المجتمع المدنى على أجندة الحوار الوطنى.. منطلقات جديدة 7-5-2023 د. أيمن السيد عبد الوهاب * نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية هل يمكن أن يوفر الحوار الوطني قوة دفع لبناء مجتمع مدنى قوى راسخ؟ الإجابة نظريا نعم. لكن عمليا وواقعيا هناك مراحل من البناء والتطور لا بد أن تأخذ سبيلها على مسار القيم والأدوار والمسئوليات والبناء التنظيمي والفلسفة والرؤية، وهى مسارات تحتاج إلى وقت وتوافر الإرادتين السياسية والمجتمعية، وتحتاج قبل ذلك إلى تفعيل مجموعة من المرتكزات الداعمة لبناء المجتمع المدني، منها: تدعيم مقومات المجتمع المصري وأطره التنظيمية وبنائه الاجتماعي، ومنظومة القيم والثقافة المجتمعية، جنبا إلى جنب مع تعزيز بناء دعائم الدولة الوطنية. تعنى تلك المعادلة بناء متوازنا وتفاعلا مشتركا يجمع رؤية المجتمع مع رؤية النظام السياسى نحو رؤية أوسع وأشمل لماهية الدولة المصرية ومستقبلها من ناحية. وتهدف إلى توفير نقاط انطلاق وتلاق لتوسيع المجال العام من ناحية ثانية، ودعم المنهاج التشاركى بين المنظمات والأفراد، سواء فى الإطار الرسمي أو غير الرسمي من ناحية ثالثة وأخيرة لتنفيذ الأجندة الوطنية كما تحددها أولويات الحوار ومقتضيات الشراكة. اتساقا مع هذه الرؤية، يمكن التأكيد على أن تقوية المجتمع المدني المصري ودخوله فى عملية بناء وتطوير تراكمية وعبر مراحل وفترة زمنية ممتدة، يجب أن تأتى فى مقدمة الأولويات التي يجب طرحها على مائدة الحوار، فالعديد من القضايا التي تم طرحها كمؤشرات أولية تعبر عن أولويات الدولة والمجتمع تشير بوضوح إلى أهمية الشراكة بين القطاعات الثلاثة (الحكومي، والأهلي، والخاص)، وتشير أيضا إلى أهمية تقوية وإعادة تنظيم المجتمع المدني كشريك فاعل، وكطرف عاكس ومترجم لحركة المجتمع وقواه الاجتماعية، إذا ما أردنا أن يكون مشاركا فى عملية التنمية والبناء، وألا يقتصر دوره على قضايا الحماية الاجتماعية والمساعدات والرعاية، وهى أدوار مهمة ومطلوبة ولكنها غير كافية، وخاصة إذا كان هناك تطور لدور المجتمع والمواطنين من خلال منظمات المجتمع المدني فى مواجهة العديد من مظاهر الاختلال المجتمعي والتحديات التي تفرض نفسها على بنية المجتمع ودرجة تماسكه، فعل سبيل المثال، مواجهة قضايا، مثل: التطرف، والعنف، والإرهاب، وتداعيات الزيادة السكانية، والإدمان، والأمية، تفرض جميعها أنماطا متعددة ومتكاملة من أساليب المواجهة. أولا- مسارات محفزة للحوار: العمل الأهلي ومنظمات المجتمع المدني يمكن أن تمثل مكونا ومرتكزا بالغ الأهمية على أجندة الحوار، لما يوفره هذا الحوار من قدرة على بناء توافقات وأولويات تتعلق بالرؤية والفلسفة والنهج التشاركى وحدوده، لاسيما تجاه السياسات التنموية، والتى يمكن أن نحددها فى عدد من القضايا الرئيسية، نذكر منها: 1- السياق الحاكم ومتطلبات البناء والتنمية، تشير بوضوح إلى تغيرات وتطورات تترجمها السياسات الاجتماعية والاقتصادية التى انتهجتها الحكومة المصرية خلال الثمانى سنوات الماضية، وتغيرات مجتمعية وثقافية تتجلى فى العديد من المظاهر الناتجة عن تغير البنية السكانية وتطلعاتها واحتياجاتها. فى هذا السياق، نصبح أمام مستويين من الحركة، أولهما يرتبط بكون الجمعيات الأهلية تمثل حلقة وصل فى اتجاهين بين فئات المجتمع بكل فئاته من جانب والحكومة من جانب آخر، والآخر يتعلق بواقع رؤية الدولة لحدود دور جمعيات التنمية، وهو ما يتجلى فى خطاب الحكومة وتأكيده على أهمية توسيع مساهمة الجمعيات فى القضايا الاجتماعية التى تزايدت حدتها خلال العقدين الأخيرين، مثل قضايا التعصب، والتطرف، والتفكك الأسرى، والعنف، والتسول، والإدمان، وهى الأجندة التى تعمل الدولة على دفع القطاع الأهلي إلى تبنيها. 2- رؤية جديدة لتطوير فلسفة العمل الأهلي ومنظمات المجتمع المدنى، تتجاوز بها الفلسفة التى غلبت عليها وتمحورت حول الفكرة التقليدية الداعية إلى التخفيف من وطأة الفقر وتنمية الدخول، دون أن تمتد هذه الفكرة إلى حد كبير بالاهتمام بالإنسان والارتفاع بمستوى التنمية البشرية للمواطنين. ولذا يبقى من الضروري، أن يستند دور التنظيمات الأهلية إلى ذلك المزج بين الاستثمار فى رأس المال البشرى وشبكات الأمان الاجتماعي للفقراء، استنادا لما تمثله القدرات البشرية من سبيل للتغيير الاجتماعي، وبالتالي يتم النظر إلى التعليم والرعاية الصحية والطبية على سبيل المثال باعتبارها مجالات تنموية بحكم أنها تساعد المواطنين على أن يرتقوا بمستوى معيشتهم، بالإضافة إلى دورها فى زيادة الإنتاجية والنمو الاقتصادي والدخول الفردية. 3- اللجوء للحلول الجزئية كمنهاج للتوافق مع المتغيرات والمستجدات التى شهدها المجتمع، لا يساعد على مواكبة المتغيرات ومظاهر الخلل المجتمعي ومتطلبات التنمية، وتشير خبرة التعامل بهذا المنهج إلى محدودية حجم التطور والتراكم فى الرهان على زيادة الدور التنموى للتنظيمات الأهلية نتيجة للعديد من العوامل التى حدت من تطوير أدوارها ومسئولياتها. 4- التقييم وقياس حجم الإسهام الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافى مطلب حاكم، لزيادة الرهان على دور التنظيمات الأهلية وتحديد حجم مشاركتها فى السياسات العامة والتأثير فيها، الأمر الذى يتطلب بناء قواعد بيانات دقيقة توفر معلومات ومعرفة واسعة بإمكانيات وموارد هذا القطاع الأهلي وتحدد مواطن القوة والضعف. وفى هذا السياق، يمكن التأكيد على نتيجتين رئيسيتين، الأولى: أن تزايد الاهتمام بالتنظيمات الأهلية والمنظمات غير الحكومية، ينطلق من رؤية، مفادها أن تلك التنظيمات تمثل إطاراً تعبوياً لتنظيم المواطنين من أجل المشاركة الفعالة فى عملية التنمية المعتمدة أساساً على البشر، بحيث تصبح هذه التنظيمات وسائل اجتماعية تواكب التغيير الاجتماعي والاقتصادي. أما النتيجة الأخرى: توضحها مسألة تقييم منظمات القطاع الأهلى اقتصادياً، وعدم الاكتفاء بالتقييم الاجتماعي والإنساني مع تزايد النظرة لهذا القطاع الأهلي كقوة فاعلة فى الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ثانيا- الحوار والخريطة المعرفية للشركاء: العلاقة الارتباطية للأطراف الثلاثة (القطاع الحكومى، والخاص، والأهلي) من منظور جديد، يمكن أن تكتسب قوة دفع جديدة من خلال الحوار الوطنى، فالخبرة القديمة ومداخل الـتأثير وتوظيف العلاقة من كافة الأطراف لم تساعد على تطوير هذه العلاقة، لتظل عند الحدود الدنيا للأهداف، وبالتالي يبقى التحدى المفروض على مائدة الحوار فى القدرة على إعادة صياغة هذه العلاقة فى ضوء متطلبات بناء الدولة الوطنية واحتياجاتها التنموية ومرتكزاتها المتمحورة حول المواطن المصرى. اتساقا مع هذه الرؤية، يمكن تأكيد عدد من محاور التحرك ومساراتها. 1- تفعيل روابط العلاقات الارتباطية الثلاثية، من خلال تحديد المسئوليات والأدوار ومستوى الشراكة، مع إعطاء مساحة أكبر لمنظمات العمل الأهلي والمجتمع المدنى حتى تنضبط أضلاع المثلث، وهو ما يتطلب العمل على بناء القدرات والوعى والمعرفة، وتعزيز القدرات المؤسسية وبناء الشراكات بين منظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الحكومية، ومنظمات القطاع الخاص، والجهات البحثية، مع إعطاء أولوية للجمعيات الأهلية الشريكة لتعزيز دورها فى مجتمعاتها المحلية بالمحافظات المستهدفة، ويمكن أن تستند هذه المنهجية إلى التالى: أ- بناء الشراكات على مستوي المجتمع المحلي والقومي بمستوياته، لتعظيم أفضل الفرص والموارد والتكامل فى أدوار الأجندة التنموية وأولوياتها على مستوى كل قرية. ب- التمكين وبناء القدرات الخاصة بالمهارات الإدارية والفنية، من خلال البرامج الموجهة أو الداعمة لتحسين المشروعات الاقتصادية والتفاعلية للمجموعات المهمشة من جانب، والجمعيات الأهلية الشريكة فى المبادرات وجهود التنمية من جانب آخر، الأمر الذى يمكن أن يساهم فى تقوية دورهم وفاعليتهم فى المشاركة على مستوى القيادة والإدارة وريادة الأعمال ليصبحوا مواطنين فاعلين فى المجتمعات المحلية. ج- تبسيط الرؤية والأهداف وتقسيمها على مراحل فى ضوء الإمكانيات والقدرات المالية والفنية المتاحة، وذلك استنادًا إلى معرفة دقيقة بالواقع المحلى والبيئة الحاكمة للمشروعات التنموية المراد تنفيذها، مع مراعاة الأبعاد الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. فقد كشفت العديد من التجارب ومحاولات التغيير والإصلاح حجم التحديات والصعوبات التى تفرضها العادات والتقاليد والواقع الاجتماعي أمام أي تغييرات فى أنماط العلاقات والعرف السائد. 2- ديمومة الحوار واتساع دوائره: يمكن أن تعظم مخرجات الحوار الوطنى من خلال صياغتها للأجندة وتحديدها لآليات التعامل مع القضايا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ودفعها إلى مستوى المحليات لتعظيم فرص بناء الشراكات بين المستهدفين والقائمين على التنفيذ وصانعي السياسات، والحوار المنتظم والمستمر يساعد على توسيع سبل المعرفة لدى الرأى العام حول متطلبات البناء والإصلاح، وسبل توسيع المجال العام، والاحتياجات التنموية، ومقتضيات التمكين ودور ومسئولية المجتمع، كما يمكن أن يدفع الحوار نحو مزيد من التغيرات الإيجابية والإضافات والتحسينات والتحديثات على مستوى الرؤية والتطبيق. 3- التنمية الإنسانية والمنهج التمكينى، يستند إلى رؤية كلية مرتكزة على السياسات والمبادرات الرئاسية والمجتمعية الداعمة لبناء الإنسان المصرى، والتي تستند إلى فلسفة التنمية الإنسانية كمرحلة أكثر تقدما وأكثر اتساعا من الاستناد إلى منهاج التنمية المستدامة. والحقيقة أن بعض المؤشرات الإيجابية، التي ارتبطت بمبادرات تنمية الأسرة المصرية وتنمية الريفى المصرى، تشير إلى بعد مهم يتعلق بأهمية زيادة دور العمل الأهلى فى تطوير وتنمية المجتمعات المحلية، من حيث المكان والإنسان مع المحافظة على خصوصية تلك المجتمعات. ثالثا- الحوار ونماذج بناء الشراكة: انطلاقا من الرؤية السابقة، والحاجة إلى توفر مقومات التطوير والتدرج والتراكم لبناء مجتمع مدنى قادر على الشراكة مع القطاعين الخاص والحكومي، يمكن الإشارة إلى عدد من المرتكزات ومتطلبات بناء نماذج متعددة مرتبطة بأهداف محددة وتتمتع بالمرونة والكفاءة والتأثير. 1- مرتكزات بناء النماذج تستند إلى مجموعة من العوامل الدافعة والمؤثرة فى درجة الفاعلية، نذكر منها: أ- المزاوجة بين المجتمع المدني الناشئ والمجتمع الأهلي القائم فى مصر يمكن أن يوفر قوة دعم لحركة المجتمع، وقدرة على توسيع المجال العام بالقدر الذي يزيد من المشاركة والمسئولية المجتمعية، ومن ثم يدفع عملية الإصلاح والمبادرات الرسمية وغير الرسمية وخطط التنمية. ب- تحفيز منهاج التنمية بالمشاركة، ينطلق من تكامل أطر التنمية وسياساتها بين القطاعات الثلاثة (الحكومية، والخاصة، والأهلية) عبر تحديد مجالات المشاركة والمسئوليات والأدوار. هنا، يمكن الإشارة إلى مجموعة من العوامل الواجب مراعاتها لتعميق مفهوم التنمية بالمشاركة، التي تتمثل فى التالي: (1) مدى توافر رؤية استراتيجية. (2) دعم الخطاب الرسمي لها. (3) الشراكة فى التخطيط. (4) رؤية المجتمع المدني لمفهوم التنمية بالمشاركة. (5) الشروط المطلوب توافرها لتحقيق التنمية بالمشاركة عبر تحديد دور كل من الدولة والقطاع الخاص ودور المجتمع المدني. (6) الإطار القانوني أو التشريعي ومدى القدرة على تحقيق التشريعات. (7) مدى تأثير المجالس المحلية لتحقيق مفهوم التنمية بالمشاركة. ج- المكون الثقافى والمعرفى، يمثل حافزا أساسيا لتفعيل المسئولية المجتمعية، وذلك من خلال الاهتمام بركائزها القيمية والسلوكية، وتوفير فرص حقيقية لتحجيم السلبية واللامبالاة التي تفرض نفسها على كثير من الممارسات الحياتية للمجتمع، كما أنها تساعد على استيعاب ما يشهده المجتمع المصري حالياً من مخاطر تهدده بالقدر الذي يساعد على الانتقال من إدراك المخاطر إلى إدارة هذه المخاطر. فالاكتفاء بسياسات وإجراءات من شأنها تحقيق «الأمن الاجتماعى» للمجتمع وتلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الضرورية للحياة الكريمة للمواطنين، لن تكون كافية مع ما كشفت عنه التغيرات التي اكتنفت العديد من شرائح المجتمع المصري وتزايد سقف المطالب والحقوق. 2- نماذج تنموية متعددة: أ- نماذج تنموية داعمة للمنهاج التشاركى: تستند تلك النماذج إلى حتمية تطوير فلسفة ورؤية القائمين على منظمات العمل الأهلى، واستيعاب عملية التخطيط الاستراتيجي من قبل المنظمات، والمشاركة فى رسم السياسات التنموية وتنفيذها، وذلك حتى يمكن دفع تلك المنظمات الأهلية إلى أدوار أكثر عمقا وتنوعا من الاستناد إلى تقديم المساعدات الاجتماعية أو المساهمة ببعض الأدوار المكملة فى مسار التوعية والقضايا التنموية، فعلى سبيل المثال، سوف نجد أن عملية تطوير الريف المصرى تقتضى بناء نماذج تنموية متعددة تعكس خصوصية المجتمعات المحلية فى مصر، وتوفر متطلبات المحافظة على تميزها وتكامل مواردها التنموية من ناحية، وإعلاء القيم الإنسانية المحفزة على التعاون وتحمل المسئولية كسبيل لتحسين البيئة المحيطة واستدامة التنمية من ناحية ثانية، والاستثمار فى البشر من ناحية ثالثة وأخيرة والاهتمام بتنمية الإدراكات والمعارف للمستهدفين بشكل عام ومعرفتهم بواقعهم ومتطلباته للتنمية من ناحية رابعة، مع الأخذ فى الاعتبار الخصوصية والفروق بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية، وبين المحافظات المستهدفة وبعضها البعض، وبين المجتمعات المحلية من حيث السمات والاحتياجات. هذه المتطلبات لبناء نماذج تنموية، فضلا عن كونها تعنى قدرا كبيرا من التخطيط التنموى والمرونة واللامركزية الإدارية، فإنها تساهم فى تفعيل المقومات والموارد والآليات وتساعد على إشراك كامل وفعال لجمعيات التنمية المحلية المنتشرة فى كل محافظات الجمهورية، مع توفير مظلة لها من الجمعيات الأهلية الكبرى والمؤسسات التنموية الرسمية وغير الرسمية حتى تتكامل هذه المنظومة على مستوى كل قرية، وتصعد حتى مستوى المحافظة. هذا النموذج والآلية التشاركية فى العمل التنموى، تقتضى حوارا على المستوى القومى بين كافة الأطراف والمؤسسات المعنية بتفعيل العمل الأهلي وتنظيماته، وخاصة أن تلك المنظمات فضلا عن كونها ترجمة مباشرة للواقع المجتمعى، فإنها تمثل ركنا أساسيا لتحقيق التنمية بمفهومها الشامل، كما أنها تمثل نواة وجهدا مجتمعيا، يمكن أن يتكامل بوضوح مع رؤية وفلسفة الدولة التنموية، ومشروعها حياة كريمة، ومساراتها الخاصة بتنمية القرية المصرية أو تنمية الأسرة المصرية، فمثل هذه النماذج التنموية بمثابة «روشتة»، ومسار لتجميع الخبرات المجتمعية، وتعظيم للموارد والقدرات، وآليات الشراكة، ومستقبل عملية التنمية وفلسفتها، خاصة تجاه الفئات والأماكن التي حرمت من ثمار التنمية. بمعنى أدق، إن أهمية الحوار الوطنى بمحاوره السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، يمكن أن يساهم فى تفعيل دور القطاع الأهلي كطرف عابر للمحاور والقضايا ذات الأولوية كمرحلة انطلاق. كما أن تعدد نماذج التنمية يعظم من فرص التوافق مع أولويات واحتياجات القرى والمحافظات ومن شأنه أن ينعكس إيجابيا على حركة المواطنين ومسئولياتهم، ويوفر فى الوقت نفسه متطلبات الاستدامة والمحافظة على الاستثمارات والمشروعات. كما أن هذا المنهاج التشاركى يساهم فى حوكمة المقومات والموارد، وتعزيز المسئولية الاجتماعية لرجال الأعمال، فضلاً عن ترسيخ الدور المنظم والمخطط والتنموى للدولة، جنباً إلى جنب مع ما يوفره هذا التكاتف بين الأطراف الثلاثة «الحكومى، والخاص، والأهلى»، من قوة دفع لمواجهة عوامل الإهمال والعشوائية والتشوه، التي تركت بصمتها على القرية المصرية وأهلها وأسلوب العيش فيها، كما تُعد رسالة معبرة عن متطلبات تحقيق العدالة، وتوزيع ثمار التنمية، وتعميق المواطنة، وفعالية المواطن، وعلاقة ذلك كله بقوة الدولة. ب- نموذج لتفعيل مقومات القوى الذكية: يمثل المجتمع المدنى بمنظماته واحدا من أهم وأبرز الأدوات التي تستند إليها الدولة لتحقيق مصالحها الخارجية والمحافظة على مكانتها الدولية، فالأداة المجتمعية والشعبية لم تعد مقصورة على الرؤية والفلسفة القديمة المرتبطة بالتواصل بين الشعوب والمجتمعات فقط من خلال الأطر الثقافية والاجتماعية والفنية، كما لم تعد هذه الأداة مقصورة على الدور التقليدي للقوى الناعمة وقدرتها على التواصل والنفاذ إلى المجتمعات، ولكن المجتمع المدنى أصبح ركنا وأداة فعالة ورئيسية فى تفعيل مقومات القوة الذكية للدولة، وذلك استنادا إلى تغير وتعدد الأدوار وسبل التوظيف، ومن ثم أصبح دور المجتمع المدنى العالمى ومنظماته فى العديد من دول العالم من السمات الداعمة لربط المجتمعات وحركة المواطنين وأفكارهم وثقافتهم وقيمهم، وسبيلا للقوى الكبرى لترجمة سياساتها والمحافظة على مصالحها ومكانتها العالمية وصياغة صورتها الإنسانية والأخلاقية، من هنا كان الاهتمام الكبير لمعظم دول العالم بالعمل على توظيف وتفعيل أنماط بعينها من أنماط التفاعلات غير الرسمية وغير الحكومية ذات الثقل والفعالية وتحديدا التنموية والإغاثية. لذا، تبرز أهمية تعزيز أدوار منظمات المجتمع المدنى المصرى وخاصة فى مجال الإغاثة ومجال التنمية والثقافة واللغة كسبيل للتواصل والتفاعل المجتمعى الدولي. ويمكن الإشارة هنا إلى حالة تطبيقية واضحة وتجاه ملف من أهم ملفات الأمن القومى المصرى والمتعلق بتوجهات وسياسة مصر الخارجية تجاه إفريقيا، وفى القلب منها منطقة حوض النيل على سبيل المثال. ويشير التحرك المصري تجاه دول حوض النيل إلى جملة من المستجدات والمتغيرات الحاكمة لنمط العلاقات البينية والجماعية لدول الحوض. إذ تعكس التفاعلات المصرية تنامي الإدراك بأهمية تكامل أدوات تحركها الخارجي بحيث لا تقتصر على التعاون المائى وعلى المستوى الفنى فقط، وهو ما يتجلى بوضوح فى تنامي حالة النشاط الدبلوماسي والاقتصادي فى الوقت الراهن. الحقيقة الناصعة فى هذا الإطار هى أن المدخل المائي لم يعد هو الإطار والمحدد الرئيسي الحاكم لغالبية التفاعلات المصرية الجماعية تجاه دول الحوض. وقد تجلى ذلك بوضوح فى جولات التفاوض الدائرة حول مبادرة دول حوض النيل منذ عام 2000 وما تلاها من محادثات مع أثيوبيا لمواجهة أزمة سد النهضة، وتقديم المبادرات والأفكار المختلفة الداعمة لحفظ الأمن والسلام فى القارة، ودعم خطط التعاون الاقتصادى، وتبادل الخبرات. ويثير التحرك المصرى بمحاوره المتعددة التساؤل عن حدود إمكانيات دفع المجتمع المدنى المصرى بمنظماته المتعددة ليكون أحد أدوات الدبلوماسية الشعبية الفاعلة، ومساحة لكسر الحواجز النفسية والحساسيات القائمة بين القوى الشعبية والمجتمعية فى بعض دول الحوض، وإدراكها السلبى لقضية تعامل مصر مع ملف المياه. وأيضا حدود التعامل مع المجتمع المدنى كإطار لتفعيل العديد من مكونات القوة الناعمة لمصر ( الكنيسة، والأزهر، والجامعات، والمثقفين، ومراكز الأبحاث، والإعلاميين). اتساقا مع هذه الرؤية، يمكن التأكيد على محورية دور المجتمع المدنى ليس بالنسبة لمصر فقط ولكن بالنسبة لمعظم القوى الدولية والإقليمية فى تفعيل مقوماتها وقوتها الذكية من خلال دور منظمات المجتمع المدنى بمستوياته المتعددة والمتنوعة. فعلى مستوى الرؤية، يمكن التركيز على أهمية إيجاد برامج دائمة للتواصل بين مجتمعات حوض النيل، وإبرازها للهوية الإفريقية المشتركة، والملامح الثقافية والحضارية المشتركة فى حوض النيل والبحيرات العظمى. على مستوى الأهداف، يبقى التواصل بين الشعوب والمجتمعات بين دول حوض النيل، كآلية لتعزيز مناهج التعايش السلمى وتجنب الصراعات، وتغير الإدراكات والصور السلبية التى رسختها العديد من القضايا الشائكة ومنها قضية المياه، وعدم القدرة على التوافق على إيجاد آلية ثابتة لتنظيم التعاون المؤسسى والقانونى فى حوض النيل، ومحددات لإيجاد أطر أوسع للحوار والتفاعل المجتمعى لا تقصر على الحوار الرسمى أو حوار النخبة الحاكمة، بل تمتد إلى صفوف النخب والقيادات الشابة وأيضا القيادات المجتمعية والزعماء التقليديين. وعلى مستوى الآليات الفاعلة، يمتلك المجتمع المدنى المصرى الإمكانيات والقدرات التى يمكن أن توفر له الآليات الفاعلة والمؤثرة فى التواصل المجتمعى مع دول الحوض بشكل عام، وتجاه ملف المياه بشكل خاص. شريطة أن يكون هناك إطار واضح للتعاون والتنسيق بين مكونات المجتمع المدنى المختلفة، وأن يكون هناك طرف -أو أطراف منظمة- تمتلك الخبرة الدولية والمعرفة الإفريقية، وتمتلك أيضا القدرة على الحشد والتنظيم والتواصل مع كافة الفواعل والمؤسسات والجهات المصرية التى تتعامل مع إفريقيا وملف المياه. الصورة السابقة، تعنى بوضوح أن إدخال المجتمع المدني كفاعل رئيسي فى معادلة البناء والإصلاح وباعتباره أحد الفواعل الأساسية، مدخل لا مفر منه لتعبئة موارد الدولة ودفع عجلة التنمية المستدامة. ولزيادة درجات استجاباته للتطورات والمستجدات المجتمعية، فالمجتمع المدنى القوى الراسخ يمكن أن يكون بوتقة لصهر الاختلافات والتباينات والتنافسات التى يشهدها المجتمع، ومساعدا على تجاوز الكثير من التحديات المرتبطة بالفجوة الجيلية والمنظورات المتعددة للدولة والمجتمع والأسرة وانعكاساتها على قضايا: الهوية والمواطنة والشعور بالاغتراب، وقبل ذلك كله يتجاوز سلبيات الضعف التى فرضت تداعياتها على حركة المجتمع وإدراكاتنا للصورة المهتزة لبعض أدوار ومسئوليات المجتمع المدنى التى مست الأمن القومى المصرى. رابط دائم: