الفرص والتحديات فى مواجهة الفجوة «الدولارية»
18-6-2023

ا. عبد المـحسن سـلامة
* رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام

خلال الجلسة الحوارية فى المؤتمر الوطنى للشباب، الذى عقد الأربعاء الماضى، أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى ضرورة العمل معا، وبكل قوة، لتخفيض الفجوة الدولارية الناتجة من زيادة فاتورة الاستيراد بشكل مضاعف عن فاتورة التصدير.

الرئيس كان صريحا وواضحا كعادته حينما خاطب الرأى العام، وكشف عن حجم الفجوة «الدولارية» الكبيرة، وضرورة تقليلها، لأن الدولة لن تستطيع التقدم بشكل حقيقى إلا بتقليل تلك الفجوة، مشيرا إلى «أن الدولة ليست ملكا للحكومة، ولا ملك أحد، وإنما ملكنا جميعا».

على الجانب الآخر، فقد طمأن الرئيس الرأى العام بشأن شائعات المضاربين على أسعار الدولار، وأنه لن يكون هناك أى تحرك من أى نوع إلا وفق ما تقتضيه المصلحة العليا التى لا تتعارض مع الأمن القومى لمصر.

«الفجوة الدولارية» ليست جديدة، لكنها مشكلة قديمة ومتجددة منذ أكثر من سبعة عقود، تزداد أحيانا، وتهدأ أحيانا أخرى، تشتعل وتزداد وقت الحروب والأزمات المالية العالمية التى تنعكس سلبيا على الاقتصاد المحلى مثلما حدث فى الستينيات والسبعينيات بسبب تداعيات حربى 67 و73، وكذلك فى 2008 وقت الأزمة الاقتصادية العالمية.

المعاناة الكبرى عاشها الاقتصاد المصرى بعد 2011، حينما توقفت عجلة العمل والإنتاج، وأصيب الاقتصاد المصرى بالشلل، ومن ثم تم استنزاف الاحتياطى من العملات الصعبة.

لم يكن هناك مفر من مواجهة الأزمة فى 2016، حينما تم إجراء المرحلة الأولى من الإصلاح الاقتصادى بنجاح، بعد أن شهدت أسواق الصرف فترة طويلة من الاضطراب وعدم الاستقرار.

تحركت مصر بقوة فى ملف الإصلاح الاقتصادى بكل أشكاله، حتى جاءت أزمة كورونا، وبعدها الحرب الروسية - الأوكرانية، لتتفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية، وتنعكس سلبيا على الاقتصاد المحلى.

لم تنج دولة واحدة على مستوى العالم من آثار تلك الأزمة الاقتصادية العالمية اللعينة، وإن تراوحت شدتها وتأثيرها بين اقتصاد وآخر.

حتى الاقتصاد الأمريكى، الأكثر قوة والأكبر والأضخم على مستوى العالم، مازال يعانى بشدة من الأزمة الاقتصادية العالمية، وما أزمة رفع سقف الدين الأمريكى ببعيدة.

تلك الأزمة التى جعلت العالم كله يقف على أطراف أصابعه، انتظارا للانفراجة التى حدثت أخيرا بموافقة الكونجرس على اتفاق، لرفع حد الاقتراض قبل أيام قليلة من حلول الموعد النهائى الذى كان سيجعل الاقتصاد الأقوى فى العالم يتخلف عن سداد ديونه، البالغة 31٫4 تريليون دولار.

اعترف الرئيس الأمريكى، جو بايدن، فى أول خطاب له بعد تلك الأزمة من المكتب البيضاوى فى بداية الشهر الحالى، بأن الاتفاق أسهم فى تفادى «انهيار الاقتصاد»، مشيرا إلى أن تعثر الولايات المتحدة عن سداد الدين، الذى يبلغ حده الأقصى 31٫4 تريليون دولار، فى الموعد المحدد كان من الممكن أن يؤدى إلى «كارثة».

مصر ليست استثناء من الوضع الاقتصادى العالمى «المأزوم»، لكن من المهم أن تكون هناك إستراتيجية مستقبلية، للإفلات من تلك الأزمات، والتقليل من آثارها إلى أدنى حد ممكن.

هذه الإستراتيجية بدأت الحكومة فعليا العمل عليها من خلال التوسع فى استصلاح واستزراع الأراضى، والبدء فى خطة «طموح» للصناعة المصرية، وتحويل مصر إلى مركز إقليمى للطاقة، وكذلك تحويلها إلى مركز إقليمى للتجارة العالمية، إلى جانب تنمية القطاعات الأخرى، وذلك كله بهدف تعظيم وتنويع مصادر النقد الأجنبى، والعمل على زيادة قيمة الصادرات المصرية، للوصول إلى حلم الـ«100 مليار دولار صادرات سنويا» خلال المرحلة المقبلة، بالإضافة إلى تخفيض الواردات إلى أدنى حد ممكن، بما يؤدى فى النهاية إلى ردم الهوة السحيقة بين فاتورتى الاستيراد والتصدير.

نتيجة كل تلك الجهود، عدل البنك الدولى، فى تقرير، توقعاته لنمو الاقتصاد المصرى خلال العامين المقبلين (من 2023 إلى 2025)، مؤكدا أن مصر ستظل محتفظة بالصدارة فى معدلات النمو خلال تلك الفترة، ومتوقعا نمو الاقتصاد المصرى خلال العامين الحالى والمقبل (2023/ 2024) بنسبة 4٪، وزيادة هذه النسبة إلى 4٫7٪ خلال 2025.

حذر البنك الدولى، فى التقرير نفسه، من عدم الاستقرار فى الاقتصاد العالمى، لكنه أوضح أن الاقتصاد العالمى سوف يبدأ رحلة التعافى خلال العام المقبل، وسط توقعات بمتوسط نسبة نمو نحو 2٫4٪، وتراجع معدلات التضخم العالمى المرتفع بشكل تدريجى.

الخميس الماضى، الذى شهد افتتاح محطة «تحيا مصر» المتعددة الأغراض فى ميناء الإسكندرية، كان متصلا بالجهود الدءوبة التى تقوم بها الدولة، لإعادة هيكلة اقتصادها الوطنى، وتقليل الفجوة الدولارية من خلال زيادة حصيلة العملات الصعبة، لتغطية العجز الحالى.

للأسف الشديد، فإن هدف تحويل مصر إلى مركز إقليمى للتجارة العالمية تأخر كثيرا، ويكفى أن نعرف، كما أوضح الرئيس عبدالفتاح السيسى فى مداخلته خلال افتتاح محطة «تحيا مصر»، أن هناك نحو 12٪ من إجمالى التجارة العالمية يمر عبر شرايين الملاحة المصرية، لكن لم تكن هناك استفادة من تلك الميزة الإستراتيجية، ومن هنا جاءت خطة تطوير الموانى المصرية، وإضافة موانٍ جديدة، وتطوير الموانى الحالية، ليكون كل ذلك أدوات جذب لكبريات الشركات العالمية فى هذا المجال.

تحقق هذا بالفعل فى ميناء الإسكندرية، الذى توقفت فيه الحياة نحو 25 عاما متصلة، بعد أن ظل بلا تطوير أو تحديث طيلة هذه السنوات الطويلة، حتى تم وضع خطة متكاملة، لتحديثه فى أقل من عامين، وشمل ذلك إضافة 18كيلو متر أرصفة للميناء، بما يوازى ضعف مساحته 100٪ تقريبا.

ليس هذا فقط، بل تمت إضافة منطقة لوجستية متكاملة بحوض «المتراس»، مما سيسهم فى تحقيق أقصى استفادة ممكنة من كعكة التجارة العالمية، سواء من خلال تجارة الترانزيت أو الاستفادة من إعادة تصنيع جزء من هذه البضائع وإعادة تصديرها مرة أخرى، بما يؤدى فى النهاية إلى جذب كبريات الشركات العالمية العاملة فى هذا المجال، وزيادة العائد المتوقع للموانى المصرية خلال المرحلة المقبلة.

أكد ذلك المعنى رودولف سعادة، الرئيس التنفيذى لشركة الخطوط الملاحية الفرنسية العالمية، إحدى كبرى الشركات العالمية فى هذا المجال، والذى عبر عن سعادته بحجم الإنجاز الهائل الذى تحقق خلال عامين فقط، مؤكدا فى الوقت نفسه توافق الشركة مع رؤية الحكومة المصرية على جعل مصر مركزا لوجستيا عالميا، بما يعزز دور مصر الإستراتيجى، وقيادتها منطقة الشرق الأوسط فى هذا المجال.

هذه الجهود وغيرها تدخل ضمن رؤية إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى، وتحقيق التوازن بين الأنشطة الاقتصادية «الريعية»، من تجارة وسياحة وخدمات، والأنشطة الاقتصادية الإنتاجية، من زراعة وصناعة وتكنولوجيا، بما يضمن زيادة وتنويع موارد العملات الصعبة، والعمل بكل قوة على تقليل الفجوة بين فاتورة الصادرات والواردات.

تحقيق هذه الرؤية يضمن علاج الخلل الاقتصادى الذى يعانيه الاقتصاد المصرى منذ عدة عقود بسبب الجمود والانغلاق تارة، والانفتاح العشوائى تارة أخرى، والسكون واللامبالاة خلال ثلاثة عقود متصلة، ثم جاءت الفوضى التى حدثت فى أعقاب ثورة 25 يناير، لتأكل الأخضر واليابس، وتستنزف ما تبقى من قدرات مصر الاقتصادية.

أعتقد أن قطاع النقل نموذج حى على إخفاقات ونجاحات الاقتصاد المصرى، وما شهده خلال السنوات السبع الماضية من تخصيص ما يقرب من تريليونى جنيه إنما كان لعلاج أزمات ومشكلات أكثر من ستة عقود متتالية، ليبدأ رحلة الانطلاق والصعود خلال المرحلة المقبلة لمصلحة الأجيال الجديدة، وتجنيبها الأزمات المتكررة التى تكررت طيلة عقود طويلة مضت.


رابط دائم: