فى خضم الأزمات الاقتصادية العالمية، التى تعاصرها الجماعة الدولية لا سيما الدول النامية منها، يتحتم على النظام العالمى الاحتكام إلى نظام مالى جديد، من شأنه معالجة الأوضاع أو على الأقل التخفيف من حدتها، وربما انطلاق القمة المالية العالمية التى استضافتها باريس "ميثاق التمويل العالمي الجديد" جاء لأسباب اقتصادية بحتة، تمثل أبرزها فى تراجع المؤشرات الاقتصادية لدى كبرى الاقتصادات، وربما قبيل الناشئة، غير أن النظام المالى التقليدى الذى ولد من رحم اتفاقية بريتون وودز، ومع إنشاء المؤسسات المالية والمصرفية الدولية 1944، لم يعد مناسبا والتغيرات الاقتصادية الهائلة التى نواكبها، فثمة دول بعينها أصبحت مطالبة سنويا بما يجاوز التريليونين لمواجهة هذه الأوضاع والقضايا المتعلقة بقضايا الفقر والمناخ.
مستهدفات القمة:
تبحث فرنسا عن دور دولى، وهو ما اتضح على نحو جلى منذ دعوتها لإقامة جيش أوروبى، أيضا تحركاتها البارزة تجاه الأزمة الروسية - الأوكرانية، خصوصا أن ماكرون يجابه تطورات حادة على مستوى الداخل الفرنسى، ونظام المعارضة لسياساته لا سيما المتعلقة بقوانين سن التقاعد وغيرها، ومن ثم فإن تحركاته بصدد النظام العالمى، تمت صياغتها بناء على هذا الأساس، ومن ثم انطلقت دعوة باريس إلى إنشاء نظام مالى عالمى جديد، تتلخص فلسفته فيما عرف بالصدمة المالية، المفهوم الذى تبناه الرئيس الفرنسى، على أساس أن النظم المالية التقليدية لم يعد بإمكانها، إسعاف الدول الفقيرة. وبناء عليه، فإن الأمر يتطلب صدمة أو تغييرات حادة فى طبيعة هذه النظم، ومن ثم الاحتكام لنظام مالى جديد يفترض المسئولية والمشاركة التضامنية بين الاقتصادات مجتمعة، سواء الخاصة بالكبار أو اقتصادات الدول النامية.
القناعات المصرية:
تخوض مصر حربا شرسة مع الأوضاع الاقتصادية، وتسعى فى مجابهة تداعياتها على المستويين الداخلى والخارجى، ما أكسبها تمرسا واضحا فى التعامل مع النظم الاقتصادية المختلفة، فى ضوء برنامجها الاقتصادى الذى خاضته منذ 2016، وربما القراءة الجيدة لكلمة الرئيس السيسى خلال القمة، بإمكانها إيضاح عدة من الدلالات تم خلالها تسليط الضوء على سياقات فكرة استحداث هذه النوعية من النظم المالية، التى نبعت بالأساس خلال استضافة مصر لقمة الدول الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP27) فى شرم الشيخ، وفيها تم تأكيد كيفية تدبير مواجهة تداعيات التغيرات المناخية.
فعالية كلمة الرئيس السيسى هنا تمثلت فى تحركه من منطلقين، الأول انتهج من خلاله وضع المجتمع الدولى فى الصورة وربما الكبار منه، وهو ما ظهر على نحو جلى فى المصارحة معه، والمنطلق الآخر برز فى وضع آليات التحرك، فقط إذا ما أراد هذا المجتمع المعالجة الفعالة لهذه الإشكاليات، ولعل حجم المصارحة هنا تم الكشف عنه، تحديدا فى الإشارة الصريحة لمسئولية الدول الكبرى عن العديد من الآثار السلبية لمعظم القضايا والأعباء التى يواجهها المجتمع الدولى نفسه، ملزما إياه بضرورة التحرك فى قوله: "الواقع الجديد الذى نعيشه يفرض على الجميع التكاتف لتعزيز النظام المتعدد الأطراف، ليصبح أكثر استجابة لاحتياجات الدول النامية، وأكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات، مما يمكن من مجابهة تحديات تغير المناخ، التى لم نكن المتسبب الرئيسى فيها، ولكن نحن الأكثر تضررا منها".
استكمالا لهذه المصارحة، وضع الرئيس خطة التعامل السريع مع الأزمات الاقتصادية المعاصرة، تمثلت فى عدة خطوات، أهمها البدء الفورى فى وضع آليات شاملة لمعالجة المديونيات، والأهم التوسع فى مبادلة هذه الديون، أيضا طالب الرئيس بضرورة تطوير السياسات المالية والمصرفية للمؤسسات الدولية وبما يتيح لها المقدرة الكاملة على معاونة الاقتصادات الناشئة والنامية، غير أن التنمية المستدامة برزت ضمن أهم المفاهيم التى تطرق إليها الرئيس، لا سيما فى توجيهاته بضرورة تعزيز تمويلاتها، وفى الإشارة إلى الدور المصرى فى استهداف هذه النوعية من التنمية والفاعلة فى مجال حماية البيئة، عبر مشروعها الذى تمكنت من خلاله فى تحويل بعض البحيرات إلى بحيرات صديقة للبيئة.
إشكاليات معاصرة:
وبحسب تقارير صندوق النقد الدولى، تحديدا آفاق الاقتصاد العالمى لـ 2023، اتجهت معظم التحليلات إلى توقع احتمالية هبوط النمو من 3,4% فى 2022 إلى 2,8% فى 2023،قبل أن يستقر عند 3,0% فى 2024، غير أن الاقتصادات الكبرى من المتوقع أن تشهد تباطؤا ملحوظا بصفة خاصة فى النمو، من 2,7% فى 2022 إلى 1,3% فى 2023.
وثمة اتجاهات أخرى تتوقع احتمالية تراجع النمو العالمى إلى نحو 2,5% فى 2023 مع هبوط النمو فى الاقتصادات المتقدمة إلى أقل من 1%، أما القاعدة فى الأمور فتبرز احتمالية انخفاض التضخم الكلى العالمى من 8,7% فى 2022 إلى 7,0% فى 2023 على خلفية انخفاض أسعار السلع الأولية، مع استبعاد عودة التضخم إلى مستواه المستهدف قبل عام 2025 فى معظم الحالات.
وتأتى كل التوقعات فى ضوء الإشكاليات المعاصرة سواء المتعلقة بالحرب الروسية - الأوكرانية، أو حتى الجائحة، فرغم اقتراب نهايتها لكن ما زالت لها آثارها، أضف إلى ذلك تراجع موارد الطاقة، ومن ثم توقف العديد من الصناعات وقطاعات الإنتاج أو على الأقل انخفاض إنتاجيتها، وجميعها أسهمت بشكل أو بآخر فى تراجع معظم المؤشرات الاقتصادية.
السيناريوهات المنتظرة:
مع تفاقم الأزمات وضعف الدول منفردة على المواجهة دون تكاتف واضح، يسود المجتمع الدولى حالة من الترقب لمخرجات هذه النوعية من القمم، ومن المتوقع عدة سيناريوهات، تحديدا فيما يخص التعامل الدولى مع هذه الإشكاليات، فى ضوء المخرجات المحددة، ومدى التزام الكبار بالمبادرات التى تم إعلانها. وللمفارقة، فإن جميع قرارات القمة ليست ملزمة لأى جهة، وهنا المأزق! وإن جاءت معظم المبادرات على قدر يذكر من الثقل وأهمها مبادرة بنك التنمية الذى سيسمح للدول المتضررة بالتوقف عن سداد الديون، إلى جانب التمويلات التقليدية من قبل المؤسسات المصرفية الدولية والدول الكبار، وتجاوزت الـ 200 مليار دولار.
وعلى هذا الأساس، فإن السيناريو الأول يتجه ناحية بحث كيفية إلزام الكبار، سواء دول أو جهات اعتبارية، بقرارات القمة الأخيرة، مع تفعيل أدوارها فى ضوء المستهدفات التى انطلقت لأجلها، وفى مقدمتها مواجهة قضايا الفقر والتغيرات المناخية، مع دعم ومساندة الدول واقتصاداتها النامية.
أو أن يتم تنظيم تحالفات تضم اقتصادات مجمعة، بين نامية وناشئة ومعهما اقتصادات كبرى تكون قادرة إلى حد ما على المجابهة والصمود، تنطلق بالأساس من أجل معالجة هذه الأزمات على وجه التحديد، وأن تتولى مسئوليات تضامنية وتبادلية تقتضى توزيع المهام والالتزامات فيما بينها على اعتبارات أهمها القدرات والإمكانات الاقتصادية، إلى جانب الموارد المتاحة لدى الدول المكونة للتحالف، كل بحسب موارده.
وفى الحالتين تظل المتابعة الدولية لأى مخرجات وتوصيات مطلبا ملحا وآلية مهمة، كبحا لجماح تطورات المواقف وتراجع المؤشرات.