يواجه زعماء دول وحكومات حلف شمال الأطلسى (الناتو) تحديات شديدة الصعوبة، خلال قمتهم المرتقبة، فى العاصمة الليتوانية "فيلنيوس" فى الحادى عشر والثانى عشر من يوليو الجارى.
يأتى هذا فيما تكشف الأوضاع السياسية والعسكرية المتوترة فى منطقة شرق أوروبا، عن حجم ورطة قيادات الناتو الـ31 (بعد انضمام فنلندا، رسميا، إلى منظومته فى الرابع من إبريل الماضى) إلى جانب تحديات أخرى، تواجه زعماء الحلف.
ولن يوجه الناتو دعوة رسمية لأوكرانيا للانضمام إلى الحلف، خلال قمة فيلنيوس، حتى لا يتورط الحلف فى حرب مباشرة مع روسيا، كون المادة "5" من المعاهدة التأسيسية تنص على أن "الهجوم على عضو واحد هو هجوم على الجميع".
ويعكس التمديد لأمين عام الحلف، ينس ستولتنبرج (64 عاما) لمدة عام إضافى، مدى ما وصل إليه التباين داخل الناتو؛ لدرجة عدم التوافق على شخصية جديدة، تشغل الموقع المرموق، الذى تناوب عليه كثيرون، خلال الـ75 عاما الماضية.
لم يعد القلق داخل الناتو منصبا على الجانب السياسى- العسكرى، فقط، فى ضوء الهواجس الأمنية، التى يتبدى بعضها فى التعزيزات الضخمة التى تشهدها مدينة، فيلنيوس، حاليا، عبر نشر أكثر 12 ألف مقاتل لتأمين اجتماعات الحلف.
وتتحسب قيادة الناتو لأى هجوم جوى (تقوم به طائرات أو صواريخ) على القادة المشاركين، ومن ثم، بادرت بتحريك نظام دفاع جوى (أرض- جو) مكون من صواريخ، سام، المتقدمة، من، لاتفيا إلى ليتوانيا (المتاخمة للحدود الروسية).
وترتبط التعزيزات الأمنية، بحجم المشاركة الكبيرة فى قمة "فيلنيوس" (نحو50 وفدا أجنبيا، بينهم رؤساء دول وحكومات ومسئولون عسكريون وأمنيون وقيادات سياسية) يبحثون أفق الحرب الأوكرانية- الروسية، وغيرها من القضايا الملحة.
ورغم تصدر الصراع الروسى- الأوكرانى جدول أولويات القمة المرتقبة لـ"الناتو"، فإن ملف انضمام السويد إلى منظومته تعد إحدى القضايا الحساسة المهمة داخل الحلف، فى ضوء عرقلة الأمر، حتى الآن.
ويعود هذا لتوظيف حق "الفيتو" الممنوح لكل الدول الأعضاء، (صغيرها، وكبيرها) ضد السويد، كما تم من قبل مع فنلندا، قبل حصولها على عضوية الناتو بضغوط أمريكية - أوروبية.
لكن لايزال طلب الالتحاق بحلف الناتو، الذى تقدمت به السويد، رسميا (18 مايو 2022) مجمدا؛ حيث تحمل ستوكهولم، حاليا، صفة "عضو مدعو" للانضمام إلى الناتو، وتنتظر العضوية الكاملة.
طوال مائتي عام، حافظت السويد على عدم الانحياز العسكرى، عبر الوقوف على الحياد، بين المعسكرين الشرقى بقيادة الاتحاد السوفيتى، والغربى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، حتى خلال زمن الحرب الباردة.
خلال الفترة المذكورة، لم تنحز السويد لحلف الناتو، أو حلف وارسو (قبل انهياره) عقب تفكك الاتحاد السوفيتى، مطلع التسعينيات من القرن الماضى؛ لكن القلق يطاردها، منذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، خشية "الخطط التوسعية الروسية"!
يتفاقم القلق السويدى، منذ تعهد روسيا بـ"اتخاذ إجراءات مناسبة –لم توضح طبيعتها- لحماية أمنها القومى حال انضمام السويد إلى حلف الناتو، كون وصول الناتو إلى الحدود الروسية مباشرة، يعد تهديدا للأمن القومى".
لا تنكر روسيا أن "انضمام السويد إلى حلف الناتو سيحدث تغييرات استراتيجية خطيرة ضد مصالحها فى بحر البلطيق.. سيسمح بتمدد نفوذ الحلف، وزيادة نشر المزيد من قواته، نحو4 أضعاف القوات الموجودة، حاليا".
تتابع موسكو من كثب محاولات الناتو فتح جبهة جديدة شمال غرب روسيا، ومساعى تحويل بحر البلطيق إلى بحيرة أوروبية؛ ما يهدد أنشطة القوات البحرية الروسية باتجاه المحيط الأطلنطى، وتجميد ميناءى: بطرسبورج، وكلينجراد الروسيين.
باتت موسكو على اقتناع، بأن "عضوية السويد ليست لتعزيز الأمن المشترك للناتو، بل هى مخطط لاستهداف الأراضى الروسية، مستقبلا، وهو أمر يعنى زيادة كلفة الردع العسكرى المضاد، نشر فرق عسكرية وأنظمة دفاع جوى، روسية، فى المقابل".
القلق الروسى، مرتبط باستراتيجية الناتو، ومحاولاته استنزاف روسيا، وإجبارها على التأمين الإضافى لحدودها الحرجة غربا (نحو3531 كم) مع 4 دول (أوكرانيا، فنلندا، استونيا، لاتفيا) تتحالف مباشرة وبطريق غير مباشر مع الناتو.
من هنا، نفهم لماذا عدل، بوتين، العقيدة البحرية الروسية، عما كانت عليه، فى يوليو 2015، من توجه اقتصادى بحت (تعزيز نشاط النقل البحرى، الكشف عن الموارد الطبيعية، تكثيف البحوث العلمية البحرية، والاهتمام بالنشاط العسكرى البحرى).
التعديلات الجديدة على العقيدة البحرية الروسية، تركز على أولوية الردع العسكرى، بعدما أصبحت الهيمنة البحرية الأمريكية تشكل تحديا رئيسيا للأمن القومى الروسى، وضرورة وجود عدد من القواعد ونقاط التمركز خارج الحدود.
العقيدة الجديدة، ستركز على "ضرورة التوسع فى بناء حاملات الطائرات الحديثة، ووجود نقاط لوجيستية خارجية، والاهتمام بتأمين الملاحة البحرية فى مضايق الكوريل والبلطيق والبحر الأسود، فضلا عن شرق البحر المتوسط، والبحر الأحمر".
وتستهدف التحركات الروسية الجديدة التغلب على محاولات الحصار الغربية، حتى لا تتأثر عمليات الفتح الاستراتيجى، وتكوين الاحتياطيات، والقيادة والسيطرة، فضلا عن جهود التأمين القتالى والفنى واللوجيستى الروسية.
يجاهد حلف الناتو، من أجل البقاء كأحد أهم التحالفات العسكرية- الأمنية، عالميا، رغم ما يواجهه من أزمات وتحديات (تراجع دور الولايات المتحدة فى منظومة الأمن الدولى، وحدة التنافس بين الغرب –الأوروبى، الأمريكى- وروسيا، وحلفائها).
ويراهن حلف الناتو على حدوث تفاهمات سياسية جديدة، تدعمها التوجهات الحاكمة التى تُعزز المسار المعرض لانضمام السويد، الذى بدأ قبل فترة التهدئة الإقليمية، وقد يفتح الباب أمام مرحلة إقليمية جديدة للتنسيق بين الدول لحماية المصالح المشتركة.