الدولة العربية وتحديات التغيير
24-11-2011

الحسين الزاوي
*

جميل أن نتحدث عن التغيير والثورة والتعددية وحقوق الإنسان والتداول السلمي على السلطة، ونشيد بالحكم الراشد ودولة المؤسسات والمجتمع المدني وغيرها من المبادئ والقيم السياسية الكبيرة والجذابة التي باتت تشكل القاموس السياسي لمعظم القوى المتنافسة على السلطة في الدول العربية؛ لكن طبيعة المرحلة التاريخية الحساسة، باتت تتطلب أيضاً النظر إلى المخاطر الكبرى المحدقة بكيان الدولة الوطنية في العالم العربي . فالقوى الغربية التي عجزت حتى الآن عن تصفية حساباتها مع الدولة العربية الحديثة، تريد أن تركب موجات الربيع العربي من أجل العمل على تشكيل مشهد سياسي جديد في المنطقة العربية، من مهامه الرئيسة، توجيه الرأي العام العربي إلى الاهتمام بالمشكلات المحلية والمناطقية داخل القطر الواحد على حساب المصالح القومية العليا للأمة .

وإذا كنا نتفق جميعاً على أن الأحلام التي تحرِّك الشباب العربي الثائر، بريئة ونيّة أفراده في إحداث تغيير حقيقي وشامل، طاهرة طهارة الدم الذي سقط في الساحات العربية العامة؛ فإننا نعتقد في المقابل أن هناك من يعمل جاهداً على دسّ السّم في عسل الثورة، من منطلق إيماننا بأن مجموع المبادئ والقيم المرفوعة ليست كلها موضوعية ومحايدة . خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن كثيراً منها تمت صياغته من قبل المفكرين الغربيين في منتصف القرن الماضي، من أجل الدعوة إلى قيم العولمة والكونية تمهيداً للقضاء على ميراث الدولة الوطنية في أوروبا غداة نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال العمل على إضعاف الشعور بالانتماء الوطني عند الإنسان الأوروبي .

وعندما نلاحظ أن بعض التيارات السياسية العربية التي دخلت اللعبة السياسية بعد انطلاق موجات الربيع العربي، رفعت شعارات من قبيل تأسيس ما يسمى الخلافة الإسلامية، فإن الشكوك التي تساورنا بشأن المواقف الحقيقية للدول الغربية المتعلقة بالربيع العربي، تتضاعف وتزداد جلاء ووضوحاً، لأن الذي يرفع مثل تلك الشعارات يعرف جيداً أنها غير واقعية بل وخطرة، وأن التاريخ لا يمكن أن يدور حول نفسه، وأنه لا يوجد مجتمع عربي يقبل بنموذج حكم متناقض من حيث المبدأ والبنية المعرفية والسياسية مع ما تقره وتتبناه التعددية الديمقراطية الحديثة؛ ويجب التنبيه هنا إلى أن هذه الملاحظة لا تهدف البتة، إلى النيل من وطنية وصدق انتماء القسم الأكبر من الأحزاب الإسلامية العربية المنخرطة بكل وعي واتزان في العمل السياسي من أجل بلورة المشروع الديمقراطي لبلدانها، كما يحدث حالياً مع حركة النهضة في تونس . وعليه فإن الشكوك التي نتحدث عنها في هذا السياق تكاد تتحول إلى ما يشبه اليقين، وتحديداً عندما نُمعن النظر جيداً في المشهد السياسي العربي الراهن، ونلاحظ أن هناك استعداداً غربياً من أجل التعامل مع مثل هذه الدعوات والشعارات ليس من باب الاقتناع بمزاياها وفضائلها ، ولكن لأنها تتقاطع في عمقها ومراميها الاستراتيجية مع الرغبة الغربية التي تسعى إلى إنهاء هيمنة الدولة الوطنية في الوطن العربي . من منطلق أن الدول الوطنية وبالرغم من مهادنتها للغرب وتفهمها وتعاونها معه، من أجل تجسيد قسم كبير من مشاريعه في المنطقة، فإنها وبحكم تركيبتها السياسية ونسقها الهيكلي، كانت تقوم، كلما أمكنها ذلك، بوضع خطوط حُمر وكابحة في وجه المشاريع الغربية الرامية إلى تجزئة المجزأ . فقد وقفت الدولة الوطنية حتى الآن حجر عثرة في وجه تقارب واندماج “إسرائيل” مع جيرانها العرب، لأنه وبالرغم من المعاهدات التي أبرمتها بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني، فإنها بقيت بكل بنودها التطبيقية المرفقة، حبراً على ورق، لأن مقتضيات الأمن القومي المرتبط بهوية الدولة الوطنية، لم يكن ليسمح بالذهاب بعيداً من أجل تجسيد بنود هذا التطبيع .

والحقيقة أن الغرب الذي شجع في بداية القرن الماضي على إنشاء الكيانات الوطنية والقطرية في الوطن العربي من أجل إضعاف الشعور القومي للأمة العربية، اكتشف أنه وبعد مرور قرابة قرن من الزمان، أن القناعة بالانتماء المشترك إلى هذه الأمة كبرت وتضاعفت، وأصبح الإنسان العربي يعيش حرقة ومعاناة أخيه في كل بقعة من بقاع هذا الوطن العربي الشاسع . وأكدت التطورات الأخيرة أننا أصبحنا نتعامل الآن مع جسم عربي واحد، يفرح فيه اليمني لفرح وابتهاج المصري، وينزعج اللبناني لانزعاج شقيقه السوري . ولا نستبعد بالتالي، أن يكون تحذير وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون من قيام حرب أهلية في سوريا، مؤشراً إلى وجود خطة أمريكية متزامنة مع ترتيبات يقوم بها البيت الأبيض من أجل العمل على تقسيم العراق مباشرة بعد استكمال الانسحاب العسكري .

ويمكن القول في هذا السياق إن الغرب كان ومازال يرى أن سر قوة الدول الوطنية في العالم العربي، يعود بشكل أساسي إلى تماسك وقوة المؤسسة العسكرية في هذه الدول، ونحن وإن كنا نتفق مع الكثير في ما يتعلق بالتحفظات التي توضع بشأن هذه المؤسسة وبشأن ممارستها التي توصف بأنها استبدادية ومتسلطة، فإننا نحذر من المساس بتماسكها الداخلي، لأن التفريط فيها يعني أيضاً التفريط، بالقدر نفسه، في الدولة والوطنية، وفي كل ما ترمز له بالنسبة إلى منظومة الأمن القومي العربي .

ونعتقد بالتالي أن محاولة ركوب موجة الاحتجاجات الجديدة في مصر، والعمل على تشويه وشيطنة مؤسسة عريقة وشامخة مثل المؤسسة العسكرية المصرية، يُسهم، في ما نزعم، في خدمة هذه التوجهات الغربية الهادفة إلى استكمال مشاريع التجزئة والتقسيم؛ من أجل ولادة دول ميكروسكوبية، تنعم بفضائل التعددية في فضاء متوسطي وغربي تتداخل فيه المعايير والقيم، إلى حد هو أشبه ما يكون ب”الفوضى الخلاقة” .

---------------------
* نقلا عن دار الخليج الخميس 24/11/2011.


رابط دائم: