عقب إعلان لجنة الانتخابات فوز الرئيس على بونجو أونديمبا بولاية ثالثة فى 29 أغسطس، وحل جميع مؤسسات الدولة وإغلاق الحدود الدولية، وقد أنهى الانقلاب حكم عائلة بونجو على الجابون الذى دام 56 عاما، وهو الانقلاب الناجح الثامن الذى يحدث فى غرب إفريقيا ووسطها منذ عام 2020، وذلك بعد انقلابات مماثلة فى مالى (مرتين فى 2020 و2021) وتشاد وغينيا وبوركينا فاسو (مرتين فى يناير وسبتمبر 2022) والنيجر.
[4] الشبكة العنكبوتية: النيجر سابع أكبر منتج لليورانيوم فى العالم حاليا، تعطى ربع إنتاجها من اليورانيوم- الوقود الحيوى للطاقة النووية- مباشرة لأوروبا، و10% منه لفرنسا وهى نسبة تمثل 35%، أى ثلث ما تحتاج إليه فرنسا من هذه المادة، هذا إلى جانب النفط والذهب، وكذلك بقية الدول التى استعمرتها فرنسا، فقد كان شرط الاستقلال هو أن تهب تلك الدول لباريس كل الخيرات أو النصيب الأكبر منها دون مقابل تقريبا.
[5] الشبكة العنكبوتية: أعلنت قيادة الجيوش الفرنسية، مغادرة آخر جندى فرنسى من عملية "برخان" فى أراضى دولة مالى، بعد نحو عشر سنوات على التدخل العسكرى الفرنسى فى دولة مالى للقضاء على مقاتلى تنظيم القاعدة عام (2013).
[6] قيادة إفريقيا الأمريكية United States Africa Command(USAFRICOMأو AFRICOM) ، هى قوات موحدة مقاتلة تحت إدارة وزارة الدفاع الأمريكية، وهى مسئولة عن العمليات العسكرية الأمريكية وعن العلاقات العسكرية مع 53 دولة إفريقية فى إفريقيا عدا مصر، وكانت القيادة الإفريقية قد أسست فى 1 أكتوبر 2007 ، كقيادة مؤقتة تحت القيادة الأمريكية لأوروبا, التى كانت لمدة أكثر من عقدين مسئولة عن العلاقات العسكرية الأمريكية مع أكثر من 40 دولة إفريقية، وقد بدأت القيادة الإفريقية نشاطها رسميا فى 1 أكتوبر، 2008، من خلال احتفال فى وزارة الدفاع حضره ممثلون عن الدول الإفريقية فى واشطن دى سى.