تحتفل مصر وروسيا فى 26 أغسطس المقبل بالذكرى الثمانين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ويأتي الاحتفال بهذه الذكرى في وقت تسارع روسيا الخطى نحو توثيق التعاون مع إفريقيا، من خلال بلورة رؤية استراتيجية متكاملة تكون مصر حجر الزاوية في تنفيذها، بحيث تمثل اتفاقية الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي الثنائي منطلقا لعمل أوسع من أجل تعزيز الأمن والاستقرار في دول القارة الإفريقية وتحقيق أهدافها التنموية. وعكس تنظيم قمة روسيا إفريقيا الأولى في منتجع سوتشى عام 2019 برئاسة الرئيسين المصري والروسي تلك المساعي لتدشين مرحلة جديدة من العلاقات بين موسكو والقارة السمراء مرتكزة على البوابة المصرية ذات الموقع الاستراتيجي والعلاقات التاريخية الطيبة مع الدول الإفريقية.وقد لخص الرئيس السيسى نتائج قمة روسيا إفريقيا الأولى في المؤتمر الصحفي الختامي بأنها "تضع خريطة طريق لتعزيز العلاقات". واستكمالا لهذه الخطوات وتنفيذا لتلك الاستراتيجية الجديدة، تستعد روسيا حاليا لعقد النسخة الثانية من القمة خلال الفترة من (26-29) يوليو المقبل بمدينة سان بطرسبرج. التحليل التالي يلقى الضوء على العلاقات المصرية الروسية وما حققته من نتائج بعد ثمانين عاما وما يشكله هذا الرصيد الثنائي من فرص لفتح آفاق جديدة للتعاون متعدد الأطراف مع دول القارة الأفريقية.
عادت العلاقات المصرية الروسية إلى طبيعتها الاستراتيجية منذ توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين عام 2015 التى دخلت حيز التنفيذ عام 2021. ويشمل التعاون الثنائي بين مصر وروسيا كل المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والعلمية. لكن العلاقات التاريخية بين مصر وروسيا تعود إلى عقود طويلة سابقة على الرغم من أنها لم تكن على نفس الوتيرة من التعاون طيلة تلك العقود. وفيما شهدت تقاربا كبيرا خلال الفترة الناصرية؛ حيث كان الاتحاد السوفيتى حليفا رئيسيا لمصر، تراجعت العلاقات في المقابل خلال فترة حكم الرئيس السادات الذي اتخذ قرارا بطرد 20 ألف خبير روسي، ثم أصبحت دبلوماسية "فاترة" في عهد الرئيس مبارك. وعادت مصر وفتحت آفاقا جديدة واسعة للتعاون المشترك خلال السنوات العشر الماضية، تحديدا منذ تولى الرئيس السيسى الحكم فى 2014. وظهرت بعد ذلك فرص أكبر للتعاون متعدد الأطراف ترتكز على رصيد العلاقات الثنائية لفتح آفاق جديدة للشراكة مع الدول الأفريقية، تماشيا مع بلورة الاستراتيجية الروسية في التوجه نحو إفريقيا ومحاولة هدم معبد القطب الواحد في العلاقات الدولية.
دور مصر في نظام متعدد الأقطاب:
ترى روسيا أن مصر يمكن أن تؤدى دورا رئيسيا فى النظام العالمى الجديد الذى تسعى موسكو بقوة لإنشائه منذ احتدام الصراع فى أوكرانيا ومحاولة حلف الناتو استقطاب وضم دول مجاورة لروسيا، معتمدة على مفهوم تنوع وتعدد الأقطاب، وتدعم روسيا دور القارة الإفريقية كأحد تلك الأقطاب فى النظام العالمى الجديد المأمول. ومن جهتها، تسعى مصر التى تتمتع بموقع متميز كحليف قديم للولايات المتحدة إلى الحفاظ بعناية على علاقات وثيقة مع قوى أخرى من أجل الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية. وهى فى ذلك تدرك أن تنوع علاقاتها وتعدد حلفائها أحد السبل للفكاك من شروط العلاقة مع الولايات المتحدة؛ حيث إن الأخيرة دأبت على استخدام المعونة لزيادة نفوذها تجاه القرار المصرى والتلويح بوقفها بين الفينة والأخرى كمحاولة منها لإملاء بعض شروطها والتدخل فى الشأن الداخلى، على الرغم من أن المعونة الأمريكية -بما فى ذلك المساعدات العسكرية-جاءت عقب اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979 التى كانت تهدف لنشر السلام والاستقرار فى المنطقة.
مزايا انضمام مصر لـ "البريكس":
للمزيد من تنويع شركائها، سعت مصر رسميا فى أبريل 2023 للانضمام إلى تجمع البريكس ما يتيح لها المزيد من الأسواق غير التقليدية لمنتجاتها واستخدام العملات المحلية لسداد وارداتها من روسيا والهند والصين، وهى الأعضاء الرئيسية فى البريكس. يأتى ذلك فى وقت زاد فيه الضغط على طلب الدولار مع الدعوة للتخلى عن العملة الأمريكية فى تسوية التجارة الخارجية فى ضوء انضمام المزيد من الدول إلى هذا تجمع البريكس، وأصبحت مصر أحدث الوافدين عليه بما يمثله ذلك من تخلعن الدولار فى التجارة مع العديد من الدول الأعضاء فى الكتلة الاقتصادية للبريكس.
تشكل دول البريكس 40٪ من سكان العالم ونحو ثلث الاقتصاد العالمى، وتجاوز أعضاء المجموعة فى الآونة الأخيرة مجموعة السبع من حيث النمو الاقتصادى. وأعربت 19 دولة فى الآونة الأخيرة عن رغبتها فى الانضمام إلى مجموعة البريكس التى من المقرر أن تعقد قمتها السنوية الخامسة عشرة فى جنوب إفريقيا فى الفترة من 22 إلى 24 أغسطس المقبل، كما تدرس أيضا إنشاء عملة جديدة بديلة عن الدولار لتسهيل التجارة. وتشمل الدول التى طلبت عضوية البريكس رسميا الإمارات العربية المتحدة، والأرجنتين، والجزائر، والبحرين، وإندونيسيا، والمملكة العربية السعودية، وإيران، إضافة إلى مصر.
حلم المشروع النووي :
من أكبر المشروعات الواعدة بين مصر وروسيا إنشاء محطة الضبعة النووية لتوليد الكهرباء التى تعيد إحياء الحلم النووى المصرى الذي انطلق عام 1956 بتوقيع الرئيس جمال عبد الناصر عقد اتفاق مع الاتحاد السوفيتى بتكلفة 30 مليون دولار للتعاون فى مجالات الطاقة الذرية، ومنها تحلية المياه وتوليد الكهرباء، غير أن المشروع توقف تماما مع نكسة 1967 كغيره من المشروعات القومية. لكن في فبراير 2015 أصبح الحلم حقيقة، عندما وقع الرئيس عبد الفتاح السيسى مع نظيره فلاديمير بوتين اتفاقية إقامة أول محطتين نوويتين لتوليد الكهرباء بأرض الضبعة كمرحلة أولى تستوعب حتى 8 محطات نووية تنفذ على 8 مراحل؛ وقد أعطيت إشارة البدء لبناء المرحلة الأولى في يوليو 2022، وتستهدف إنشاء محطة تضم 4 مفاعلات نووية لتوليد الكهرباء بقدرة 1200 ميجا وات بإجمالي قدرات 4800 ميجا وات. وتصل تكلفة المحطة إلى 5 مليارات دولار للمفاعل الواحد بإجمالي 20 مليار دولار وتنفذها شركة روس آتوم الروسية التي فازت بالعرض المقدم من بين 6 عروض من شركات أخرى "نتيجة تناسب هذا العرض مع مصالح مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية"، مع ملاحظة أنه وفقا للعقد الموقع هناك مزايا عدة منها "تولى مصر سداد قيمة المحطة النووية بعد الانتهاء من إنشائها وتشغيلها". إضافة إلى ذلك، يتم إنشاء مصانع روسية في مصر لتصنيع مكونات المحطة النووية محليا ما سيعمل على تطوير الصناعة المحلية في مصر حيث تصل نسبة التصنيع المحلى إلى 25% ما يسمح بإدخال تكنولوجيا الطاقة النووية للبلاد وبناء كوادر مصرية في هذا المجال ويستوعب المشروع 1400 عامل بين مهندسين وفنيين وإداريين.
نمو التجارة البينية:
سجل حجم التبادل التجارى بين مصر وروسيا زيادة مطردة، معتمدا فى جانب منه على النمو فى عدد الشركات الروسية المسجلة فى مصر التى قاربت الـ 500 شركة. وبلغ حجم التجارة 17.8 مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية، وفقا لبيانات البنك المركزي المصري، منها 6 مليارات دولار في عام واحد (2022). وسجلت الصادرات المصرية إلى روسيا نموا بنسبة 21% إلى 544.1 مليون دولار في الفترة من يناير إلى نوفمبر 2022، ارتفاعا من 449.4 مليون دولار خلال نفس الفترة من عام 2021، وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وتعد واردات القمح هى "حجر الزاوية" في العلاقة بين القاهرة وموسكو حسب وصف وزير الخارجية المصري سامح شكرى خلال زيارته فى الآونة الأخيرة لموسكو، وتحتل روسيا المرتبة الأولى كأكبر مورد أجنبى لسوق القمح المصرى.
قامت روسيا بتوريد ما يصل إلى 5.9 مليون طن من القمح، كما تعتزم روسيا تسليم مصر 3 ملايين طن أخرى من القمح بحلول 30 يونيو الجارى، وفقا لتصريحات سفير روسيا لدى القاهرة، جيورجى بوريسينكو، خلال الندوة التى نظمتها سفارة بلاده في الآونة الأخيرة عن التعاون الإعلامي الروسي الإفريقي. ومن المتوقع أن يشهد التبادل التجاري والاستثمارات خلال الفترة المقبلة طفرة متوقعة بحسب مراقبين، خاصة بعد أن أدرج بنك روسيا الجنيه المصري في يناير 2023 من بين العملات التسع التي تحددها أسعار الصرف الرسمية، وذلك لتسهيل المعاملات البينية خاصة فى ضوء أن روسيا هى خامس أكبر شريك تجارى لمصر وفقا للجهاز المركزي للإحصاء. كما يتوقع مراقبون أن تكون التجارة بالروبل والجنيه مكسبا لكلا البلدين بالنظر إلى الضغوط على طلب الدولار في مصر والعقوبات الغربية المفروضة على موسكو. وبالإضافة للحبوب، بدأت مصر في استيراد زيت الطهى الروسى، وهو أرخص من الزيوت الماليزية والإندونيسية. كما تشمل واردات مصر من روسيا أيضا الصلب والنحاس والخشب والوقود المعدني والآلات والمعدات الكهربائية والقاطرات وعربات الشحن ومعدات السكك الحديد. أما الصادرات المصرية إلى روسيا فتشمل الأسمنت والكبريت والبلاستيك والملح والصابون والخضراوات والفواكه.
وعلى صعيد السياحة، يتم تشغيل ثلاث رحلات يومية بين القاهرة وموسكو، بالإضافة إلى طائرات مستأجرة من المدن الروسية إلى المنتجعات المصرية مباشرة. واحتلت مصر المرتبة الثانية بين المقاصد الأجنبية الأكثر شعبية للسياح الروس بحسب تصريحات السفير الروسي بالقاهرة خلال الندوة الإعلامية، الذي أشار إلى زيارة نحو مليون سائح روسي مصر عام 2022، متوقعا أن يتضاعف هذا العدد خلال العام الحالي.
على صعيد التعاون في مجال التعليم، يبلغ عدد الطلاب المصريين الذين يدرسون في الجامعات الروسية 16 ألفا وفقا لشريف جاد رئيس الجمعية المصرية لخريجي الجامعات الروسية والسوفيتية ومسئول النشاط الثقافي بالبيت الروسي بالقاهرة، مؤكداخلال ندوة عن التعاون الإعلامي الروسي الإفريقي، أن العديد من مؤسسات التعليم الجامعى الروسية عبرت عن رغبتها فى فتح فروع لها فى مصر في الآونة الأخيرة.
تعاون ثلاثى (مصرى –روسى -إماراتى):
آخر ما تم إعلانه في مجال التعاون المصري الروسي خلال منتدى بطرسبورج الاقتصادى الدولي (14-17 يونيو 2023) دخول الإمارات كشريك ثالث في إنشاء منطقة صناعية بالمنطقة الاقتصادية لقناة السويس. جاء هذا المقترح على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الإماراتي الشيخ محمد بن زايد، الذي كان ضيف شرف المنتدى؛ حيث اتفقا على بلورة هذا المقترح مع الرئيس المصري. وتستند هذه المبادرة إلى كون مصر تتمتع بفرص استثمارية واعدة وسوق واسعة، إضافة إلى كونها بوابة إفريقيا وتستطيع أن تكون قاطرة تنمية حقيقية في كل المجالات لدول القارة، خاصة الموقعة على اتفاقية التجارة الحرة مع مصر، وكذلك اتفاقية السوق المشتركة لدول الشرق والجنوب الإفريقي (الكوميسا). وهو ما يعطى فرصا إضافية لنجاح المنطقة الصناعية الجديدة التي ستتمكن من تسويق منتجاتها بهذه الأسواق الإفريقية. كما أن الإمارات التي تتمتع بعلاقات وطيدة مع مصر وتضخ استثمارات كبيرة بها تستطيع أن تكون بوابة الدخول إلى دول مجلس التعاون الخليجي، خاصة في ضوء التنامي المتزايد لحجم التبادل التجاري بين الإمارات وروسيا العام الماضي 2022، الذي وصل إلى مستوى قياسي بتسجيله نموا بنسبة 68%، أي ما يعادل 9 مليارات دولار، وفقا لتصريحات نائب رئيس الوزراء الروسي ووزير الصناعة والتجارة، دينيس مانتوروف، لوكالة سبوتنيك.
هكذا، فإن التطور متعدد الأوجه مع دول القارة السمراء يعد أولوية للسياسة الخارجية الروسية حاليا، كما لخصه الرئيس بوتين خلال استقباله وفد الدول الإفريقية لتسوية الصراع فى أوكرانيا، وهو يتلاقى مع نفس النهج الاستراتيجى الذى تتبعه مصر لدفع علاقاتها مع دول القارة على أساس الشراكة والتكامل دون غلبة لطرف على حساب الآخر. ومن المتوقع أن تثمر هذه المساعى المزيد من النتائج الإيجابية لكل أطراف الشراكة خلال قمة روسيا إفريقيا الثانية يوليو المقبل.