ينظر إلى الإصلاح الهيكلى بوصفه مسار تطوير آليات الاقتصاد بما يناسب تطور النظام الاقتصادى العالمى، الذى تحكمه مراحل نمو وتطور عبر العصور بصورة تحتم على الدول أن تعمل على تبنى مسار إصلاحى دائم حتى لا يتأخر اقتصاد الدولة عن التطورات العالمية.
وتعبر برامج الإصلاح الهيكلى منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضى عن ذلك المسار الذى تعمل فيه الدول عن تطوير آليات اقتصادها لتناسب فكر الاقتصاد الحر بما يتضمنه من محاور منها تطوير سياسات زيادة الطاقة الإنتاجية، وتحسين المنافسة، وكفاءة تخصيص الموارد.
وفى مسار الإصلاح الهيكلى للاقتصاد المصرى نجد أن الدولة تبنت إصلاحات لتطوير جميع القطاعات عبر البرامج الإصلاحية المتتالية منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى، إلا أن هذه الإصلاحات تذبذبت مستويات تنفيذها على أرض الواقع ولم تحقق مستهدفاتها كاملة، وهو الأمر الذى دفع الدولة المصرية إلى اتخاذ مسار متسارع لدفع عملية الإصلاح الهيكلى لمستويات أكثر جرأة وسرعة تعوض ما فات من سنوات التردد.
ومع تأثر الاقتصاد المصرى بتداعيات فيروس كورونا والحرب الأوكرانية، يكون التساؤل هل تعد تلك الأجواء دافعا للإبطاء من مسار الإصلاحات الهيكلية بوصفها تحتاج إلى أجواء أفضل أو الإسراع منها بوصفها آلية لتجاوز التحديات التى تواجه الاقتصاد الذى يدخل عام 2023 متلمسا السبل التى يمكن أن يتجاوز من خلالها تحدياته؟ والمؤكد أن إجابة هذا السؤال ليست بنعم أو لا، وإنما تعتمد على اختيار باقة من الإصلاحات الهيكلية التى تناسب الظرف الحالى لتكون داعما لتجاوز التحديات على المدى القصير.
وبالنظر إلى مسار الإصلاح الهيكلى المصرى نجد أنه تأثر بغياب المعالجة الإصلاحية لبعض القطاعات، وتقادم الفكر الإصلاحى فى قطاعات أخرى، وفقر المعالجة التشريعية اللازمة للإصلاح،وهنا يمكن لنا أن نختار باقة من الإجراءات التى تعالج ذلك بصورة تحقق نتائج جيدة بأقل التكاليف فى المدى القصير، وسنعرض ذلك فى ثلاثة محاور.
المحور الأول-إصلاحات غياب المعالجة الإصلاحية :
لقد بدأت عمليات التحول نحو تحرير الاقتصاد منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى، وقد ارتبط ذلك بالكثير من التحولات الهيكلية التى تستهدف الحد من تدخل الدولة لا سيما فى مجال تخطيط العمل الاقتصادى، والقضية هنا أن الدولة قامت بوقف تدخلها فى بعض القطاعات وتركها لآليات الحرية الاقتصادية دون تنظيم تلك الحرية بصورة تحقق أهدافها، وهو الأمر الذى يحتاج من الدولة القيام بإصلاحات لتنظيم الحرية الاقتصادية للقطاعات التى عانت من خروج الدولة دون تنظيم لواقع ما بعد تخارجها، ومن تطبيقات ذلك:
أولا - فى القطاع الزراعى:
قامت فيه الدولة بإلغاء الدورة الزراعية، وترك الفلاحين يمارسون حريات اختيار المحصول، وتسويقه، وطرق الحصول على المستلزمات الزراعية، وغير ذلك من حريات لم يكن الفلاحون جاهزين لممارستها لا سيما فى ظل حيازات زراعية صغيرة لفلاحين ليست لديهم القدرة على الإنفاق فى مجالات، كدراسة السوق، أو الحصول على الإرشاد الزراعى، أو تطبيق نظم الرى الحديثة، أو التعاقد مع شركات لتأمين مخاطر الزراعة، وغير ذلك من آليات تنظيم الحرية الاقتصادية.
والمقترح الإصلاحى هنا هوإصدار تشريع "اتحاد ملاك الحوض الزراعى".
مفهوم اتحاد ملاك الحوض الزارعى:هو أن يكون لكل حوض زراعى اتحاد ملاك على غرار اتحاد ملاك العمارات السكنية، بحيث يقوم ملاك الحوض الزراعى باختيار مجلس إدارة للحوض تكون مهمته تنظيم الزراعة بالحوض من خلال اختيار نوع المحصول، والشراء الجماعى للمستلزمات الزراعية، وتطوير منظومة الرى، والبيع الجماعى للمحصول، والتعاقد مع مرشدين زراعيين، وشركات تأمين وغير ذلك ما يجعل من الحوض الزراعى منظومة إنتاجية متكاملة.
مزايا المقترح:
1- اختيار نوع المحصول، وتوحيده فى الحوض بعد دراسة جيدة للسوق ما يُمكِّن المزارعين من زراعة المحصول الأكثر ربحية، ويوجد توازنا فى التركيبة المحصولية تناسب احتياجات السوق وتتفق مع السياسات الزراعية للدولة، كما تمكن من تطبيق معايير تصدير المحاصيل.
2- الشراء الجماعى للمستلزمات الزراعية يمكن المزارعين من الحصول عليها بأسعار أقل.
3- عمليات البيع الجماعى للمحصول تحقق ربحا أكبر للمزارعين.
4- التعاقد الجماعى مع مرشد زراعى، وتنظيم عمليات الرى يرفع من الإنتاجية.
5- التعاقد مع شركة تأمين تحد من مخاطر المحصول،كتلفِهِ، أو انهيار أسعاره.
6- إيجاد فرص عمل جديدة فى المجالات التى ترتبط بأعمال اتحاد ملاك الحوض.
تطبيق المقترح:
يطبق المقترح بإصدار تشريع لتنظيم إنشاء وعمل اتحاد ملاك لكل حوض زراعى على غرار قانون اتحاد ملاك العمارات السكنية. والمقترح يمكن أن يطبق ويحقق نتائجه على المدى القصير؛ حيث يمكن إصدار التشريع (خلال الأشهرالستة المقبلة)، والبدء فى التنفيذ مع الموسم الزراعى المقبل فى بداية أكتوبر 2023.
ثانيا- فى القطاع الصناعى:
تخارج الدولة من عدد من الصناعات وتشجيع القطاع الخاص فى مجال اقتحام والتوسع فى الاستثمار بقطاع الصناعة يخلق حاجة لبناء شريحة واسعة من المستثمرين الصناعيين تسد الفراغ الناجم عن تخارج الدولة لإنجاح عملية إعادة الهيكلة. والمحاولات الحالية نلاحظ أنها تركز على تقديم حوافز وضمانات بينما تكمن المشكلة فى محدودية الشرحة المستهدفة من المستثمرين الجاهزين للاستثمار فى القطاع الصناعى.
وهنا نوصى بتبنى برنامج يستهدف مستثمرى القطاع العقارى وقطاع الخدمات والتواصل معهم وتقديم فترات معايشة لهم فى المشروعات الصناعية بما يساعد على إكسابهم الخبرة التى تؤهلهم للاستثمار فى القطاع الصناعى فى إطار برامج متعددة الخيارات الاستثمارية.
ثالثا - فى قطاع التجارة الداخلية:
تخارج الدولة من التدخل المباشر فى الأسواق لا يعنى أن تكون حرية السوق مطلقة، وإنما يتعين أن تقوم الدولة بسياسات تأثيرية لضبط السوق وهو ما تقوم به من خلال آليات كالمعارض المجمعة، والمنافذ الحكومية التى يتم من خلالها تقديم السلع الأساسية بأسعار عادلة، ولكن الأمر يحتاج لأن تكون هناك ابتكارات من داخل فكر الاقتصاد الحر لضبط حرية الأسواق، ومن ذلكنوصى بإقرار منظومة "الإقرار بالأسعار"، وفيها يقدم من يرغب من التجار بإقرار لإدارة التموين التابع لها يحدد فيه أسعار السلع التى يبيعها ويقر بالتزامه بتثبيت تلك الأسعار لمدة معينة، ثم تقوم إدارة التموين بتحليل تلك البيانات وتحديد مكان وجود أقل سعر لكل سلعة، ويكون للمواطن التواصل مع تلك الإدارة لتحديد أفضل مكان للشراء، من خلال زيارة الإدارة بنفسه أو من خلال خطوط التليفون المجانية أو وسائل الإعلام المحلية ووسائل التواصل الاجتماعى وغيرها من طرق الإعلام، على أن تُراقَب التزام التاجر بما أقر به من أسعار من خلال الإدارة التموينية، وهذا النظام يكفل إطارا تنافسياعادلا يقدم أقل سعر للمستهلك وأفضل دعاية مجانية للتاجر.
المحور الثانى -إصلاحات تقادم المعالجة الإصلاحية:
ارتبطت عمليات الإصلاح الهيكلى بالعديد من الأفكار التى تأخر تطبيق بعضها، وتجرى محاولات لتعويض هذا التأخر، ولكن طبيعة تلك الإصلاحات نفسها تحتاج إلى تطوير وتغيير للنظرة الإصلاحية، ففكرة تطبيق الشباك الواحد لتسهيل مهمة المستثمرين قد تجاوزها الزمن لاحتياج المستثمرين إلى الحصول على الخدمات إلكترونيا بدون شباك. ولعل التقدم التكنولوجى السريع الذى يحدث فى السنوات الأخيرة يجعلنا فى حاجة لتطوير الكثير من الرؤى والمشاريع الإصلاحية.
ومن ذلك (مشروع دمج مصلحتى الضرائب على الدخل وعلى القيمة المضافة).
أولا- طبيعة دمج مصلحتى الضرائب لتكوين مصلحة الضرائب المصرية:
يعد دمج مصلحتى الضرائب العامة وضرائب المبيعات أحد محاور برنامج الإصلاح الهيكلى منذ تسعينيات القرن الماضى، على أساس أن تعامل الممولين مع مصلحة واحدة يسهل عليهم العمل ويقضى على التضارب المحاسبى، والبيروقراطية الإدارية.
وقد استمرت خطوات الدمج لسنوات تركز على دمج الهيكل الإدارى، ودمج المقرات ليكون هناك مقر مشترك للعاملين بفرعى الضرائب، وهذا النموذج أصبح يحتاج لإلى إعادة نظر للأسباب الآتية:
1- فرضت التكنولوجيا الحديثة واقع الاحتياج إلى التواصل الإلكترونى مع جهاز الضرائب، وليس مجرد الوصول إلى فرعين فى مقر واحد.
2-التكلفة المرتفعة لتوحيد المقرات تجعل من الدمج الإلكترونى بديل أقل تكلفة من توحيد المقرات.
3-لم يُغير الدمج العضوى من أن الممول يتعامل مع كل ضريبة حسب طبيعتها، فيقدم الإقرار سنوياعن ضرائب الدخل، وربع سنوى عن ضريبة القيمة المضافة، ويتفاوض مع موظفين مختلفين فى مجال الاتفاق على كل ضريبة.
4-الدمج العضوى وإن كان له دور فى تنظيم وتوحيد المحاسبات الضريبية فإنه ليس له دور كبير فى ضم الاقتصاد غير الرسمى فى ظل محدودية أعداد الموظفين وكبر سن معظمهم.
ثانيا- المقترح"مد النطاق الزمنى للدمج العضوى والتركيز على الدمج الإلكترونى"..
أ-مفهوم المقترح: مد النطاق الزمنى للدمج الإدارى لترشيد النفقات التى توجه إلى تدبير وتطوير مقرات جديدة، وتوزيعها على سنوات أطول، بينما يتم الإسراع بالدمج الإلكترونى فى ذات المقرات القائمة بما يتيح تبادل البيانات بين ضرائب الدخل وضرائب القيمة المضافة.
ويعزز من إمكانية تطبيق المقترح ما قامت به مصلحة الضرائب المصرية من خطوات ميكنة طبقت من خلالها منظومات الفاتورة الإلكترونية، وتقديم الإقرارات الضريبية إلكترونيا، وغيرها من الإجراءات الإلكترونية التى حال تمام تنفيذها سيكون تعامل الممول مع الضرائب من خلال موقع إلكترونى واحد، وستتوحد المحاسبة وفقا لتبادل بيانات إلكترونى يجعل من وحدة المقرات هدفا غير عاجل، ما يرشد النفقات، ويمكن المصلحة من توجيهها لأوجه أكثر نفعا فى ضم الاقتصاد غير الرسمى، ومنها إجازة استقبال المكلفين بالخدمة العامة من الشباب وتدريبهم لقضاء مدة خدمتهم فى نزول الشارع لحصر أنشطة الاقتصاد الرسمى مقابل مكافأة يحصلون عليها خلال قضائهم فترة الخدمة العامة.
ب-مزايا المقترح:
1- ترشيد نفقات تجهيز مقرات جديدة لدمج فرعى الضرائب وترحيلها على عدد أكبر من السنوات.
2- تقديم مزايا التعامل الإلكترونى للمولين لتجاوز فكرة استقبالهم فى مقر واحد.
3- ضم الاقتصاد غير الرسمى بتوجيه جانب من النفقات التى تم ترشيدها للشباب المكلفين بالخدمة العامة حال السماح لهم بقضاء فترة خدمتهم العامة فى مصلحة الضرائب بمجال ضم الأنشطة غير الرسمية بعيدا عن مجالات الضرائب ذات الطبيعة الفنية والسرية التى سيتعزز العمل بها بنقل عدد من العاملين الفنيين إليها بعد أن يحل محلهم المكلفين بالخدمة العامة.
ج-تطبيق المقترح:يطبق المقترح من خلال اتخاذ قرارات بشأن:
1- إطالة الجدول الزمنى للدمج مقرات الضرائب، وتقصير الجدول الزمنى للدمج الإلكترونى.
2- إلحاق عدد مناسب من الشباب المكلفين بالخدمة العامة لمصلحة الضرائب فى مجال حصر أنشطة الاقتصاد غير الرسمى.
المحور الثالث-إصلاح صناعة التشريعات الاقتصادية:
ارتبطت عمليات الإصلاح الهيكلى بإصدار تشريعات تنظمها، ولكن تلاحظ أن الكثير من تلك التشريعات لم تحقق أهدافها، فاصطدام قانون الشهر العقارى الجديد بالواقع يشير إلى خلل فى صناعته، وتكرار تعديل قانون التصالح فى مخالفات البناء يشير إلى عدم مناسبته من البداية للقيام بدورة الإصلاحى، وتعديل قانون الإجراءات الضريبية بعد أسابيع من إصداره يشير إلى خلل فى صناعة التشريع الحكومى، كما أن عدم تحقيق المستهدف من إصدار تشريع لإتاحة إدخال سيارة للعاملين بالخارج مقابل وديعة يعنى أنه ومع مناسبة الفكرة إلا أن تنفيذها افتقر للدراسة الجيدة، وسنعرض أبعاد تلك المبادرة كحالة تطبيقية.
مبادرة سيارات المصريين بالخارج بالقانون 161 لسنة 2022
أ- طبيعة المبادرة، وأسباب عدم تحقيق القانون الصادر بها لهدفه
مبادرة السماح للمصريين بالخارج بإدخال سيارة مقابل وديعة هى مبادرة جيدة كفكرة، ولكن تشريع تطبيقها لم يراعتكلفة الفرصة البديلة المتاحة للمصريين بالخارج، فهم لديهم ميزة إدخال سيارة بجمارك مخفضة بنسبة 50% بعد مرور خمس سنوات من تملكهم للسيارة، وفقا لقانون الجمارك.والمبادرة تلزمهم بإيداع قيمة جمرك السيارة بنسبة 100% كوديعة لمدة 5 سنوات، ووفقا لأسعار الفائدة الجارية فإنه كمتوسط تصل إلى 20% بمعنى أنه إذا قام المصرى بتحويل قيمة الجمرك بالدولار للجنيه ووضعه وديعة لمدة خمسة سنوات، فإنه سيربح ضعف المبلغ، ثم يقوم بسداد نصف قيمة جمرك السيارة ولا سيما أن معظم المصريين ليسوا فى عجلة لإدخال سيارة مع وجودهم بالخارج.
ب-المسار البديل لصياغة المبادرة تشريعا (كمقترح لإصلاحها تشريعا):
1- المبادرة يمكن لها أن تكون أكثر نجاحا إذا ربطت بعدد سيارات، بأن تكون متاحة لأول 200 ألف طلب فقط، هنا كان سيكون هناك سباق فى التقدم، بينما ربطها بمدة معينة جعل المخاطبين بها ينتظرون لآخر وقت، وتراجع عدد المتقدمين يصيب الآخرين بمزيد من التردد.
2- المبادرة تمت صياغتها فى قانون مستقل، وارتبط بها إنشاء منظومة مرتفعة التكلفة معقدة الشروط اللازمة للاستحقاق.
3- كان من الأولى أن يكون دخول السيارات، وتحديد قيمتها بذات القواعد والنظم المقررة عند دخول سيارات المصريين بالخارج فى الظروف الطبيعية.
4- قانون المبادرة قدم بديلا واحدا، وهو إدخال سيارة مقابل وديعة، كان يتعين أن تخلق أكثر من بديل حتى تتناسب مع شرائح أكبر، كالسماح بإدخال سيارة بسداد جمرك نسبته 50% فورا دون انتظار مدة السنواتالخمس إلى جوار البديل المرتبط بالوديعة.
وإجمالا وفى مجال إصلاح صناعة التشريعات الاقتصادية، نوصى بالآتى:
1-الدراسة الجيدة لأبعاد التشريع الإصلاحى وتكلفته الاقتصادية لكى يناسب فلسفة الإصلاح ويكون قابلا للتطبيق على أرض الواقع، والبعد عن سياسة التجربة والخطأ فى مجال التشريع.
2-عدم اشتراك أى موظف بالحكومة فى إعداد مشروعات تعديل قوانين لم تنجح، إذا كان قد سبق مساهمته فى صناعتها بالمرة الأولى، ويطبق ذلك أيضا على اللوائح التنفيذية.
3-التصدى السريع بصورة أكثر كفاءة لتعديل القوانين التى لم تحقق أهدافها،مثل: تشريعات المزايا الضريبية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، وقانون مبادرة السماح بإدخال المصريين بالخارج لسيارة مقابل وديعة، وقانون ضمانات وحوافز الاستثمار.