إن أحداث المشهد الداخلي الروسي، التى ألقت بظلالها على تطورات الأزمة الروسية الأوكرانية، كانت بمثابة جبهة جديدة تفتح في الصراع الدائر هناك، والذي بدء من خلال بعض التصريحات القوية والمهاجمة للقيادة الروسية السياسية والعسكرية وبعض قادة القوات الروسية من قبل قائد قوات فاجنر، الذي يعد أحد الأذرع الرئيسة للرئاسة الروسية في حربها ضد أوكرانيا، بالإضافة إلى أنها أحد الأذرع الطويلة لروسيا في إفريقيا وبعض المناطق الأخرى، فبعد شهر من التصريحات الهجومية والتصريحات النارية التي قوبلت بهدوء حذر من قبل القيادة الروسية، تطور الموقف بتمرد حاد في الوضع الداخلي الروسي، والذي مثل جبهة جديدة من الصراع في المشهد الروسي - الأوكراني، عندما كانت روسيا على شفا حرب عسكرية داخلية هائلة كانت لتغير وجه الأوضاع الجيوسياسية في العالم، لو لم يتوقف التقدم ويتم إنهاء تلك الخطوات والمواقف التي وضعت وجهاً لوجه القوة الضاربة الخاصة للاتحاد الروسي وقوات الاتحاد المسلحة في موقف حرج سياسيا وعسكريا .لقد صعق العالم أجمع والقوى الدولية لحجم التحديات وسرعة التطورات التي حدثت هناك وكذلك الحالة التي اجتاحت القيادة الروسية، وبعد انتهاء تلك الجولة لا يزال غير أكيد ما ستؤول إليه الأوضاع الداخلية لدى هذه القوة النووية العظمى، فلا بد من تلخيص ماضي هذه التطورات غير المسبوقة واستشراف مستقبلها رغم إن المؤشرات التي دخلت على المشهد فيما بعد ذلك أكدت حسم الموقف على الأقل في هذه المرحلة لصالح القيادة الروسية.
إن فهم دلالات مسألة تمرد مؤسس "فاجنر" ثم انتهاء الأمر خلال 24 ساعة بتراجعه، وإخراج صفقة لجوء إلى بيلاروسيا بإشراف الرئيس لوكاشينكو حليف بوتين ستستمر فترة ليست بالقصيرة، فهو حدث أكبر من أن يمر مرور الكرام، كما أنه أكبر من أن يمر بتعريفات غربية للموقف وتكهنات البعض من هنا وهناك، تلك التي تتضمن قدراً من التعميم لأمر لا يمكن تجاهل حجم العبثية واللامعقول المحيط به.
ويصعب الاقتناع في المقابل بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كان شاهداً على هجمات بريجوجين المتكررة على وزير الدفاع منذ بدء التصريحات الغير المسئولة منه في الحرب الأوكرانية، قرر الوقوف على الحياد بين جيشه ومرتزقته، آملاً الاستفادة من صراع يحدث أمامه وإجراء التطهير اللازم في الوقت المناسب بهدف تعزيز موقعه وسلطته على رأس الاتحاد الروسي.
لقد تخطت أحداث الـ 24 من يونيو الماضي كل هذه التقديرات، وفهم بوتين الأمر على حقيقته وهو أنه ببساطة محاولة انقلاب تقوم بها ميليشيات خاصة أشرف على تأسيسها ورعايتها، واستعملها ذراعاً غير رسمية في توسيع نفوذ موسكو داخل مناطق عدة على رأسها الشرق الأوسط وإفريقيا، وجندها في حرب أوكرانيا ابتداء من ضم القرم عام 2014 لتصبح قوة بارزة في المعارك على الأرض بعد انطلاق التدخل الروسي في فبراير الماضي .
· "فاجنر" وسلطتها :
فيما بدأت القوات الروسية في التركيز على قوة ووحدة وتنظيم الجيش الروسي وتوزيعه بالطريقة التي تناسب الرؤية الاستراتيجية والقومية والعسكرية الروسية، والعمل على بناء قواه على الأراضي الوطنية وشن حملات عسكرية متعددة واسعة في كل من أوكرانيا وفي سوريا، تخصصت قوات "فاجنر" في قتال "الأخطار" البعيدة في دول أخرى، فنشرت قوات خاصة، كما تفعل الولايات المتحدة وفرنسا في قارات عدة من بوركينافاسو، إلى مالي، إلى أفريقيا الوسطى، وفي دول إفريقية أخرى، وصولاً إلى ليبيا، وتشارك في تدريب قوات في دول أميركا اللاتينية وآسيا، والمثير للاهتمام أن "فاجنر" ليست فقط ميليشيات تعمل تحت غطاء شركة أمنية قوية، ولكن هي باتت شركة استثمارات وتجارة دولية، وتحولت إلى إمبراطورية أمنية - مالية واسعة، وحركتها القيادة العليا لكي تنفذ سياسات موسكو الميدانية في العالم، حيث يصعب استعمال مؤسسات الدولة الرسمية، فهي باتت جيشاً خاصاً موازياً كذراع استراتيجية للرئيس بوتين.
· ما بعد التعاقد الأول:
في أولى مراحل التعاون بين وزارة الدفاع الروسية ومقاتلي "فاجنر" كان تعاونا جيداً ومتكاملاً، لأنه ينفذ أوامر القيادات في الكرملين، فكانت تحصل "فاجنر" على كل الدعم اللوجيستي والدبلوماسي والذي تطلبه تحركاتهم على الأرض في المواقع المختلفة، وكل الدعم الذي تريده من الدفاع والخارجية والاستخبارات، وكانت أجهزة الحكومة تحصل على دعم "فاجنر" في الأمور الخاصة والسرية وعلى "جبهات بعيدة"، واستمر التعاون بين وزارة الدفاع والشركة الأمنية مع انتشار وحدات "فاجنر" في سوريا لمؤازرة القوات الروسية والسورية، ومع نجاحات الشركة المستمرة في دول عدة، حصلت على دعم أكبر من رئاسة الدولة في موسكو، مما خلف بعض التسابق مع وزارة الدفاع، ولكن سرعان مع بدا الموقف يتغير تكتيكيا واستراتيجيا مع بدء الأزمة الروسية الأوكرانية في 2022، حتى تم الوصول إلى بعض ضواحي كييف، عاد المجد القومي لوزارة الدفاع التي حررت أراضي روسية .
مع اقتراب القوات الأوكرانية من مناطق الناطقين بالروسية في الشرق، وباتجاه القرم، شعر الكرملين بأن سقوط تلك المناطق الحساسة سيشكل ضربة معنوية وعسكرية كبيرة، بالتالي اتخذ قرار تسليم يفغيني بريجوجين قائد "فاجنر" جبهات داخل دونيتسك، بما فيها مدينة باخموت، ليشن هجوماً مضاداً بقواته الخاصة ويدفع بالقوات الأوكرانية إلى الوراء، ولأشهر تلقت "فاجنر" ما طلبته من وزارة الدفاع وصمدت في باخموت مع خسائر عالية، ونجحت في إزاحة الجبهة لصالح روسيا شيئاً ما، بينما كييف تتلقى أسلحة متطورة من "الناتو"، ولكن مع مرور الأسابيع، شعرت قيادة "فاجنر" بأنها لم تعد تتلقى السلاح والذخيرة بشكل كافٍ من القيادة في موسكو، وذهب بريجوجين إلى حد اتهام وزارة الدفاع بمنع الذخيرة عن قواته، وأتهم مسئوليها بقصف قواته في باخموت، فانفجرت أزمة قوية بين قيادتي الدفاع و"فاجنر" لأسابيع، ولم يحسن الكرملين حسمها، فالجيش أساسي لبوتين و"فاجنر" أنقذت الوضع على أرض المعركة، وعدم الحسم الرئاسي أدى إلى تطورات خطرة داخل روسيا.
· صراع مؤقت أم دائم؟
هنا يطرح سؤال في غاية الأهمية : هل ما حدث من قائد قوات فاجنر والتمرد الذي حدث ورد الفعل الذي تم من قبل القيادة الروسية، هل هو بداية صراع دائم أم سيكون صراعا مؤقتا؟! فالمتابع للأحداث وتسلسلها يجد أن رد فعل الرئيس بوتين في كونه لم يعاقب قائد التمرد ولا أتباعه واكتفى بإرسالهم إلى أرض حليفه لوكاشينكو، وعرض على أعضاء "فاجنر" نقل عقودهم إلى وزارة الدفاع، أو الخروج إلى منازلهم، فلم يتحدد مصير "فاجنر" بوضوح.
وفى الاتجاه الآخر وبالأخص بيلاروسيا يتحدثون هناك عن استضافتها في معسكرات بضواحي مينسك بقيادة بريجوجين الذي انتقل إليها بموجب الاتفاق مع موسكو، وقد يكون الاتفاق نص على إنهاء الدور القتالي الخاص للشركة، كما يسميها الكرملين، في الحرب الأوكرانية، أي في الداخل الروسي، لكن ماذا عن دورها في الخارج؟
يقول سيرجي لافروف إن عمل "فاجنر" مستمر في مالي وأفريقيا الوسطى، فإذا كان ذلك صحيحاً فإنه يعني أنها ستواصل عملها في دول أخرى مما يفرض بقاء صيغة "الشركة" دوراً وهيكلة قيادية، وربما استمرار بريجوجين على رأسها إلا إذا ارتأى بوتين أمراً مختلفاً، فسيلقى الطباخ مصير منشقين آخرين ويؤتى بقيادة أكثر ارتباطاً بالكرملين وجهاز السلطة واستخباراته.
رابط دائم: