لا يزال الداخل الفرنسي مشتعلا، على خلفية عدد من الأزمات أبرزها مجموعة القوانين، التى يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أجل إقرارها وتعميمها، مع فشل الجمعية الوطنية فى سحب الثقة من حكومة إليزابيت بورن، ما ساهم إلى حد كبير فى تعقد الأمور وجعلها أكثر اشتعالا، لينفجر الرأى العام وتخرج التظاهرات فى كافة الأنحاء، ويصيب العاصمة باريس_مدينة النور_ النصيب الأكبر من أعمال الشغب والفوضى، فى مشهد أعاد للأذهان السترات الصفراء، التى اجتاحت البلاد، قبل نحو أكثر من أربعة أعوام.
لم يكن ماكرون أكمل عامه الأول من ولايته الثانية _وتحديدا_ فى نوفمبر العام الماضى، حينما أقدم على مجموعة من الإصلاحات التشريعية والقانونية، أهمها قوانين الهجرة والطاقة، أما قانون سن التقاعد فشكًل المعضلة الأبرز، وبموجب القانون تم رفع سن التقاعد من 62 إلى 64، وخوفا من صعوبة تمريره عبر الجمعية الوطنية، حتى عقب استمراية الحكومة وإفلاتها من مذكرتى سحب الثقة، فإن القانون تم تمريره من قبل السلطة التنفيذية وعبر المادة 49 وتحديدا الفقرة 3، وبموجبها يجوز تمرير القانون دون عرضه على الجمعية الوطنية أو التصويت عليه، حيث اختار ماكرون الآلية الأكثر انسيابية، كونه يدرك تماما صعوبة تمريره سيما من قبل اليمين المتطرف، وبالتزامن مع غياب الأغلبية البرلمانية للرئيس الفرنسي وحلفائه من الوسط واليسار.
غير أن الإشكالية الأساسية تتمثل فى رفض القانون، من قبل قطاع عريض من النقابات العمالية، كونه يفقد معظم العاملين بعض الصلاحيات فى مقدمتها عدم استحقاقهم المعاش التقاعدى إلا عقب المدة المستحدثة مع رفع مدة اشتراكات الضمان الاجتماعى، فحينما أعلن ماكرون عنه وقبيل قدومه للإليزيه، وعد بإصلاح إجراءات التعاقد فقط، ولم يتطرق على الإطلاق إلى رفع عدد السنوات، وبينما أرجعت معظم الاتجاهات أسباب اللجوء لهذا القانون إلى العجز المالى فى الصناديق المخصصة للمتقاعدين بما يتجاوز 10 مليارات يورو، إلى جانب تقدم الأعمار الفرنسية فيما بين الأفراد عموما، إلا أن الأمر لم يكن ببعيد عن أزمات فرنسا الداخلية وتراجع اقتصادها، حيث ارتفعت معدلات الاقتراض منذ العام الماضى بنسبة تخطت1%، واقترب عجز الميزانية من 159 مليار يورو، فى حين بلغ معدل الارتفاع فى التضخم ما يقارب 2,5% على إثر التغيرات فى أسعار الطاقة.
وعلى الرغم من تراجع ماكرون عن إصلاحاته والتى وعد بها إبان برنامجه الانتخابى، وانتهجها عقب قدومه للسلطة عام 2017، وتمثلت فى مجموعة من الإصلاحات الضريبية، حيث تأتى الحصيلة الضريبية ضمن أهم موارد الإيرادات الفرنسية، ويعرف عن النظام الضريبى الفرنسي كونه أكثر النظم الأوروبية قساوة، فتشكل الضرائب كمحصلة أكثر من نصف الناتج المحلى للبلاد، وهو ما قوبل بموجات من الاحتجاجات الواسعة، واجهت الرئيس اليسارى نهايات 2018، برزت على نحو جلى وقتها فيما عرف بالسترات الصفراء، الحركة التى انتقلت من الميدان الرقمى إلى أرض الواقع وشكلت ضغطا يذكر، دفع بالسياسات الفرنسية إلى الاستقرار على مجموعة إجراءات حققت الرضا العام، جاء أهمها رفع الحد الأدنى للأجور مع خفض الضرائب، والأهم بعض الاشتراطات، التى فرضتها الحركة الاحتجاجية بخصوص المتقاعدين، حيث طالبت بضرورة إبقاء السن على 60 عند التقاعد، مع رفع الحد الأدنى للمتقاعدين فى مراعاة الظروف الاقتصادية المتقلبة، كما طالبت الحركة الاحتجاجية بعدة مطالب تعلقت بضرورة تناول إشكاليات البطالة، وإخفاقات قطاعى الصحة والتعليم، والمطلب التقليدى إصلاح النظام الضريبى بما يخدم المواطن الفرنسى، مع حماية الاقتصاد الفرنسي وتعزيز الصناعات التنافسية والتوقف عن السياسات التقشفية، ومن ثم نجحت هذه الحركة فى إرجاع ماكرون عن سياساته الجديدة وقتها، بل وصل الأمر إلى تحركه فى كافة ربوع فرنسا، من أجل الانفتاح على المواطنين وتوضيح مستهدفات السياسات، رغبة فى التهدئة وكسب الرأى العام الفرنسي والأوروبى أيضا.
ماكرون والذى يعاصر نفس الظروف فى هذه المرحلة يعلن تحديه، حتى وإن بدا مغامرا بجزء من تاريخه، ويبدو أن الرئيس الفرنسى فى ولايته الثانية لم يعد يعبأ بمصيره السياسي كونه لم يتراجع بل يواصل المضى تجاه قراراته، وهو الذى أكد بقوله "سنمضى قدما فى الإصلاحات" بغض النظر عن أية دعوات احتجاجية أو مطالبات. بينما كان من الممكن أن يتمهل ماكرون، فطالما مثلت هذه النوعية من الإصلاحات عقبة سياسية على طريق السابقين من رؤساء الإليزيه، وهو نفسه الذى تراجع أمام السترات إلى حد وصل فيه إلى الانفتاح التام على مطالب المواطن الفرنسي، فطالما حاول ماكرون صياغة رؤية إصلاحية شاملة إلا أنه دائما ما يواجه بردود الأفعال السلبية، ومنذ سنوات تمحورت استراتيجيته حول مفاهيم ثلاثة: "الأمن، والاستقرار، ومحاربة الإرهاب"، حتى على المستوى الأوروبي سعى ماكرون كثيرا من أجل ما يعرف بـ"أوروبا رائدة العالم الحر" أو "أوروبا قادرة على حماية سياساتها الدفاعية والتجارية" فى مواجهة الولايات المتحدة والصين.
ويبقى الداخل الفرنسى أيضا ليس بمعزل عن أوروبا والمعطيات المحيطة بها، ومن ثم بإمكان المتابع للشأن الأوروبى فهم كافة هذه المتغيرات، سيما فشل الرئيس الفرنسي فى تمرير استراتيجياته الإصلاحية فى كل المراحل السابقة، وإن لم يتراجع حتى الآن واستمر فى مغامرته السياسية الوحيدة، واضعا نصب عينيه احتمالية النجاح وإصابة الهدف هذه المرة، على أمل أن يعد ذلك إضافة لتاريخه السياسي، فى حال تمكنه من إجراء هذه الإصلاحات الجوهرية طبعا _إن لم يأت بالنتائج العكسية_ فمن وجهة نظره هذه تصورات الحلول.
رابط دائم: