منذ فبراير 2022 والعالم يعيش على حافة الهاوية،فمنذ بدء الأزمة الروسية الأوكرانية وهناك حالة من التوتر المتصاعد فى أوروبا خاصة والعالم كله بصفة عامة،فالكل لا يدرى ما تحولات تلك الأزمة؟ وماذا سيكون مسارها سواء فى المستقبل القريب أو البعيد؟ وكيف ومتى ستنتهى؟
نحن أمام حالة من عدم التقين، قد تطول، لتضيف المزيد من المعاناة للدول والشعوب فى جميع بقاع الأرض.
والأزمة الروسية الأوكرانية، ومن قبلها جائحة كورونا الصحية، مجرد بداية لعالم جديد يعاد تشكليه لعقود مقبلة؛ عالم تؤدى فيه التكنولوجيا، وخاصة التكنولوجيات البازغة، دورا محوريا.
ومن أهم تلك التكنولوجيات البازغة، تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى، كونها تتداخل فى كل شىء من حولنا، بدءا من نظم الصناعة والزراعة، ومرورا بإدارة سلاسل الإمداد والمعاملات المالية داخل المنظومات البنكية الرسمية أو حتى داخل المنظومات غير الرسمية مثل العملات المشفرة، وانتهاء بوسائل النقل، والمدن الذكية، ونظم الطاقة، والرعاية الصحية، والمرافق العامة، وغيرها من الاستخدامات الاقتصادية، والعسكرية، والأمنية.
فالكثير من الخبراء يعتقدون أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى سيكون لها أثر كبير فى تقدم البشرية، ولا يقارن حتى بما حققه اكتشاف النار فى العصر الحجرى، أو اكتشاف الكهرباء فى أواخر القرن الثامن عشر على يد العالم بنجامين فرانكلين. ومن المتوقع أن تضيف هذه التكنولوجيا البازغة لما يقرب من 16 تريليون دولار للاقتصاد العالمى بحلول عام 2030، كما أشارت المديرة بمعهد الصراعات الدولية بجامعة كاليفورنيا سان دييجو "ليندسى مورجان" فى دراستها المنشورة على الموقع الرسمى للمعهد فى 16 إبريل 2021.
لذا، أصبحت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى ضمن أهم اهتمامات الدول المتقدم منها والنامى على حد سواء،كما أصبح تطوير هذه التقنية جزءا من سباق التسلح بين الدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وروسيا، لحماية نطاقات أمنها القومى؛كون تلك التكنولوجيا تستخدم كمساعد فى دعم واتخاذ القرار، وفى التطبيقات الدفاعية والاستخباراتية، وإدارة الخدمات اللوجستية، واستخدام الأسلحة السيبرانية الهجومية والدفاعية، والتحكم فى الأسلحة التى تعمل عن بعد بدون مثل الطائرات المسيرة، والتنسيق بينها وأنظمة التسليح الأخرى.
وقد طورت الولايات المتحدة استراتيجية دفاعية جديدة فى 2014 سميت باسم Third Offset Strategy (TOS)، بالإضافة إلى قيام وزارة الدفاع الأمريكية بإنشاء إدارة خاصة فى 2018 لتوطين المزيد من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى فى نظم التسليح لمواجهة أى تهديدات أو نزاعات مستقبلية، خاصة من جانب الصين أو روسيا اللتين لديهما نفس النوعية من الاستراتيجيات، لمواجهة السيطرة الأمريكية على الساحة الدولية، وتحقيق توازن عالمى جديد.وتعد الصين المنافس الأقوى للولايات المتحدة فى مجال الذكاء الاصطناعى؛ حيث تعد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى كتكنولوجيا استراتيجية. وبالفعل ضخت بها استثمارات وصلت إلى أكثر من 21 مليار دولار خلال العقد الماضى من الزمن، ما جعل الشركات التكنولوجية الصينية أكثر تقدما من الشركات الأمريكية فى هذا المجال. كما استثمرت الصين ما يقرب من 1.3 مليار دولار، خلال المدة 2010-2017، فى الشركات التكنولوجية الأمريكية التى تعمل فى مجال الذكاء الاصطناعى، ما جعل الولايات المتحدة تقوم بإجراءات تحد من التوغل الصينى بها، خاصة فى المجالات التى تتعلق بالذكاء الاصطناعى. أما روسيا فهى خلف الولايات المتحدة والصين فى هذا المضمار نسبيا. لذا، قامت روسيا بإجراءات لسد هذه الفجوة؛فدشنت استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعى لتنفيذها خلال 10 سنوات، تتضمن التوسع فى البرامج التعليمية المتعلقة بالذكاء الاصطناعى، وكذلك تحديث البنية التحتية، وضخ استثمارات فى شركة ناشئة تعمل فى هذا التخصص الدقيق، وتحديث 30% من منظوماتها العسكرية باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعى بحلول عام 2025.
وتعتمد الاستراتيجية الأمريكية على تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعى وأنظمة الأسلحة الفتاكة ذاتية التشغيل التى تعمل عن بعد Lethal Autonomous Weapon Systems (LAWS)والتى ستستدعى وجود علاقة تعاونية بين الإنسان والآلات فى اتخاذ القرارات، ومساعدة القوات على الأرض لتنفيذ مهامها، والتنسيق والتكامل بين النظم القتالية المعتمدة على البشر والنظم القتالية ذاتية التشغيل العاملة عن بعد، وهذا طبقا لدراسة أعدها مجموعة من الباحثين فى جامعة إسلام آباد، ونشرها مركز الدراسات الاستراتيجية بباكستان فى مايو 2021.كما أنه من المتوقع فى خلال 20-30 سنة أن يكون الفرد المقاتل هو روبوت، بحيث يقوم بتحديد الهدف، ولكن لا يتم التعامل معه من إلا خلال أمر بشرى، أو يتم تحديد الهدف والتعامل معه تحت إشراف بشرى، أو يمتلك الروبوت درجة ما من الاستقلالية والقدرة على تحديد الأهداف والتعامل معها دون تدخل أو إشراف بشرى.
فى الماضى القريب كانت نظم الأسلحة المستقلة (Autonomous Weapons System) أقرب إلى الخيال العلمى، ولكن مع التسارع التكنولوجى أصبحت أمرا أقرب إلى الواقع وليس الخيال،وأصبحت الدول العظمى تضع فى استراتيجياتها وجود تلك النوعية من الأسلحة، المعتمدة على التكنولوجيات البازغة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعى، وتحليل البيانات، والجيل الخامس من الاتصالات، لتشكل الجانب الأكبر من التشكيلات القتالية.
فالذكاء الاصطناعى أسهم فى إعطاء صبغة من التفكير المنطقى للآلات وقدرة على التعلم المستمر. ونتيجة لذلك، فإن الآلات لا تؤدى المهام فحسب، بل تنفذ أيضا قرارات حاسمة، إما بإشراف بشرى أو بدونه. وتقوم الآلات بأداء المهام، وأخذ القرارات وتنفيذها فى مجالات جمع المعلومات، والمراقبة، والاستطلاع، والأمن السيبرانى، ومكافحة التطرف والإرهاب، وغسيل الأموال، والعمليات القتالية أيضا.
وتؤدى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى دورا مهما فى التعامل مع المعلومات المتوافرة على منصات التواصل الاجتماعى بطريقة غير منظمة، مثل منصات فيسبوك، وتوتير، بالإضافة إلى المعلومات الموجودة فى المنصات السوداء والعميقة على شبكة الإنترنت Dark and Deep Web، التى تعد بيئة خصبة تجمع محترفى القرصنة الإلكترونية والمجرمين السيبرانيين؛ حيث يتم تطوير مجموعة من البرمجيات بواسطة خوارزميات الذكاء الاصطناعى لتكون قادرة على متابعة قنوات الاتصال المشبوهة التى من خلالها يتم التنسيق لعمل هجمات سيبرانية منظمة أو سرقة وتسريب بيانات سرية حساسة. ومن ثم اتخاذ إجراءات حماية وقائية، وبطريقة استباقية، من قبل مؤسسات الأمن المعنية، كما أشار الباحث والكاتب "أليكس سيارنييلو" بموقع Securityالمتخصص فى أمن المعلومات، فى 21 أكتوبر 2020.
وتستخدم الجماعات المتطرفة فى جميع أنحاء العالم مجموعة متنوعة من المنصات عبر الإنترنت، بدءا من منصات التواصل الاجتماعى الشهيرة للمنصات الأقل شهرة مثل 4chanو8kun، لنشر المعلومات المضللة، والتجنيد والتخطيط للهجمات الإرهابية؟ فالذكاء الاصطناعى وعلوم تحليل البيانات أصبحت ضرورة لرصد التطرف عبر الإنترنت، لتحديد وتحليل الأحاديث المبهمة عمدا ومؤشرات التهديد الوشيك. وكذلك تستخدم وكالات الاستخبارات حول العالم الذكاء الاصطناعى لشن حرب المعلومات فى الداخل والخارج. وفى المقابل، تساعد تطبيقات الذكاء الاصطناعى تلك الوكالات على مراقبة تهديدات المعلومات المضللة المستهدفة لزعزعة الأمن وتكدير السلم العام.ويستخدم الذكاء الاصطناعى فى عمليات التزوير المتقنة للصور والفيديو والأصوات، أو ما يطلق عليه مسمى "التزوير العميق" Deep Fake، التى تستخدم فى العمليات المعلوماتية لنشر تقارير إخبارية مزيفة أو معلومات مغلوطة لتبدو كأنها حقيقية، خاصة إن جاءت على لسان مسئولين فى أعلى مستويات سلم القيادة فى دولة ما. وهذا لخلق حالة من البلبلة وفقدان الثقة لدى المجتمع. فى المقابل، أصبح الذكاء الاصطناعى أيضا يستخدم، كأداة للطب الشرعى، ولكن فى مجال الإعلام والميديا، فى كشف عمليات التزوير العميق بصورة تلقائية، وتحديد المقاطع التى تم التلاعب بها. كما أن من الاستخدامات المستخدمة للذكاء الاصطناعى فى المجال الأمنى عمل "بصمة رقمية" Digital Footprintللأشخاص، بتحليل سلوكهم على الإنترنت، وماهية مشترياتهم، وطرق استخدامهم لبطاقات الائتمان البنكية، وسيرهم الذاتية المهنية، بغرض إنشاء ملف تعريف سلوكى شامل لهم، وخاصة العسكريين أو ضباط المخابرات المشتبه بهم أو المسئولين الحكوميين أو حتى المواطنين العاديين، بغرض استخدام مثل هذه المعلومات فى عمليات التأثير المستهدف أو الابتزاز.
وفى أثناء العمليات العسكرية، يدعم الذكاء الاصطناعى أنظمة القيادة والتحكم لجعلها أكثر مرونة ودقة وفعالية وقابلية للتوقع، بحيث يتم تحليل الكم الكبير من البيانات، ومتابعة ومراقبة مصادرها، سواء كانت تلك المصادر هى منصات الإنترنت الشرعية أو من منصات الإنترنت العميق والأسود.وكذا تؤدى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى وتحليل البيانات الضخمة دورا كبيرا الآن، وفى المستقبل فى تطوير مفاهيم القيادة والسيطرة بالجيوش، ما يسهل مركزية تخطيط وتنفيذ العمليات الجوية والفضائية والإلكترونية والبحرية والبرية، ما يحقق التنسيق الكامل بين الأسلحة لتحقيق أقصى درجات الفعالية فى أثناء العمليات. يمكن استخدام الذكاء الاصطناعى لدمج البيانات من أجهزة الاستشعار فى جميع هذه المجالات لإنشاء مصدر واحد للمعلومات، يُعرف أيضا باسم "صورة التشغيل المشتركة" لصانعى القرار. وهذا بدلا من البيانات والمعلومات الواردة بصورة منفصلة، فى الوضع الراهن، لصانع القرار، التى فى الغالب تكون إما مكررة أو متناقضة. ومع نضوج أنظمة الذكاء الاصطناعى، قد تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعى قادرة أيضا على تزويد القادة بقائمة من مسارات العمل القابلة للتطبيق بناء على التحليل اللحظى لساحة المعركة، ما يحسن جودة وسرعة اتخاذ القرار فى زمن الحرب والأزمات الكبرى.
وفى معركة التعامل مع الكم الضخم من المعلومات والبيانات فإن تجميع تلك المعلومات والبيانات هو نصف الحل فقط، أما النصف الثانى فهو قيام علماء الذكاء الاصطناعى وعلماء البيانات بتنظيمها وتخزينها بطريقة مثلى للتعامل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعى فيما بعد.
لذا، يحتاج علماء البيانات العاملون فى مجالات الأمن والدفاع إلى حلول لا تجمع البيانات ذات الصلة بكفاءة فحسب، بل تجمع أيضا أكبر قدر ممكن من البيانات المنظمة أو غير المنظمة ومن مصادر متنوعة، ليتم فرزها وفهرستها بصورة فعالة، لكى تكون قاعدة كبيرة تسمح ببناء نماذج تعلم وتحليل آلى ذات كفاءة عالية.فالذكاء الاصطناعى سلاح مهم فى العمليات العسكرية السيبرانية، وإن الاعتماد على العامل البشرى وحده فى مواجهة أخطار الفضاء السيبرانى يعد استراتيجية فاشلة، كما صرح بذلك قائد القيادة الإلكترونية الأمريكية الأدميرال"مايكل روجرز" فى إفادته أمام لجنة الدفاع بالكونجرس الأمريكى فى 2016.
كما تشمل تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى المجالات العسكرية والأمنية أيضا العمليات الاستخبارية والمراقبة والاستطلاع، كون الذكاء الاصطناعى له قدرة كبيرة على تحليل البيانات كما تم ذكره سلفا. وهناك مشروع "مافن" Project Mavenالذى تنفذه وكالة الاستخبارات الأمريكية، طبقا لما نشر فى التقرير الصادر من مركز أبحاث الكونجرس فى 10 نوفمبر 2020، الذى يهدف إلى تحليل بيانات يتم تجمعيها من الصور الملتقطة من الطائرات بدون طيار، بواسطة خوارزميات الذكاء الاصطناعى، لتحديد أى أنشطة عدائية والتعامل معها بناء على المعلومات التى تم تحليلها، بدلا من الاعتماد على العامل البشرى الأقل دقة والأكثر استهلاكا للوقت.
وكذلك قد يكون للذكاء الاصطناعى فائدة مستقبلية واضحة فى مجال الخدمات اللوجستية العسكرية؛ففى مجال صيانة النظم العسكرية المتقدمة، وخاصة فى أسلحة الجو والدفاع الجوى، يستخدم الذكاء الاصطناعى فى التنبؤ بالأعطال وعمل جداول الصيانة الوقائية تلقائيا وإبلاغها للأطقم الفنية لإجراء عمليات الصيانة اللازمة، بدلا من القيام بعمليات الصيانة طبقا لقواعد روتينية غير فعالة، أو القيام بالصيانة عند حدوث خلل فعلى فى الأنظمة، وهذا ما يجعل تلك الأسلحة قادرة على القيام بمهامها فى أى وقت مطلوب منها ذلك، مع توفير الجهد والمال فى آن واحد.
فى الماضى كان سباق التسلح فى مجالات مثل الفضاء أو الأسلحة النووية حكرا على الحكومات، أما سلاح القرن الحادى والعشرين "الذكاء الاصطناعى" فيتم تطويره فى شركات خاصة ناشئة يديرها شباب. لذا، على الحكومات أن تعى أهمية تقديم مزيد من الحوافز لتطوير التكنولوجيات البازغة لأهداف الأمن القومى، وعلى رأسها تكنولوجيات الذكاء الاصطناعى وتحليل البيانات العملاقة والأجيال الجديدة من شبكات الاتصالات، واستخدام تلك التكنولوجيات المطورة محليا داخل المنظومات الدفاعية لديها، لاكتساب مزيد من الخبرات المحلية وزيادة جودتها ومن ثم تصديرها، وفى الوقت نفسه حماية نطاقات الأمن القومى لها من خلال تقنيات وطنية لا يعرف الكثير عن أسرارها وكيفية عملها.
وكما كنت أقول، وما زلت أقول: من يمتلك التكنولوجيا فإنه يحمى حاضره ويصنع مستقبله،وهنا أتذكر رسائل الرئيس السيسى لشباب الدارسين فى كليات الذكاء الاصطناعى عند زيارته لجامعة كفر الشيخ فى ديسمبر 2021، فى أن عليهم الدخول بقوة فى هذا المجال؛ لأنه ببساطة هو المستقبل، وخاصة أن لدى مصر أيضا استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعى لتكون لاعبا جديدا على ساحة العلم والمعرفة والتقدم، لجلب الخير لمصر ودفع الشر عنها، فى هذا العالم شديد التعقيد شديد التنافسية.