الجامعة العربية..من الاستلقاء إلى الاستقواء 28-11-2011 الكسندر ويلنر(*) – أنتونى كوردسمان( **) * (*) باحث بمركز الدراسات الأمنية بألمانيا. (**) رئيس كرسي بيرك بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وكذا المحلل لشئون الأمن القومي لشبكة إيه بى سى نيوز الأمريكية. تدور الأيام وتأتي بما كان يتمناه معظم العرب، أينما كانوا، ولدت الجامعة العربية في عام 1945 كمؤسسة سياسية بين الدول، تقوم بالتنسيق وتقريب المواقف وتعمل لتشكيل تجمع عربي قائم على الحد الأدنى من التقارب ولقاء المصالح مع توجهات نحو التكثيف في الأنشطة الثقافية والاقتصادية كوسيلة للتقارب، وكان أول التحديات لها موضوع فلسطين ومجابهة المؤامرة البريطانية لانشاء دولة يهودية في جزء من فلسطين. كانت هذه التحديات فوق طاقة الجامعة وفوق قدرة دولها، لم يكن النقراشي باشا، رئيس وزراء مصر، راغبا في الدخول فيها، لكنه وجد نفسه بين اصرار الملك فاروق – الباحث عن الزعامة – وبين تحركات الاخوان المسلمين، وكان النقراشي صريحا بأن الجيش المصري غير قادر على ثقل الأعباء، وكانت الدول الأخرى لا تقل ترددا عن مصر، ومن أبرزها الأردن بقيادة الملك عبدالله الذي كان أكبر العارفين بالحقائق وأكثر الزعماء واقعية، لكن الجامعة العربية دخلت بالحاح من الملك فاروق ومن الأمين العام للجامعة عبدالرحمن باشا عزام. هذه الأحداث موجودة في سجلات التاريخ، لم نشاهدها، وانما الذي شاهدناه وتابعناه هو المنحى الذي أخذته الجامعة العربية في عهد الثورة المصرية والزعامة الناصرية. كان الأمين العام عبدالخالق حسونة باشا، رجلاً راقياً فوق السوقية الإعلامية التي انطلقت مع البرنامج الناصري في تأسيس تجمع عربي سياسي تكون مصر محوره، تديره وتؤثر فيه ويسبح في فلك نفوذها، والتزم الأمين العام بمبدأ ان مسؤوليته هي الحفاظ على الجامعة العربية لكي لا تغرق، كان يردد بأن السفينة لا تتحدى العواصف، ولابد من الانتظار في المرفأ حتى عودة الهدوء. شاهدت خلال المؤتمرات في الستينيات فصول المواجهات بين الدول العربية، تقود مصر حملات التعنيف والتهكم والتشهير ضد الرافضين للهيمنة، واصفة اياهم بالرجعيين المتخلفين وعشاق الاستعمار ومحبي الهيمنة الأجنبية، والآخرون يردون بشعور المجروح كبرياؤه. انتهت القبضة الراديكالية مع مسلسل الهزائم الذي لحق بعواصم الثوار لأنهم لا يملكون الكفاءة للحكم وغير مؤهلين للقيادة، تستهويهم المغامرة ويتخذون القرار المصيري بنشوة الرقص مع الجماهير المتحمسة. مع الغزو الذي خطط له صدام حسين لدولة الكويت، طوت الجامعة العربية فصل الأوهام عن النظام العربي الواحد، وخرافة المصير الموحد وسلامة الأمن العربي الموحد. وكشفت المداولات حول الغزو بأن المنافع أهم من المبادئ وأن الابتسامات والزيارات والمجاملات غطاء لفكر آخر لوثته المكافآت التي يقذفها صدام حسين على الدول العربية التي لم تعترض على جريمته. ورغم الجريمة ظل العراق عضوا في الجامعة العربية، وأتذكر بأنني سألت الأمين العام آنذاك، السيد عمرو موسى، عن واقع العراق داخل الجامعة على الرغم من الاثم الذي ارتكبه، فكان رده بأن الوقت الذي كان يمكن ان يطرد فيه العراق من الجامعة قد مضى، وكلامه صحيح، نظرا لتراخي مجلس التعاون في طلب طرد العراق، وهو التراخي الذي يمثل النهج الخليجي في الاكتفاء بأقل ما يمكن من الحقوق. لم تتغير الجامعة كثيرا الى ان سقط نظام حسين في عام 2003، ومع ذلك السقوط خرجت المسيرة السياسية الاقليمية من جغرافية الراديكاليين العرب، لأن نظام صدام حسين كان آخر قلاع البلطجة العربية، وسقوطه أتى بالتعري للآخرين الذين عانقوه، أمثال علي عبدالله صالح في اليمن، والبشير في السودان والرئيس الموريتاني، وبن علي وبن جديد، مع ادراك العالم بأن هذه المجموعة مهما علا صوتها الإعلامي، فاقدة القدرة على التأثير في مجرى الأحداث وأنها في حالة من التردي والوهن نحو التقهقر والسقوط.. تجددت حياة الجامعة العربية لعدة أسباب، وسأتحدث عنها وفق ما تجمع عليه الأغلبية من المتابعين: أولا – انحسار نفوذ الأنظمة الراديكالية والأيديولجيات التي تبنتها بعد فشلها في خطط التنمية وتحسين واقع المواطنين وانهيار الخدمات فيها وعجز هذه الأنظمة على مواكبة التحولات العالمية نحو الحرية وحق المواطن في الرأي والمشاركة في القرار السياسي مع استمرار هذه الأنظمة في ممارسة الاستبداد وتهميش شعوبها وتجاهل حقها في رسم مصيرها. فتح سقوط نظام صدام حسين أبواب الاقليم للوقوف على الواقع المرير لهذه الأنظمة في جمودها وتخشبها وعجزها عن التطور، واستسلام قيادتها لحكم المباحث والخوف من مشاعر جماهيرها، كما استفادت شعوب المنطقة العربية من ثورة التكنولوجيا الإعلامية والاتصالات التي ساعدتها في متابعة ما يدور في العالم وما حدث من انفتاح وتداخل في المصالح، الأمر الذي أكسب الشعوب العربية طاقة التحدي السياسي ورفع معنوياتها وقدرتها وجرأتها في الاحتجاج ضد سياسات التنكيل والتحقير. ثانيا – تداخل المنطقة لاسيما دول مجلس التعاون مع التوجهات العالمية في ادارة الدولة، في الاعتدال والانفتاح وتشييد جسور المصالح مع مختلف التكتلات، وبروز دول مجلس التعاون كمجموعة تملك الأهلية السياسية في وحدة مواقفها وفي مراكزها المالية وفي الاطمئنان العالمي لأهدافها، وتبني هذه المجموعة مبادرات جماعية داخل الجامعة العربية عززت مكانة الجامعة التي أيقنت بأن المستقبل يتجه نحو الواقعيين المنفتحين الذين شيدوا لهم موقعا بارزا في مجموعة النخبة التي تدير المؤسسة العالمية. وقد شاهدنا كيف تحركت قطر لدعم ثوار تونس وأيدتهم بالدعم المادي والسياسي، وتابعت قطر نفس السياسة في ليبيا حيث دخلت مع الامارات ودول خليجية أخرى في ائتلاف المصلحين الذي ضم مجموعة الناتو والمجموعة الخليجية وآخرين مثل تركيا واليابان. وقد صدر قرار الجامعة حول ليبيا بمبادرة من دول مجلس التعاون، وجدت لها صدى في اطار الجامعة ومنها انتقلت الى مجلس الأمن. وتكرر المشهد مرة أخرى حول سورية في قرار الجامعة العربية الذي هندسته المجموعة الخليجية وعبأت قطر ثقلها في ادارة الجلسات في تأمين الموافقة، على الرغم من تململ البعض ومعارضة آخرين من لا أهمية لهم، ونتابع حاليا تأسيس الجامعة العربية لآليات تنفيذية حول سورية. ثالثاً – لأول مرة، منذ قيام الجامعة العربية، تتحرر المنظمة العربية من النفوذ الطاغي لبعض الدول التي سيطرت عليها وأملت عليها المواقف لتكون في صالحها، وأحيانا تقيدها وتحيدها عندما تكون الجامعة عقبة أمامها، فلا يوجد الآن ثقل ناصري بادارته المتطرفة في التنكيل الإعلامي والمخابراتي، ولا وجود لنظام صدام حسين يتحدث بغلاظة ويترجمها بأعمال ارهابية اجرامية ولا سلطة للسودان وغيرها من أصحاب الأصوات العالية في النقد والمتواضعة في العطاء. رابعاً – تأقلمت الجامعة العربية مع القيم الانسانية التي يلتزم بها المجتمع الدولي وتتبناها الأسرة العالمية في حقوق الانسان وكرامته، وفي الانفتاح وحق الشعوب في تقرير المصير مع تأسيس هيئات تابعة للجامعة تتصدى لانتهاكات حقوق الانسان واحترام ارادته وحقه في التعبير السلمي عن آرائه دون تعسف أو ملاحقة، مع ادراك الجامعة بأنها لا تستطيع ان تتجمد أمام أحداث دموية تجري داخل بلدانها، وقناعتها بأنها تملك التفويض المعنوي والسياسي للتحرك. وخرجت الجامعة من العزلة التي حرمتها من التلاقي مع التوجهات العالمية بسبب خوف أنظمة الاستبداد من تسلل هيئات أوروبية وأمريكية الى داخلها تدعو الى فلسفة لا يتقبلها النظام الراديكالي المستبد، وجاء انسحابها من العزلة بدعم خليجي مؤثر ومؤازرة عربية شبه جماعية. خامساً – لم تعد عضوية الجامعة العربية مفتوحة لمن يأتون بانقلاب ضد الشرعية، ثم يأتي الى الجامعة طالبا القبول العربي، بعد ان تلاقت الجامعة مع شروط التأهل العالمي في قبول العضوية، فلا مجال للعضوية دون محاسبات وتطمينات في سلامة انتقال السلطة وشرعيتها. كان الاعتراف بالنظام المستجد أيام زمان تلقائيا لكل دولة عضو، مهما كان نوعية نظامها ولم تكن هناك مقاييس للأهلية، شاهدنا العراق الدموي بعد مذبحة 1958، وسورية البعثية بعد الانفصال، وسودان النميري بعد انقلابه على الشرعية، وعلي عبدالله صالح بعد اغتيال الرئيس أحمد الغشمي، فالطريق مفتوح والقبول العربي يؤمن الوصول الى الاعتراف الدولي. طريق اليوم يختلف عن السابق عالميا واقليميا وعربيا، انتقل النفوذ المؤثر الى مواقع عربية أخرى غير تقليدية، وسجلت دول التثوير والتحدي اخفاقات وهزائم، وتلاقت ارادة الجامعة مع قواعد السلوك العالمي، وتفهم الأمين العام للجامعة الدكتور نبيل العربي الواقع المستجد والذي يلتقي مع توجهاته الشخصية في الاستنارة والقيم المرتفعة، فتحولت الجامعة اليوم الى حركة سياسية أخلاقية في بعدها الانساني، وفي اصرارها على التنمية والتجديد. ولا جدال بأن دور الجامعة سيتعاظم داخل المجموعة وفي الاقليم وفي محطات دولية أبرزها مجلس الأمن.. ------------------- * نقلا عن الوطن الكويتية الإثنين, 28 نوفمبر 2011. رابط دائم: