البداية:

منذ بداية انطلاق تطبيقات التواصل الاجتماعى بشكلها المعهود، وذلك خلال العقد الأول من الألفية الثالثة وتحديدا عام 2004 لتطبيق الفيسبوك، وهى تقوم بتعميق أثرها وزيادة ارتباط المستخدمين بها وصولا إلى مرحلة الإدمان التى نشعر بها جميعا، وهذا التعميق يتم بصورة ممنهجة ومقصودة وليست عفوية أو تلقائية أو عشوائية، كما قد يظن البعض ولكنها تتم ببطء ومن خلال استراتيجية طويلة الأجل؛ حيث إن البداية البسيطة البريئة فى المقصد سمحت للجميع بأن يتكلم ويعبر ويتواصل بطرق بسيطة مع الأهل والأصدقاء فى الحيز القريب الضيق أو على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، ثم حدث أن تطورت مع زيادة سرعات الشبكات واستقرارها وزيادة انتشار كوابل الألياف الضوئية والأقمار الصناعية وتغطية شبكات المحمول كذا  أيضا انتشار الهواتف الذكية وقلة حجمها وزيادة إمكاناتها فى المعالجة Processingوالعرض و والتخزين والإرسال والاستقبال ما أدى إلى تخطى عدد مستخدمى شبكة الإنترنت حاجز الـ 5 مليارات مستخدم، وتخطى حاجز مستخدمى تطبيق الفيسبوك أكثر من 3 مليارات مستخدم أيضا.

الحاضر والواقع:

لم يقتصر الأمر على ترك المستخدمين للتفاعل بحرية بل تداخل الأمر مع برمجيات - خوارزميات- الذكاء الاصطناعى التى ترصد وتحلل كل ما يقوم به المستخدمون من تفاعلات على تلك الشبكات والوصول إلى رسم صورة لكل مستخدم تتضمن اهتماماته وآراءه وحالاته المزاجية وربطها بالمواقع التى يتنقل بينها ونوعه وسنه ومستواه التعليمى وتفضيلات الشراء لديه من السلع والخدمات وصولا إلى التعرف على حالته النفسية وما يدور فى عقله وما يشغل تفكيره أيضا.

وربما يكون هذا التوجه هو ما سمح لأن تصبح تلك المنصات مساهمة ومساعدة على نمو الاقتصاد الرقمى وحركة التجارة عبر الشبكات العابرة للحدود وذلك للسلع والخدمات المختلفة ووصول حجم هذا الاقتصاد إلى أكثر من 15% من حجم الاقتصاد العالمى، كما أنه مرشح أيضا للزيادة السنوية الكبيرة، بالإضافة أيضا إلى أنها قد أصبحت مجالا خصبا ومساحة رحبة لنشر الأفكار والتوجهات وتغيير القناعات على كل المستويات وفى جميع المجالات، وصولا إلى المعتقدات الدينية والإيمان بالأديان والإيمان بالله أيضا.

هذا الكم المهول من البيانات المولدة فى كل ثانية التى يطلق عليها تعبير "البيانات الكبيرة" تحتاج إلى أدوات تحليل متقدمةتدعى Big data Analysisتقوم باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعى المعقدة والبسيطة من أجل الحصول على نتائج متميزة لهذه التحليلات، ومن ثم توجيه المستخدمين بسهولة ويسر وهدوء أيضا.

هذه التوجهات ومحاولات التغيير يلمسها الجميع بلا استثناء، بعض المتابعين يراها فى منتج أو خدمة يلقى أمامه فجأة بعد أن يكون قد قام بالتحدث عن رغبته فى الحصول عليه لأحد الأصدقاء من خلال أحد تطبيقات التواصل وأحيانا من خلال المناقشات العادية الفعلية - غير الافتراضية - فى وجود تليفون محمول متصل أو غير متصل بشبكة الإنترنت خلال تلك المناقشة.

تغيير القناعات وفرض أيديولوجيات سياسية أو دينية أمر يدركه البعض ويجهله ويقع فى فخه البعض الآخر، ولكن بصورة عامة من النادر أن نجد من يعتقد بأن تلك الشبكات تسير بصورة طبيعية أو عشوائية وأن وجود تلك الآليات الموجهة هو تبنٍّ لنظرية مؤامرة غير موجودة.

ولا يوجد تأكيد أن المستخدم - بكسر الدال - لتلك الشبكات هو فى الحقيقة مستخدم - بفتح الدال - من خلال مشاركته فيها أكثر من أن أدوات التحليل تلك - أو الأبسط منها - محجوبة الاستخدام للمشاركين، فعلى سبيل المثال فى تطبيق الفيسبوك لا تجد واجهة لإدارة الحساب مكتملة توجد بها بيانات ومعلومات تساعدك على استخدامه بالصورة التى ترغب فيها والتى ربما تتعارض مع الأغراض الأصلية أو تتعارض مع سياسات الاستخدام التى تجبرك تلك التطبيقات على الامتثال لها، وهنا وببساطة نجد أن سؤالك عن بعض من تلك البيانات هو سؤال لا رد عليه إلا بالعبارة المقتضبة التى تقول: إن "سياسة الاستخدام لا تسمح".

المسموح والمحجوب:

لنأخذ تطبيق الفيسبوك كمثال، فعلى الرغم من أن القائمين على التطبيق لا يتوقفون عن التصريح بأنه يرعى الحريات ويشجع على ممارستها، كما أنه يحافظ على خصوصية المستخدمين ويحارب كل أشكال خطابات الكراهية والاضطهاد والتنمر والإرهاب والعنف، فإن التطبيق لا يسمح إلا بالقليل من الأدوات التى تساعد على تحقيق ذلك، كما أنه لا يتيح إلا أقل القليل من الإحصاءات عن ساعات الاستخدام – الإجمالية والمقسمة على مدى أيام الأسبوع والشهر- فقط وهى مبادرة من الشركة ولم تأت نتيجة طلب من المستخدمين ولم تقم بها الشركة إلا بعد ارتفاع الأصوات المعارضة لهذا التطبيق التى طالبت بتقنين استخدامه أو التوقف عنه تماما مع تزايد أعداد المصحات العلاجية للتعافى من إدمان شبكات التواصل الاجتماعى بصفة خاصة وشبكة الإنترنت بصفة عامة، حيث تم بالفعل الانتباه إلى الآثار السلبيةلإدمان استخدام الإنترنت Internet addiction disorderعلى الرغم من عدم إدراجه حتى الآن ضمن الاضطرابات المعروفة طبقا لتقسيم منظمة الصحة العالمية أو بالنسخة الخامسة من الدليل التشخيصى والإحصائى للاضطرابات العقلية DSM-5أو التصنيف الدولى للأمراض ICD-11الذى اعترف بالفعل بإدمان الألعاب الإلكترونية كأحد الاضطرابات بالفعل.

هذا على مستوى حسابات المستخدمين العادية، أما بالنسبة للصفحات فإن بعض الإحصاءات تسمح لك بمعرفة أعداد المشاركين ونسب المشاركة من الدول المختلفة والفئات العمرية والنوع، وكذا أيضا أكثر المنشورات إقبالا مع عرض أدوات تسمح بالمزيد من التسويق للصفحة ومنشوراتها من خلال دفع مبالغ مالية واستهداف جمهور بعينه.

أما المستخدم العادى كما سبقت الإشارة فممنوع وغير مسموح له أن يحصل على أى إحصاءات ذات فائدة تساعده فى أثناء رحلة التصفح اليومية التى قد تمتد لساعات كثيرة، فممنوع أن يحصل على إحصاءات عن أكثر المنشورات إقبالا أو أكثر الأصدقاء أو أقلهم مشاركة، كما لا يستطيع أن يعرف من قام بزيارة صفحته وتجول داخلها، أو أن صديقا ما قد قام بإغلاق حسابه أو قام بعمل حظر له إلا من خلال البحث الفردى الممل أو من خلال الصدفة البحتة.

وفى محاولة غير مكتملة قامت بعض الشركاتThird Party بتطوير تطبيقات تدعى قدرتها على استخراج مثل تلك الإحصاءات والبيانات، ولكن فى الحقيقة فإنه لا يوجد منها ما يمكن الاعتماد عليه أو عدَّه دقيقا بدرجة كبيرة، ولذا فلا يجد المستخدم بدا من الاستمرار فى التجول داخل قائمة الأصدقاء، محاولا استخراج تلك الإحصاءات بنفسه وهى محاولات تبوء غالبا بالفشل نتيجة صعوبتها أو نتيجة الشعور بالملل وهو ما يعيد المستخدمين إلى المربع رقم صفر مستسلمين لما تفعله بهم تلك التطبيقات.

ولتأكيد هذا الأمر، فإن البحث البسيط عن أدوات التحليل المذكورة لا يعطينا أى نتائج من خلال موقع الفيسبوك نفسه ولكن مجموعة قليلة من التطبيقات الخارجية انتشرت فى المدة من 2009 إلى 2014 وتوقفت بعد ذلك دون أن تترك أى أثر أو فائدة يمكن للمستخدمين الاعتماد عليها بصورة جدية وفعالة.

تأكيد آخر على رغبة الفيسبوك فى أن يبقَى مستخدموه فى الظلام الدامس ما أعلن عنه بغلق FacebookAnalyticsتماما بنهاية يونيو 2021 وهو الذى كان يتم الاعتماد على بعض الإحصاءات البسيطة التى يقدمها للمستخدمين.

 وعلى أى حال، فإن كل تلك الأمور كانت وما زالت بل ستظل متوقعة فى ظل الاستقطاب البشرى الذى تحدثه تلك الشبكات وما تتركه من تأثيرات فى جميع أنماط التواصل الإنسانى وأشكاله المتعددة، الأمر الذى يحتاج إلى قدر من الضبابية وقلة الإحصاءات والصلاحيات المقدمة للمستخدمين.