قدم الدكتور "إسماعيل صبرى مقلد" أربعة كتب عن طبيعة العلاقات الدولية وتأثيراتها فى الدول، على رأس هذه الكتب "العلاقات السياسية الدولية: النظرية والواقعية" الصادر عام 2011؛ حيث أثبت أن دوافع الدول فى علاقاتها الدولية هى الدوافع الاقتصادية، وهذا ما أكده سابقا الدكتور "محمد فهمى لهيطة" فى كتابه عام 1947 "العلاقات الاقتصادية الدولية"، كما أوضح العالم "جون إدلمان سبيرو" ثبوت صحة هذه الحقيقة فى كتابه "سياسات العلاقات الاقتصادية الدولية" عام 1987، وذلك ما صرح به العالم "جوزيف فرانكل" فى كتابه "العلاقات الدولية" عام 1984. وقدم أيضا الباحث "ريتشار نيد ليبو"، من خلال عملية بحثية، دوافع الحروب فى بحث باسم "لماذا تحارب الأمم؟" يأتى تحت مكون أساسى هو البحث عن مكانة اقتصادية أفضل أى بدافع اقتصادى. كما اتفق العلماء أن البيئة الدولية التى يقودها الدوافع الاقتصادية هى التى تؤثر فى الطبيعة الاقتصادية للدول وسياستها العامة وطرق الحكم، كما قدم الدكتور "نصر محمد عارف" فى كتابيه "نظرية التنمية السياسية المعاصرة" و"إبستمولوجيا المعرفة" حقيقة النظم السياسية ألا وهى صعوبة نقل طرق وأساليب الحكم من دولة إلى أخرى؛ لاختلاف العادات والتقاليد والثقافة والتعليم والطبيعة المجتمعية المادية والمعنوية، وأن أفضل طرق الحكم هى التى تكون نابعة من أكثرية المجتمع، أو التى تعبر عن الهُوية الجماعية للمجتمع بداخل الدولة.
وبناءً عليه، نقول:
- إن صراع الدول هو بالأساس اقتصاديا أكثر منه أيديولوجيا أو عقائديا.
- من المستحيل نقل طريقة حكم سواء ديموقراطية أو اشتراكية أو ديكتاتورية من دولة إلى أخرى.
- أفضل طرق الحكم هى النابعة من الشعب.
· تحديد مفاهيم الوعى والإدراك للمجتمع والمقصود بهما:
المقصود بالوعى هو الوعى القومى: أى الفهم المشترك لمجموعة من الأشخاص لديهم خلفية عرقية ولغوية وثقافية ومصلحة مشتركة بداخل حيز إقليمى تكون لديه هُوية جماعية بحيث تكون تلك الهُوية هى الحاكمة للعادات والتقاليد وأسلوب وسلوك الحياة.
الإدراك المجتمعى: هو قدرة الفرد على معرفة طبيعة التفاعلات بين الفرد والمجتمع، وبين المجتمع والدولة، وبين الدولة ودول العالم.
من خلال تلك المفاهيم على الفرد إدراك ومعرفة ثلاثة محاور رئيسية:
1- معرفة وإدراك تفاعلات الدولة مع دول العالم وتحديد آثارها فى الدولة والمجتمع والفرد.
2- معرفة وإدراك التفاعلات بين المجتمع ومؤسسات الدولة.
3- معرفة وإدراك مسئولية الفرد والمجتمع والحكومة فى بناء الهُوية الجماعية.
إن مسئولية بناء الجمهورية الجديدة تقع على عاتق المواطن المصرى بالدرجة الأولى، وعلى قدر المسئولية والوعى والإدراك والعمل سوف تكون النتيجة، وفيما يلى توضيح لتلك المحاور:
أولا - معرفة وإدراك تفاعلات الدولة مع دول العالم وتحديد آثارها فى الدولة والمجتمع والفرد:
لقد أوضحت فرضيات النظرية الواقعية لرائدها العالم "جون ميرشايمر" فى كتابه "مأساة سياسة الدول العظمى": الفرضية الأولى: إنه فى ظل عالم فوضوى ليست به حكومة وقوانين رادعة، وفى ظل غياب واضح لمجلس الأمن؛ حيث إن الدول المُوكل إليها حفظ الأمن والسلام فى العالم بمجلس الأمن وهى: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وروسيا، والصين، وفرنسا- هى الدافعة لعدم الاستقرار وتهدد الأمن العالمى.
الفرضية الثانية: إن الدول هى التى تحمى نفسها وتحمى سيادتها على أراضيها وتحافظ على ثرواتها، وتعتمد الدول على القوة الذاتية من موارد طبيعية وقوة بشرية وترابط شعبها.
الفرضية الثالثة: من أجل البقاء والاستمرار تسعى الدول للحصول على القوة، فأصبح الحصول على القوة وسيلة وغاية.
توضح لنا النظرية الواقعية أن الدولة عليها التزام أولى هو: البقاء والاستمرار، وهذه أولوية أولى لأى دولة، لذا وجب على الدول الحصول على القوة؛ لكى تستطيع أن تحمى ثرواتها، وأن تكون تلك القوة متناسبة مع التهديدات التى تقع عليها من تفاعلها مع الدول الأخرى.
قدم العالم "نيكولاس سبيكمان" فى كتابه الصادر عام 1942 "الاستراتيجية الأمريكية فى السياسة الخارجية" استراتيجيةً للهيمنة الأمريكية على العالم، من حيث السيطرة على الممرات المائية وأهمها قناة السويس وطرق التجارة العالمية؛ إذ تعد قناة السويس أهم الممرات المائية لأنها تمثل 12% من تجارة العالمية؛ حيث يمر من خلالها تجارة بقيمة مليار دولار يوميا. كما أكد العالم "أناتولى أوتكين" فى كتابه "الاستراتيجية الأمريكية فى القرن الحادى والعشرين" استمرار السياسة الأمريكية للسيطرة على الدول المنتجة للبترول والغاز، وتزايد الحاجة الأمريكية بعد الحرب الروسية-الأوكرانية ورغبتها فى تعويض حلفائها (الاتحاد الأوروبى) من البترول والغاز، فتزايد الحاجة إلى دول غاز المتوسط، وأهمها مصر التى تستطيع أن تلبى 40% من احتياجات الاتحاد الأوروبى من الغاز.
فيما تسعى الصين إلى بسط نفوذها الاقتصادى؛ من أجل حماية اقتصادها حيث يمر 25% من تجارتها عبر قناة السويس، وتعد مصر ممرَّ تجارة عالميا يؤثر فى التنمية الاقتصادية الصينية، وحسب الاستراتيجية الصينية للسياسة الخارجية فإنها تسعى إلى السيطرة على تأمين طرق تجارتها وربطها بمبادرة "الحزام والطريق"، لذا تعد الدولة المصرية ذات أهمية اقتصادية للصين لبسط نفوذها الاقتصادى العالمى.
لذا، على كل مواطن معرفة وإدراك كل حجم الصعاب والتحديات التى تقابلها مصر؛ حيث على الإدارة المصرية المحافظة على بقائها وحماية ثرواتها من خلال الحصول على القوة العسكرية الكافية لكى تحمى ثروات البلاد، ما قد يؤثر فى التنمية الداخلية فى البلاد، وينعكس على متطلبات الفرد.
ثانيا - معرفة وإدراك التفاعلات بين المجتمع ومؤسسات الدولة:
لقد أوضحت النظرية البنائية لرائدها "إلكسندر ويندت" فى كتابه "النظرية البنائية الاجتماعية للعلاقات الدولية" كيفية معرفة وإدراك التفاعلات بين المجتمع والدولة، وفيها تتصدر الهوية الجماعية التأثير فى الدولة؛ حيث يمثل التجانس المجتمعى من خلال وحدته الفكرية والثقافية فى تناول الظواهر الاجتماعية خاصة فى الدول الناشئة، وفيه يكون المجتمع الموحد هو القادر على التصدى للتحديات الخارجية سواء عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية، ويؤكد أن المجتمع هو القادر على بناء تلك الهُوية الجماعية، وتكون تلك الهُوية المحدد للمصالح والسلوك للدولة؛ حيث تكون الهُوية الجماعية مكونة من ثقافة مشتركة يتفرع عنها جميع عناصر المجتمع المُشكل للدولة على أساس الهُوية والمصلحة المشتركة، ويتطلب ذلك درجة عالية من المعرفة والثقافة لأكثرية المجتمع.
وقدم رواد النظرية البنائية الاجتماعية دولة "بوتان" التى يحدها شمالا الصين وجنوبا الهند، ويبلغ عدد سكانها 750 ألف نسمة بمساحة أربعين ألف كيلو متر، فيما تتجاوز دول الجوار مليارا وأربعمائة مليون نسمة، بالإضافة إلى اقتصاد أقوى عشرة أضعاف دولة "بوتان" التى استطاعت بهُوية جماعية أن تقف أمام القوة الاقتصادية والسكانية لدول الجوار بقوة الولاء والانتماء وبإصرار مجتمعى؛ للحفاظ على مقدراتهم وثرواتهم وأصولهم العقائدية.
لقد برهن "نيكولاس أنوف" فى كتابه عام 1989 "عالم من صنعنا"، أن الأفراد يصنعون المجتمع، والمجتمع من يصنع الدولة، ومن يصنع الهُوية الجماعية هم الأفراد.
كما أكد كل من العالم "مايكل بارنت" فى كتابه "المنظر من البرج العاجى" والعالم "إيمانويل ادلر" فى كتابه "السياسة الدولية للهوية" أن الهُوية الجماعية المصنوعة من الثقافة الفردية هى القادرة على تقديم أفضل الحلول للمجتمع فى وسط التحديات الدولية.
وبناءً عليه، تقدم النظرية البنائية الاجتماعية للدول الناشئة - منها مصر- الحلَّ من خلال استراتيجية التصدى للتحديات ولنفوذ الدول العظمى، والقدرة على التصدى للنفوذ فى المجالات العسكرية والاقتصادية والثقافية عن طريق بناء الهُوية الجماعية التى تتكون من أكثرية المجتمع، وتعتمد على ثقافة الفرد ومعرفته وإدراكه بالتفاعلات الدولية والمجتمعية مع الفرد والدولة.
ثالثا - معرفة وإدراك مسئولية الفرد والمجتمع والحكومة فى بناء الهُوية الجماعية:
تؤدى البيئة الدولية من صراعات اقتصادية وسعى للحصول على القوة العسكرية والاقتصادية إلى خلق تفاعلات أكثر توترا بين الدول ككل يؤثر فى عدم الاستدامة فى التنمية والقدرة على تحقيق ما تصبو إليه المجتمعات لا سيما فى الدول الناشئة التى تتأثر بشكل كبير بالصراعات بين الدول العظمى، وهذا ما تفرزه الآن البيئة الدولية من صراع عسكرى بين روسيا أوكرانيا، وصراع اقتصادى بين الولايات المتحدة والصين، والدول الكبرى عليها أن تتحالف إما مع الصين أو الولايات المتحدة.
إن تلك المؤثرات والصراعات فرضت على الفرد والمجتمع مسئوليات إضافية لم تكن موجودة قبل ذلك؛ حيث أصبح على الفرد والمجتمع التصدى لحماية الدولة من تلك المؤثرات والصراعات التى تعصف بالدول مثلما حدث فى الصومال، وليبيا، واليمن، والعراق، وأوكرانيا، فعندما تسقط الدول الآن لا تستطع أن تقف مرة أخرى، وفيها يشرد الفرد والمجتمع حيث إنه المتضرر الأول والأخير، فيما تذهب النخب ورجال الأعمال إلى دول أخرى.
لقد أقر العالِم " كارل بوبر" فى كتابه الصادر عام 2017 "المجتمع المفتوح وأعداؤه"، أن العالَم هو الإطار الذى يسعى فيه الفرد للتعامل من خلاله مع اختلاف الأيديولوجيات سواء ليبرالية أو اشتراكية أو جمهورية أو ملكية، ويأتى ذلك من حرية الدولة، أى أن حرية الفرد تأتى من حرية الدولة، وعندما تسقط حرية الدولة تسقط حرية الفرد، لذا على الفرد أن يحرص أولا على حصول الدولة على حريتها ثم يحصل على حريته.
ولكى يستطع الفرد بناء هُوية جماعية تكون سمة رئيسية للدولة عليه بناء هُويته الشخصية من خلال الثقافة والمعرفة والإيمان بالذات وبالآخرين، هذا ما برهنه عالم الاجتماع "كلود دوبار" فى كتابه الصادر عام 2014 باسم "أزمة الهويات".
تتكون هُوية الفرد من عدد متراكم من الهُويات السابقة لتخرج لنا هوية مجمعة تشمل كل هذه الهويات، تستطيع أن تتواكب مع الحاضر بمسئولياته، وذلك ما أكده الفيلسوف "أماتيا سن" فى كتابه عام 2012 "الهوية والعنف.. وهم المصير الحتمى".
ويرى "د. على سعد وطفة" فى كتابه الصادر عام 2013 "الهوية وقضاياها فى الوعى"، أن بداية بناء الهُوية الجماعية تأتى من الولاء والانتماء إلى الوطن؛ حيث يعد هذا الانتماء الدافعَ للمشاركة والتشارك وخلق المتشابهات من أجل الوطن.
ويأتى عالم النفس "إيريك إيركسون" فى كتابه الصادر عام 2010 "البحث عن الهُوية: الهُوية وتشتتها"؛ حيث يضع فيه أسس ثقافة شاملة كمشروع قومى للدولة من أجل بناء هُوية جماعية تتوافق مع ثقافة متطورة من خلال الطبيعة المجتمعية المتمثلة فى عادات المجتمع وتقاليده، وتكون المعرفة والثقافة عماد وعى الفرد، وهو الذى يقرر طبيعة بل الشكل الفكرى للهوية الجماعية؛ ليكون قادرا على إدراك التفاعلات المختلفة بين الأفراد من ناحية وبين الفرد والمجتمع، ومن ناحية أخرى بين المجتمع والدولة، من خلال تلك التفاعلات ينتج سلوك يرضى الهُوية الجماعية التى تستطيع أن تصل إلى قرار، وتقدر أن تتحمل تكلفة هذا القرار الذى يكون متوافقا مع إمكانات الأكثرية من المجتمع، ما ينتج القدرة على البناء والتنمية والتصدى لكل التوترات والتحديات الخارجية والتغلب على الصعاب الداخلية.
بناءً عليه، فإن بناء الهُوية الجماعية للمجتمع القادر على التصدى للصعاب والتحديات الخارجية والداخلية يعتمد على الثقافة وبناء الهُوية الفردية، فهذه مسئولية الفرد، ومن خلال تلك الهُوية والإحساس بالانتماء إلى الوطن يتفاعل الفرد من أجل بناء هُوية جماعية مشتركة تكون متوافقة مع أغلبية المجتمع، تلك الهُوية الجماعية هى التى تكون قادرة على تحديد نظام الدولة وطرق إدارتها، وتحدد الطبيعة الاقتصادية المتلائمة مع الهوية الجماعية. ومن خلال ذلك، تستطيع تلك الهُوية الدفاع والتصدى والتغلب على كل الصعاب الداخلية والخارجية التى تواجه الدولة وتفرض عليها، وتكون قادرة على تغيير تلك المصاعب الخارجية لمصلحة الدولة، ومن ثم المجتمع والفرد.