فى عالم يواجه مخاطر عدة وتحديات عديدة وانتهاكات مستمرة ليس فقط لحقوق الإنسان المادية وإنما لحقوقه الفكرية أيضا، أثار استخدام الذكاء الاصطناعى وتطوراته المستمرة إشكاليات عدة تتعلق بحقوق المؤلف، فقد أدت التطورات المتسارعة فى مجال البرمجة إلى أن أضحت الآلة قادرة على إنتاج أعمال إبداعية مثل: الرسومات، والمعزوفات، والمقالات، والتحليلات، بل الدراسات وإعداد الكتب والمذكرات، من خلال الاعتماد على ما تنشره العقول البشرية من إبداعات متنوعة ومتعددة، يحتاج إليها القائمون على برامج الذكاء الاصطناعى فى تغذية هذه البرامج بالمعلومات والبيانات على غرار ما قام به باحثو الذكاء الاصطناعى فى شركة "جوجل" عام 2016، حينما اعتمدوا على نسخ ما يتجاوز 11 ألف رواية دون إذن من أصحابها بهدف تدريب برامج الذكاء الاصناعى على استخدام الجمل وإنتاج جمل مترابطة، وقد أطلقوا على هذه العملية عنوان "مساعد جوجل " (Google Assistant).
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أثارت التطورات الأخيرة فى هذا المجال، أو ما عرف "روبوت الدردشة(Chatbot)"، الجدل والنقاش لدى الجميع حول مستقبل العمل الإبداعى وكيفية حمايته؛ حيث كشفت تقنية المحادثة الذكية التى دخلت طورا جديدا من التحديث على يد منظمة OpenAIالتى يرجع تاريخ تأسيسها إلى عام 2015، وبدعم من رجل الأعمال الأمريكى إيلون ماسك (Elon Musk)، حيث صدرت النسخة التجريبية الأخيرة من برنامجChatGPTفى نهاية نوفمبر الماضى (2022)، وهو عبارة عن برنامج محادثة توليدية مدرب مسبقا بواسطة التعلم الآلى والتعلم العميق، يستخدم ما يطلق عليها تكنولوجيا "فهم اللغة الطبيعية"Natural language understanding (اختصاراNLU)حتى يتمكن من تمييز حاجة المستخدم، ويعتمد فيما يقدمه من معلومات وتحليلات على بيانات الكتب المدرسية، والمواقع الإلكترونية، والمقالات المختلفة، التى يستفيد منها فى نمذجة لغته الخاصة استجابة للتفاعل البشرى.
ومن ثم، فقد توسع دوره ولم يعد مقصورا على مجرد تقديم المعلومات العامة، بل يمكن الاستفادة منه فى كتابة المقالات والتحليلات والأبحاث والكتب العلمية والأدبية، وفى البرمجة والتصميم والاستشارات الطبية والمجالات الاستشارية المتخصصة. وما لفت الانتباه فى هذا التطبيق الجديد أنه من أسرع التطبيقات انتشارا، فبعد شهرين فقط من إطلاقه فى أواخر نوفمبر كما سبقت الإشارة، استقطب هذا البرنامج 100 مليون مستخدم نشط شهريا حسب إحصاءات شهر يناير الماضى، وهو ما أعلنته شركة التحليلات "سيميلار ويب"، وأكدت ذلك أيضا الدراسة التى أجراها بنك "يو بى أس" السويسرى وخلصت إلى أنه: "فى 20 عاما من التداول على الإنترنت، لا يمكننا أن نتذكر ارتفاعا أسرع مما حققه هذا البرنامج الخاص بالمستهلكين".
لذا، فقد أدى هذا الصعود المذهل للتطبيق الجديد ردود فعل عدة لدى الخبراء والمتخصصين بل المستخدمين حول إمكاناته التنفيذية، كما أثار الأمر كذلك تساؤلات بشأن قانونية العديد من إجراءاته، كان أبرزها تلك المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية؛ حيث برزت إشكاليتان ترتبطان بهذه العلاقة، وهما:
الإشكالية الأولى- تتعلق بالإجابة عن التساؤل القائل: هل يجوز استخدام المصنفات الفنية لتدريب الذكاء الاصطناعى دون إذن مالك الحق أم أن هذا يعد انتهاكا لهذا الحق؟ وفى إطار الإجابة عن هذا التساؤل برز توجهان: الأول، رأى أن عمليات النسخ لتدريب الذكاء الاصطناعى تعد انتهاكا لحقوق المؤلف، بما يستوجب معه الحصول على الإذن من أصحاب الحقوق، أو الحصول على ترخيص بالاستخدام لإجراء عمليات التدريب، ومن أبرز المعبرين عن هذا الرأى أصحاب ملكيات فكرية أو من ممثلى الجهات الحكومية. ويستند أنصار هذا الرأى إلى ما ورد فى المادة الأولى من نظام حماية حقوق المؤلف فى تعريفها لمفهوم "النسخ" على أنه: "إنتاج نسخة أو أكثر، من أحد المصنفات الأدبية، أو الفنية، أو العلمية على دعامة مادية، بما فى ذلك أى تسجيل صوتى، أو بصرى". ووفقا لهذا النص، فإن نسخ العمل بأكمله أو جزء منه بأى شكل مادى يعد من النسخ الممنوع بغض النظر عن الغرض من استخدامه.
وعليه، يصبح استخدام المصنفات الفنية فى عملية تدريب الذكاء الاصطناعى انتهاكا لحق المؤلف. التوجه الثانى، يرى أن النسخ لغرض التدريب فى هذا الشأن لا يعد من قبيل انتهاك حقوق المؤلف، ومن ثم لا يتطلب ذلك الحصول على الإذن من أصحاب المصنفات الفنية التى يمكن نسخها، ومن أبرز المعبرين عن هذا الرأى مطورو تقنيات الذكاء الاصطناعى وداعموهم.
ويستند أنصار هذا الرأى إلى حجج سياسات الاستخدام العادل واستثناءات النسخ فى نظام حقوق المؤلف؛ حيث يرون أن ثمة تشابها بين عمليات النسخ الجائز قانونيا للمصنفات دون إذن مالك الحق من قبل الإنسان الذى يحتفظ بها فى عقله ويستخدمه استخداما شخصيا، وتلك التى يمكن أن تحدث من جانب الذكاء الاصطناعى؛ حيث يمكن الاحتفاظ بالمصنفات الفنية والتدريب عليها واستخدامها استخداما شخصيا.
وفى حقيقة الأمر، نرى أن الرأى الأول هو الأقرب إلى الواقع العملى فى كيفية الحفاظ على حقوق المؤلف، نظرا لضعف الحجج الذى يثيرها أنصار الرأى الثانى من حيث محاولة القياس على حالة الاستثناء الممنوحة للفرد فى الاحتفاظ بالمصنفات الفنية فى عقله واستخدامها على المستوى الشخصى، إذ إن القياس هنا لا يجوز نظرا لأن احتفاظ الذكاء الاصطناعى بهذه النسخ إنما يستفيد منها فى تقديم مخرجات جديدة، بعيدا عن مفهوم الاستخدام الشخصى، الأمر الذى يعنى ترجيح كفة الرأى القائل بأن تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعى يتطلب عملها الحصول على إذن مسبق فى استخدام المصنفات المحمية بنظام حقوق المؤلف.
الإشكالية الثانية- تتعلق بالإجابة عن التساؤل القائل: هل تكون مخرجات تطبيقChatGPTمحمية بقوانين حقوق المؤلف، أم أنها تعد من المشاع العام المتاح استخدامه للجميع؟ بمعنى أنه على سبيل المثال إذا ما أنشأ التطبيق قصيدة شعرية أو مقالا تحليلا، هل يحق لأحد الأشخاص أن ينشدها أو ينشره ويحصِّل من هذا الإنشاد أو النشر أرباحا؟ ما يعنى أننا سنكون إزاء جدلية قانونية تتعلق بوضعية مخرجات التطبيق هل هى محمية بمقتضى قوانين الملكية الفكرية أم لا؟ والإجابة عن هذا التساؤل يترتب عليها ما إذا كنا سنحتاج من أجل استخدام مخرجات التطبيق إلى أخذ إذن مسبق بالموافقة على توظيف هذه المخرجات والحصول منها على أرباح أم لا؟
ومما يزيد الأمر تعقيدا أن البحث عن إجابات لهذه التساؤلات يدخلنا فى تساؤلات فرعية أخرى؛ إذ إننا حينما نضع إجابات نجد أنفسنا أمام احتمالين: الأول، أنه يحق للفرد استخدام مخرجات الذكاء الاصطناعى دون الحصول على إذن مسبق. ولكن المشكلة تكمن فى أنه فى هذه الحالة لن يكون هناك دافع لدى مطورى برامج المحادثات الذكية للعمل مجددا من أجل التطوير؛ لأن الأمر فى هذه الحالة لن يحقق لهم عوائد؛ حيث تصبح مخرجاتهم متاحة للعموم دون عوائد ما يؤثر بلا شك فى عمليات التطوير والتحديث المستهدفة فى هذا الشأن. الثانى، أنه لا بد من أن نحصل على الإذن المسبق لتوظيف منتجات التطبيق. وهنا يثار التساؤل؛ لمن سيكون هذا الحق، هل لمالك الأداة أم للمطور أم للمستخدم الذى أدت كتابة أسئلته وتعليماته فى التطبيق إلى الحصول على هذا النص الأدبى أو المقالى؟
وفى إطار الإجابة عن هذا التساؤل تبرز ثلاثة احتمالات أخرى على النحو الآتي:
1 - إسداء هذا الحق إلى مالك التطبيق ذاته، ما يعنى احتكاره لجميع الحقوق بمفرده دون أن تشاركه الأطراف الأخرى فى هذا الحق، ليخالف بذلك جوهر فكرة حقوق المؤلف؛ لأن دار النشر التى تولت نشر الكتاب أو المنصة الإلكترونية التى تولت نشر المقال لا تملك كامل الحق بمفردها، وإنما يظل للمؤلف حق أصيل فى هذا الخصوص؛ لأنه كيف يكون لمالك الأداة حق على مصنف لم يبدعه طبقا للشروط الواردة فى حماية حق المؤلف.
2- إسداء الحق إلى مطور التطبيق، كونه صاحب الفكرة ومحدثها، ما يعنى أننا سنشهد احتكار كثير من الإبداعات الممكنة من ناحية، كما أنه ليس مبدعا للمصنف من ناحية أخرى.
3 - إسداء هذا الحق إلى مستخدم التطبيق لأن توجيه الأسئلة والتعليمات للذكاء الاصطناعى (التطبيق المستخدم) يعد بمنزلة عملية تأليف، ولكن هذا الأمر يواجه إشكالية تتعلق بمدى اعتمادنا لمخرجات هذا التطبيق، فهل يعد بحثا دقيقا معتمدا؟ فعلى سبيل المثال حينما يعتمد الطالب على مثل هذا التطبيق (الشات جى بى تى) فى إعداد بحث أكاديمى، هل نقبله كنص مبدع يمارس عليه حقوق ملكيته الفكرية والابداعية أم يعد مثل هذا العمل البحث غير مهنى وغير مقبول؟
فى ضوء هذه الإشكالية المتداخلة والمتشابكة، تبقى أهمية البحث عن مقاربة جديدة تتعلق بضرورة بناء بيئة تشريعية واضحة لتنظيم كيفية الاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى مجال الإبداع؛ إذ من الأهمية بمكان أن للاتفاقات الدولية والتشريعات الوطنية المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية بصفة عامة وحقوق المؤلف على وجه الخصوص دورا فى هذا المجال، نظرا لتقاطع طبيعة عمل هذه التقنية ومخرجاتها مع أحكام حماية حقوق المؤلف.
وهنا تبقى المسئولية الأولى على عاتق اللجنة الدائمة المعنية بحق المؤلف والحقوق المجاورة فى المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الوايبو)، فى ضرورة التوصل إلى مبادئ عامة منظمة ومقننة لاستخدامات مثل هذه التطبيقات الذكية، بما يفتح المجال أمام التشريعات الوطنية لوضع منظومة متكاملة من الحماية لحقوق المؤلفين من ناحية، مع عدم الإضرار بالمصالح والمنافع الاقتصادية التى يمكن أن تتحقق من استخدامات مثل هذه التطبيقات من ناحية أخرى؛ إذ إنه من الضرورى الأخذ فى الحسبان أن تأثيرات مثل هذه الاستخدامات لن تقتصر على الجوانب الإبداعية والحماية القانونية لها فحسب، بل تحمل تأثيرات اقتصادية واجتماعية عديدة؛ حيث يرى كثيرون أن مثل هذه التقنيات من شأنها أن تقضى على كثير من مجالات الأعمال منها على سبيل المثال الاستغناء عن عدد كبير من الباحثين والأكاديميين والصحفيين والمبرمجين والمصممين، ما يؤثر بدوره فى سوق العمل خاصة فى الدول النامية التى تعانى أسواقها تفشى للبطالة وارتفاع معدلاتها بما تحمله بذلك من تأثيرات سلبية عدة فى الأمن المجتمعى.
لذا، أضحت ثمة أهمية لتوجيه المزيد من الدراسات حول المخاطر المتوقعة بعد التطورات التى شهدتها مثل هذه التطبيقات الذكية التى لم يكن تطبيق الشات جى بى تى الأول من نوعه ولن يكون الأخير؛ إذ تزخر الساحة بظهور تطبيقات أخرى منافسة تحاول أن تجذب شريحة من الجمهور وإن ظلت المنافسة بينهما فى بداياتها.
خلاصة القول إنه رغم كل المخاوف التى أثارها البعض بشأن التوسع فى استخدام الشات جى بى تى، سواء تعلقت تلك المخاوف بأبعاد اجتماعية أو اقتصادية أو أمنية وسياسية، فإن هذه المخاوف تتراجع حينما نعلم أن التقدم التكنولوجى لن يتوقف عند مرحلة تقديم مصنفات ونصوص آلية تضاهى العمل البشرى دون القدرة على التمييز بينهما، وهو ما فعلته الشركة التكنولوجية المطورة لمنصة الدردشة شات جى بى تى؛ إذ نجحت فى تطوير برنامج يستطيع التمييز بين النص المكتوب آليا باستخدام الذكاء الاصطناعى والنص البشرى الذى قدمه إنسان حقيقى، وذلك ردا على المخاوف المتزايدة من إغراق الإنترنت بنصوص غير دقيقة مكتوبة آليا دون إمكانية تمييزها عن النصوص التى كتبها مستخدمون طبيعيون، ما يعنى أنه سيظل الإنتاج البشرى له التميز والتفرد بل الإبداع رغم التطورات التى يمكن أن تشهدها الإنسانية فى مجال المحاكاة لفكر البشر وإبداعه، فمحاكاة السلوك العملى أمر سهل، أما محاكاة السلوك الفكرى والإبداعى تظل بعيدة المنال مهما تقدم الإنسان فى توظيف التكنولوجيا وتطويرها، وهى نتيجة طبيعية لأن الإنسان هو المبدع لكل التكنولوجيات، فكيف يمكنها أن تسبقه فى الإبداع وإن سبقته فى الأداء؟!